بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- رغم ما تعيشه البشرية اليوم من مدنية وحضارة، وضعت للعلم والمعرفة وللعقل الإنساني المكانة الأولى، ما زال بعض المتمسكين بالخرافة وتحريف القيم الدينية في المنطقة، وخصوصاً العراق، منقادين للأساطير اللاهوتية، رغم أضرارها اليومية المباشرة على حياتهم وحياة من حولهم. من الطبيعي أن يحتفظ الفرد لنفسه بما يعتقد به من أديان ومذاهب، لكن أن تتحول مثل هذه المعتقدات على يد زعماء يدّعون الدين والمذهب، إلى أنظمة حكم سياسية مدمرة للحياة والناس، فهو أمر يثير الحزن والخيبة.
ما زال البعض ومن بينهم مثقفون ومتعلمون، داخل العراق وخارجه، يعتقدون أن بعض الزعامات الشيعية غير العربية هي في منزلة ترقى إلى القداسة الألوهية، لا يمكن المساس بخطاياها السياسية والاجتماعية، مثال ذلك النظر إلى المرجع الشيعي الإيراني الهندي الأصل “الخميني”، الذي تحول إلى حاكم سياسي لإيران بفعل ثورته “المدّبرة”، لكنه حمل مشروعاً لتصدير ثورته التدميرية إلى العالمين العربي والإسلامي، في حين دخل شعب إيران العريق في ظل نظامه نفق الفقر والحرمان من أبسط مقومات الحياة “الخبز والحرية”.
أكثر الشعوب التي لحقتها أضرار نظام الخميني هو شعب العراق بعد شعوب إيران، وبسببه وقوع أبنائه، في غفلة من الزمن، تحت حكم أحزاب بعضها لا يعلن الولاء لنظام طهران، وبعضها الآخر يجاهر بذلك، لا يهمه قتل الآلاف بل الملايين من أجل عقيدة متحجرة بديلا عن المدنية والتحضر والبحث عن سبل المعرفة والتنمية.
هؤلاء الواقعون تحت أوهام الخرافة وزيف الإسلام السياسي لن يتزحزحوا عن مواقعهم المدمرّة إلا بعد صعقات متواصلة من صدمات المعرفة الحقيقية بسياسات نظام الخميني وحقائقها، ولعل ثورة تشرين – أكتوبر العراقية واحدة من تلك الصدمات العنيفة، ولهذا السبب الجوهري جعلوا من شبابها هدفاً للموت. لكنها ليست السبيل الوحيد لإزالة الغشاوة من العيون، وتخليص العراقيين من هذا البلاء.
وهنا تصبح الحاجة ماسة إلى جهود وطنية سياسية وثقافية وإعلامية متواصلة، لا تستهدف العداء للشعوب الإيرانية ولمعتقداتها، بل لمناصرتها إلى جانب شعب العراق للخلاص من هذا الوباء، وكشف الحقائق السياسية لرموز النظام الإيراني الذي أسسه الخميني والقائم على الحقد والانتقام من العراق والعرب.
من بين الحقائق التاريخية، المجرّدة عن أية دوافع وأغراض مذهبية، تتكشف في وسائل الإعلام والصحافة، بين آونة وأخرى، فصول من رعاية نظام صدام للخميني، وتظهر عداءه القومي لشعب العراق الذي آواه كضيف لمدة 14 عاماً، حيث اضطر صدام، وفي خطأ سياسي قاتل، إلى طرده من البلد تحت ضغط متطلبات العلاقة الاضطرارية ما بين النظامين العراقي والشاهنشاهي، بعد اتفاقية الجزائر عام 1975.
من المفيد التذكير ببعض الوقائع التي تشير إلى أن الخميني حمل من الحقد على نظام صدام ما جعله يضع في عقله مهمة الانتقام منه ومن العراق، قبل اهتمامه بخدمة الشعوب الإيرانية ونقلها من استبداد حكم الشاه وظلمه إلى حالة الرفاه والحرية والأمان، التي لم يتنعم بها، حيث تعيش اليوم أقسى حالات الفقر والجوع، فيما تسخّر المليارات من الدولارات لصناعة أدوات الموت والدمار الشامل من صواريخ ومشاريع للقنبلة النووية ورعاية الأدوات الميليشياوية داخل العراق وتهديد أمن بلدان الخليج.
أكثر الذين اهتموا وفوجئوا بانقلاب العلاقة بين صدام حسين والخميني والتحول المفاجئ من الرعاية والضيافة إلى العداء، وما حصل من تداعيات الحرب بين طهران وبغداد هم الساسة الأميركيون ورجال مخابرات الـ”سي.آي.أي” وباحثون.
يعترف مسؤول مكتب إيران في المخابرات الأميركية عام 1978، برويس رايدل، أن المخابرات العراقية ساعدت الخميني في إدارة عملية تخريب سرّية من النجف ضدّ الشاه، “أبعد صدام الرجل الذي كان يعمل لسنوات ضد الشاه قبل لحظة انتصاره وكان ذلك خطأ فادحاً”.
