بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم- أرسل مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء في العراق قواته في بغداد والبصرة لمواجهة السلاح المنفلت ولاستعادة هيبة الدولة. ولكن الهدف لم يكن سلاح أولئك الذين يهينون هيبة الدولة، أو ينفذون الاغتيالات، أو يرتكبون جرائم فساد، أو الذين يقيمون دولة موازية لدولته، وإنما سلاح العشائر.
وسلاح العشائر، كما يفهم الكاظمي، لم يقصف مواقع عسكرية للحكومة، ولم يهدد شركاءها الدوليين، ولم ينفذ عمليات اغتيال، وهو سلاح محلي، لا يرتبط بإيران، ولا بأي أجندات أجنبية. وغايته الأساس هي الدفاع عن النفس في مواجهة اعتداءات الميليشيات التابعة للولي الفقيه، أو الجرائم المحلية التي قد ترتكب ضد أبنائها.
إيران ومعها تابعوها تشعر أن سلاح العشائر يمثل تهديدا لسلطتها. ومع قيام المتظاهرين بحرق المراكز والمقرات التابعة لإيران، فإن هذا السلاح، حتى ولو أنه لم يُستخدم بالفعل، إلا أن وجوده المجرد، ظل يشكل نوعا من تلميح إلى أن عشائر العراق ليست لقمة سائغة للطامعين.
الميليشيات التابعة لإيران سبقت حماسة الكاظمي لمواجهة سلاح العشائر بالكثير من الدعوات والضغوط، لأنها لا تريد منافسا لسلاحها.
ولم يكن من باب المصادفة على الإطلاق، أن توجه النائب عن تحالف “الفتح” وليد السهلاني، قبل أن تبدأ العملية بيوم بالقول إن “حكومة الكاظمي مطالبة بالتحرك ونزع تلك الأسلحة وإعادة هيبة الدولة وأجهزتها الأمنية، خصوصا أن نزاعات العشائر لها أضرار اقتصادية كبيرة، حيث أنها تنقل صورة سيئة عن العراق وتمنع قدوم الشركات العالمية الكبرى للاستثمار في المناطق التي تراها غير مستقرة”.
لا يهم كم هو حجم النفاق والدجل في هذه الدعوة. فذلك قد بات من الشرور المألوفة. إلا أن انسياق حكومة الكاظمي وراء دعوات الميليشيات لتجريد العشائر من سلاحها، وتقديمه على أنه مسعى لاستعادة هيبة الدولة، كان مبعثا للسخرية حقا.
لقد وضع بعض العراقيين ثقتهم بالكاظمي، فقط على سبيل الأمل وليس على سبيل اليقين. فهذا الرجل هو نفسه خريج المدرسة الصفوية، ووكيل أعمالها، وهو المتستر الأكبر عليها. وحتى بعد تعيينه رئيسا للوزراء، فقد زار علي خامنئي ليخاطبه بالقول “سيدي القائد” وهو يعقد يديه احتراما لأكبر عدو في تاريخ العراق وإيران معا.
لم يكن الكاظمي ليبدو في قم، كرئيس لوزراء دولة مثل العراق. لقد بدا مجرد مسؤول مغلوب على أمره. ومع ذلك، فقد تعمدت ميليشيات هذا الخامنئي أن تهينه، وتهدده شخصيا، بسلسلة من عمليات الاغتيالات في البصرة والناصرية وبغداد.
العراقيون كلهم يعرفون ارتباطاته السابقة، كما يعرفها أصحابه الآخرون. لا شيء مخفيا في هذا. وظل الاعتقاد قائما بأنه ربما يأخذ بالعراق في طريق مختلف. إلا أن “قوى الشد والجذب” لن تسمح لرجل يعتقد أنه يمارس مناورات، أن يمارسها بالفعل، لكي تشكل تهديدا فعليا لنفوذ إيران وسيطرتها على ما بات “الدولة العميقة” في العراق التي تهيمن عليها العصابات.
وهناك من يفترض أن إرسال القوات “لاستعادة هيبة الدولة” حيال سلاح العشائر، هو عملية تدريبية لاستعادة هيبة الدولة حيال سلاح الميليشيات الإيرانية.
إلا أن هذا الافتراض يخلط الوهم بالوهم، والذقن بالذقن، ويهين العقول.
فالميليشيات تحقق غايتها بالتخلص من سلاح منافس، بينما هو يقدم نفسه كراع لهيبة الدولة، والاغتيالات تستمر.
هذه ليست إدارة دولة. إنها مجرد نكتة سمجة.
