الرئيسية / الرئيسية / السلطان العثماني الذي غير أمريكا

السلطان العثماني الذي غير أمريكا

BY:  Alan Michael – The Washington Post

أمريكا والبروتستانتية والقهوة لها تاريخ إسلامي

الشرق اليوم- لا يعرف معظم الأمريكيين أن فنجان قهوتهم الصباحي يربطهم بالإمبراطورية العثمانية. وقلّة هم من يدركون أن هذه الدولة الإسلامية ساعدت في ولادة المذهب البروتستانتي – الذي يُعدّ الشكل السائد للمسيحية في أمريكا- أو أن المستكشفين الأوروبيين الذين “اكتشفوا” الأمريكيتين فعلوا ذلك بسبب سيطرة العثمانيين وغيرهم من المسلمين على طرق التجارة بين أوروبا وآسيا. بل في الواقع، لا يعرف بعض الأمريكيين ما هي الإمبراطورية العثمانية. وعندما يفكر الأمريكيون في الشرق الأوسط، فغالباً ما ينظرون إليه على أنه مسرح للحروب الأمريكية ومنطقة مهمة بسبب نفطها. إلا أننا جميعاً مدينون بأجزاء مهمة من ثقافتنا وتاريخنا لأهم إمبراطورية في تاريخ الشرق الأوسط، الإمبراطورية العثمانية، وعلى وجه التحديد لسلطان واحد عاش قبل خمسة قرون.

يصادف شهر سبتمبر المقبل الذكرى السنوية الـ500  لوفاة شخصية تاريخية فريدة من نوعها لكنها منسية: إنه سليم الأول، السلطان التاسع للإمبراطورية العثمانية. حيث امتدت حياة سليم وعهده ما يربو على نصف قرن من الزمان في تاريخ العالم، ولا تزال انعكاساته تتردد حتى عصرنا الحاضر. فقد ضاعف مساحة أراضي الدولة العثمانية نحو ثلاث مرات من خلال الحروب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقوقاز. وغيّرت انتصارات السلطان سليم العالم حرفياً أكثر مما فعله المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس، والكاهن الكاثوليكي الألماني مارتن لوثر، والدبلوماسي الإيطالي والفيلسوف السياسي نيكولو مكيافيلي، أو غيرهم من معاصريه.

ففي عام 1517، سار السلطان سليم بجيشه من اسطنبول إلى القاهرة، وهزموا منافسه الأول في العالم الإسلامي، إمبراطورية المماليك، فأصبح سليم يحكم من الأراضي أكثر من أي دولة أخرى تقريباً. وكان يحمل مفاتيح الهيمنة العالمية، حيث كان يسيطر على وسط العالم، ويحتكر طرق التجارة بين البحر المتوسط والهند والصين، ويمتلك موانئ في جميع البحار والمحيطات الرئيسية في العالم القديم. وكانت سلطته الدينية في العالم الإسلامي منقطعة النظير. وكان يمتلك موارد هائلة من الأموال والأراضي والقوى العاملة، فحمل عن جدارة لقب “ظل الله في الأرض”.

أدت هزيمة المماليك إلى تغيير ميزان القوة العالمية بالكامل بين القوتين الجيوسياسيتين الرئيسيتين في ذلك العصر: الإسلام والمسيحية. ففي تلك الفترة، لم يكن الدين مجرد مسألة إيمان شخصي فحسب، بل المنطق الناظم للسياسة في جميع أنحاء العالم. وفي عام 1517، فاز سليم بمكة والمدينة، أقدس مدينتين في الإسلام، فحول إمبراطوريته من ذات غالبية مسيحية إلى أغلبية مسلمة، وأصبح سلطاناً وخليفةً للمسلمين، والزعيم السياسي الأول لإمبراطوريته ورئيس المجتمع الإسلامي العالمي.

خاض العثمانيون والحكام الصفويون الشيعة في إيران حرباً طوال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، في ترداد مبكر للانقسام الديني والسياسي بين السنة والشيعة في الإسلام، والتي لا تزال تعكر صفو العالم الإسلامي حتى اليوم. وفي عهد السلطان سليم، كانت المرة الأولى التي تُعرّف بها الدولة نفسها بأنها دولة سنية، والأخرى بأنها دولة شيعية، ثم تتقاتلا على السيادة في الشرق الأوسط.

لكن الإسلام لم يكن الدين الوحيد الذي أحدث فيه التوسع العثماني المتفجر انقلاباً. إذ شكلت هيمنة السلطان سليم على الأراضي تحدياً روحياً لأوروبا المسيحية، التي كانت في ذلك الوقت عبارة عن قارة مكونة من إمارات صغيرة ودول – مدن متوارثة ومتشاحنة. ولم يكونوا –سواء منفردين أو مجتمعين- يضاهون الإمبراطورية الإسلامية العملاقة. وفي محاولة لتفسير هذا الخلل في توازن القوة، لم يجد العديد من الأوروبيين الإجابات في السياسة فقط، ولكن أيضاً فيما اعتبروه إخفاقاتهم الأخلاقية. ففي عالم كان فيه الدين والسياسة مرتبطين، كان انقلاب موازين الدهر يمثل حكماً من الله.

وجاءت أكثر هذه الانتقادات شمولاً وتأثيراً من مارتن لوثر إلى حد بعيد. حيث أشار إلى أن ضعف المسيحية في مواجهة الإسلام ينبع من الانحراف الأخلاقي للكنيسة الكاثوليكية. وأن فساد البابا أدى إلى تآكل الروح المسيحية من الداخل، ما جعل جسد العالم المسيحي بأكمله هشاً، وبالتالي عرضةً للأعداء الخارجيين.