وهو يشير إلى قيام المخابرات العراقية بإدخال التسجيلات الصوتية لأحاديث الخميني وتوجيهاته إلى مناصريه داخل إيران.
تساؤلات تبدو منطقية في سياق التعرف على الأسرار الكامنة وراء انتقام الخميني من العراق، وهل كان السبب هو الطلب منه مغادرة العراق، فقد سبق لتركيا أن طردته ورحّب العراق به ضيفاً ولم يشن عليها حرباً انتقامية عبر أدواته مثلما فعل مع العراق، كما أن الكويت لم تسمح له بالدخول إلى أراضيها. ثم دخل الفرنسيون على الخط بشكل مفاجئ، فاستقبلوه ووفروا له الرعاية ومكنوا بطريقة ملفتة وسائل الإعلام والصحافة العالمية لنقل أحاديثه ودعوته إلى إسقاط نظام الشاه.
انتشرت في الأيام الأخيرة على المواقع الإعلامية قصة رواها مدير مكتب المتابعة السابق لصدام حسين، كريم فرمان، حول رغبة صدام في معرفة موقف الخميني تجاه العراق إذا ما وصل للسلطة، وأمره بالسفر إلى باريس للالتقاء بالخميني بمعية علي رضا باوة، وهو رفيق صدام القديم الذي عمل لسنوات مشرفاً على الجهاز الأمني لحماية الخميني خلال إقامته في مدينة النجف العراقية، وسبق أن كلّفه صدام بنقل جثمان مصطفى ابن الخميني ودفنه في العراق تأكيداً على صدق الضيافة والرعاية.
قال علي رضا لصديقه القديم الخميني، خلال مقابلته له التي سجلها بصورة سرّية كريم فرمان حسب روايته “إن شاء الله تكون في طهران قريبا، وأكيد راح تكون علاقتك مع العراق الجار وبلد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأرض الأئمة الأطهار زينة وطيبة ونستبشر بك خيرا، امتقع وجه الإمام ليرد، لا لا أبدا، أول شيء سأقوم به إن عدت لإيران هو إسقاط صدام والبعث الكافر وتحرير شيعة العراق من الظلم”!
كانت هذه الواقعة المباشرة دافعاً كبيراً لصدام حسين لاختيار الهجوم كوسيلة للدفاع، فجهز نفسه وجيش العراق وشعبه سياسياً وعسكرياً وإعلاميا للدخول في الحرب، ولم يكن ملفّ الحدود هو المفجّر لتلك الحرب الملعونة، معتقداً ووفق استشارات بعضها إيرانية معارضة بأن الطريق ممهد لإسقاط حكم الخميني قبل أن يسقطه هو بالتعاون مع الأميركان.
الواقعة الأخرى، من بين الوقائع التاريخية الكثيرة، التي تكشف كذبة الدفاع عن القضية الفلسطينية، رواية وزير الإعلام الأردني الأسبق صالح القلّاب، الذي رافق وآخرون من القيادات الفلسطينية ياسر عرفات في أول زيارة له لطهران بعد أيام من انتصار ثورة الخميني، ونُقِلَ عن عرفات عدم ارتياحه من مقابلة الخميني، فعندما طلب منه خلال الجلسة إعادة الجزر الإماراتية الثلاث “طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى” كـ”عربون” علاقات جديدة عربية – إيرانية، فوجئ ياسر عرفات بقول الخميني “إنها إيرانية وإنها ستبقى إيرانية إلى يوم القيامة”.
كما بذل أبوعمار جهداً لتحسين العلاقات بين العراق وإيران، بعد هذه الثورة، لكنه فشل في ذلك بسبب رفض الخميني الحاسم، ما أدى إلى انحياز أبوعمار إلى العراق في حرب الثماني سنوات الإيرانية العراقية.
مفيد للجيل العراقي الجديد معرفة الحقائق التاريخية التي تؤكد بأن الخميني ونظامه وجدا الفرصة التاريخية لاقتلاع كيان العراق كدولة عربية مستقلة، وتحويله إلى تابع ذليل للإمبراطورية المغلّفة بالدين والمذهب بعد انتصار ثورة الخميني، الذي “يقدسه” بعض المتخلفين، وهو من أفتى بإزاحة نظام صدام حسين وتدمير العراق، حتى وإن لم يتحقق له هذا الهدف في حياته، بعد اعترافه تجرّع كأس السم لإذعانه بوقف الحرب، حيث مات بعدها بسنة، ليتحقق بعد ذلك في سياسات خلفائه وموالي عقيدته المدمرّة. فهل يستفيق البعض ممن يقدّسون الحاقدين على العراق والعرب ويعودون إلى رشدهم؟