الوجه الآخر للنكتة، هو أن الكاظمي سعى إلى أن يخدع واشنطن وباريس بمراميه، بالظهور وكأنه يريد أن يستعيد السيادة العراقية المنتهكة من جانب إيران.
لعبة الـ”داور كيسه” والـ”حلاوة بجدر مزروف” (التي يفهمها الكاظمي جيدا) قد تنطلي على إيمانويل ماكرون، إلا أنها لن تنطلي على عراقي واحد.
إيران تسمح للكاظمي باللعب، ببساطة، لأن العراق بعد نهب مئات المليارات من ثرواته، بات مفلسا. ومن المفيد لعمليات النهب المستقبلية، أن يتوفر من يقوم بتمويل مشاريع بديلة في العراق. وحالما يعود بعض الريش لينبت في أجنحته، حتى تعود عمليات الفساد لكي تنتف من الريش ما ظهر.
هذه هي كل المسألة. والكاظمي، بوجهه المزدوج، مفيد فقط لتحقيق هذه الغاية.
إيران تلعب اللعبة نفسها في لبنان، حيث تسمح لحزب الله أن ينسحب إلى الوراء قليلا، مع الاحتفاظ ببعض النوافذ التي تطل على العودة حين يخرج لبنان من محنته الاقتصادية وكارثة انفجار مرفأ بيروت.
ولن تمضي سنة أو اثنتان، حتى يعود حزب “المقاومة” ليفرض نفسه على السلطة والنظام من جديد.
المسألة، هي أيضا مسألة لعب مع الوقت. فما يزال هناك شهران قبل الانتخابات الأميركية، ومن بعدها ثلاثة أشهر أخرى حتى يستقر الرئيس الجديد في بيته الأبيض، وبعدها عدة أشهر أخرى حتى تتحدد معالم سياساته الجديدة.
بمعنى آخر، فإيران وعصاباتها لن تعرف معالم الطريق قبل منتصف العام المقبل. وبذلك، فإن تحريك الساكن ليبقى في مكانه، هو جل الهدف من اللعب مع الوقت، مع قناعة تفيد بأن أزمات مزدوجة هي التي تُملي الحاجة إلى وجوه مزدوجة.
الكاظمي، في النهاية، ليس سوى فرد وقع عليه التوافق بين أركان العصابة الإيرانية نفسها على إدارة اللعبة. فهو لا يمتلك قوة تقف خلفه. وليس معروفا عنه أنه صاحب مشروع سياسي. وأظهرت إدارته للدولة ضعفا لا يخفى على أحد. وباستثناء بعض التصريحات التي بدت وكأنها حارة، فإنه لم يقدر على فعل أي شيء ذي معنى، بالفعل. وبالتأكيد فإنه لم يتمكن حتى من مجرد “التحرش” بالذين يهينون الدولة ويهددون سيادتها، ويفسدون بالمال العام.
وكان من أول ما فعله لتلك الميليشيات هو أنه ارتدى قميصها.
“مناورة” يأمل الواهمون، ولكنها، في الواقع، “مناورة” على مناورة أخرى. شيء من قبيل خداع الناس بأنه يخدع الحشد الشعبي. ليتضح من بعد ذلك أن الواهمين به هم المخدوعون.
ماذا فعل الكاظمي لمكافحة الفساد؟ لا شيء. وماذا فعل لإغلاق معابر التهريب؟ عين صهر نوري المالكي ليشرف عليها. أي أنه أوكل رعاية الشياه للذئب نفسه. وماذا فعل لملاحقة مرتكبي جرائم الاغتيالات؟ لا شيء. وماذا فعل لإصلاح قانون الانتخابات؟ لا شيء. وماذا فعل لمواجهة الميليشيات التي تهين الدولة؟ حارب السلاح الذي يهددها.
كل الميزة، هي أن الكاظمي، على عكس كل حفنة الغلمان السابقين، بدا وكأنه “رجل أميركا” الذي سيقف في وجه إيران. وقامت إيران بكل ما يلزم لتثبيت هذا الاعتقاد. وهو كله وهم.
ولقد كسب الكاظمي القدرة على مخاطبة بعض المتظاهرين، والظهور بمظهر المتعاطف معهم. حتى أن هناك من يعتقد أنه قادر على تشكيل حزب سياسي جديد، يكتسح به البرلمان المقبل، بوصفه حزب السيادة العراقية الذي يبيع الحلاوة على الواهمين. ولو حصل ذلك، فإن إيران ستكون حققت فوزين مزدوجين: بقاء هيمنة الميليشيات، ومجيء حكومة تجلب الاستثمارات، لتعود عجلات النهب لتدور من جديد.