وبالإضافة إلى العمل كنقطة إيديولوجية مضادة، أفسح العثمانيون في عهد سليم المجال لبث الفتنة لصالح لوثر: فبسبب انشغال القوى الكاثوليكية بالحشد العسكري للتصدي للعثمانيين، امتنعوا عن إرسال قوات قتالية إضافية لقمع التحركات البروتستانتية المبكرة. ونتيجة لذلك، تمكن لوثر وأنصاره من الحصول على موطئ قدم لنشر العقيدة البروتستانتية عبر المدن الألمانية، ثم في جميع أنحاء العالم في نهاية المطاف.

ومن الناحية الاقتصادية، كانت الإمبراطورية العثمانية تمثّل مركز قوة من خلال حجمها الهائل والقيادة الذكية التي أظهرها السلطان سليم في السيطرة على هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة. وكانت السيطرة على تجارة البن العالمية أحد محركات اقتصاد الإمبراطورية منذ عهد السلطان سليم وحتى أوائل القرن الثامن عشر. وفي الواقع، كان جيش السلطان أول من اكتشف النبتة ذات الحبّات الحمراء الفاتحة أثناء توغله في اليمن.

حيث اكتشف العثمانيون كيفية تحضير هذه الحبوب، فأقاموا منشآت مكرسة فقط لشرب القهوة: وينبغي علينا (نحن ومالك مقاهي سارباكس هوارد شولتز) أن نشكر السلطان سليم على المقاهي. لكن القليلين منا يقدّرون أن السلطان العثماني كان أول من حوّل التجارة إلى مسألة جيوسياسية عندما احتكر توريد واحدة من السلع الاستهلاكية الجماعية الأصلية في العالم.

برهنت قوة السلطان سليم أن تأثيره وصل إلى ما وراء أوروبا والشرق الأوسط، لتعبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا الشمالية. ففي عام 1517، وخلال أسابيع سير القوات العثمانية لغزو القاهرة، نزل أوائل الأوروبيين في المكسيك. وعندما دفعتهم الأمواج نحو شبه جزيرة يوكاتان، رأت السفن الإسبانية الثلاث التي أبحرت من كوبا مدينة كبرى من حضارة المايا، كانت أكبر من أي مدينة رآها أي منهم على الإطلاق. وأصبحت هذه المدينة اليوم كايب كاتوش، الواقعة بالقرب من مدينة كانكون. لكن في عام 1517، أطلق هؤلاء الإسبان عليها اسم “القاهرة الكبرى”.

ويبيّن غزو مدينتين تدعيان القاهرة في ذلك الوقت -واحدة مملوكية وأخرى للمايا- مدى عمق ملاحقة السلطان سليم للمخيلة الأوروبية. حيث أثبتت أشهر مدينة في مصر أنها تمثّل مقياساً: فحتى على الجانب الآخر من العالم، استحضر للإسبان صورة مدينة عملاقة تتمتع بالعظمة، والغموض المخيف، والخيال المتعطش للدماء. إذ كانت القاهرة منذ قرون ترسل السفن للتنغيص على المستوطنات الإسبانية في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية، فأسرت المسيحيين وسجنتهم، وأرسلت رسائل تهديد إلى العواصم الأوروبية. كما سيطرت القاهرة على مدينة القدس المقدسة، ومنعت الأوروبيين من التجارة مع الهند والصين. وكل هذه القوة أصبحت الآن في يد السلطان سليم. وعلة الرغم من أ، غزو مدينة كبيرة من حضارة المايا يمثل بوضوح انتصاراً كبيراً للإسبان، إلا أنه لا يمكن أن يضاهي قوة النفوذ الإسلامي الذي يمتلكه سليم. بل إنه دليل على ضعف أوروبا، لأن أشباح العثمانيين كانت لا تزال تطارد المسيحيين حتى في منطقة البحر الكاريبي.

بقي العثمانيون لاعبين أساسيين على المسرح العالمي منذ عهد السلطان سليم حتى زوال دولتهم في الحرب العالمية الأولى، أي بعد أكثر من ستة قرون من الحكم. وعندما بدأت القوى الأوروبية تتفوق على الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، شطبوا أيضاً العثمانيين من تاريخ نشوءعالمنا. فأدخل الأوروبيون ضعف العثمانيين في الوقت الحاضر على الماضي من أجل تصوير نهوضهم بأنه أمر لا مفر منه.

يساعدنا التغلب على هذا منظور لطريقة رؤية تداعيات الإمبراطورية العثمانية في “العالم الجديد” وفي جميع أنحاء العالم على فهم الوجود الكلي للنفوذ العثماني. ويساعدنا أيضاً على إدراك ما فهمه الأوروبيون منذ قرون: أنه بفضل السلطان سليم، تمتع العثمانيون بسلطة أكبر، وسيطروا على المزيد من الأراضي، وحكموا عدداً أكبر من الناس، واستمروا لمدة أطول من جميع الدول الأخرى تقريباً. كما يساعدنا فهم هذا التاريخ على رؤية المكانة المتكاملة، التي عادة ما يتم تجاهلها أو رفضها، للمسلمين في ماضينا المشترك. ففي حين يتم تصوير الإسلام كثيراً على أنه الآخر الذي يهدد أمريكا اليوم، ورغم أنه يتعارض تماماً مع ما نقبل اعتباره “الغرب”، إلا أنه في الواقع جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا، وقوة بنّاءة في ماضينا المتشابك تشابكاً غنياً. فأمريكا والبروتستانتية والقهوة لها تاريخ إسلامي، وأمتنا -والعالم- هي بالفعل أمة عثمانية إلى حد كبير.

شاهد أيضاً

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …