بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، خلافا لأسلافه رؤساء الوزراء السابقين، استثمار المساحة السياسية الضيقة التي يمتلكها، بأنه خارج أحزاب الإسلام السياسي الحاكم، لصالحه في المناورة أمام ثورة الشباب وشعب العراق، لكن هذه الميزة تتحول عمليا إلى قيد أكثر ضررا عليه وعلى مستقبله في إدارة الحكومة، فهو مطوّقٌ ومحكوم من قبل مجلس التحكم الشيعي الموالي لإيران المتمثل بنوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، غاب عنه بشكل مقصود كل من رجلي الدين مقتدى الصدر وعمار الحكيم.
ما وصلت إليه ثورة شباب أكتوبر 2019 من فرض لإرادتها السياسية أدى إلى تنحية سلفه عادل عبدالمهدي، ومجيئه وفق استحقاقات سياسية وأمنية أعلنتها الثورة لا تتعلق بمطالب الحقوق والخدمات أو في وضع حلول لانهيار البلاد الاقتصادي بسبب النهب المنظم، وإنما بإجراءات عاجلة في كشف ومحاكمة قتلة شباب الثورة وفضح القوى المحرّكة لجرائمهم، وتنفيذ برنامج الانتخابات المبكرة، ليس في تقديم موعد إجرائها، الذي بإمكان الأحزاب الفاسدة توظيفه لصالح استمرارها وهذا متوقع حصوله، وإنما بما يجعلها مدخلا سلميا وديمقراطيا لإزاحة تلك الأحزاب وملاحقة اللصوص منهم ومحاكمتهم وإعادة الأموال لشعب العراق.
أي إستراتيجية يتبعها الكاظمي، تبتعد عن تحقيق هذين الإنجازين العاجلين والاكتفاء بالشعارات العاطفية والوعود، لن تجعل منه الزعيم السياسي المأمول، بل ستضعه في القائمة السوداء التي تضم سابقيه، حتى وإن كانت نواياه طيّبة، أو نال رضا الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وقد يكون هذا الرضا مصدر قلق العراقيين الموجوعين من سياسات الحكومات الأميركية. أو إنه يعمل على بناء علاقات يفترض أن تكون طيبة مع البلدان العربية وخاصة دول الخليج، فتلك سياسة ينبغي أن تكون طبيعية لبلد مهم في المنطقة كالعراق، ولا تقاس السياسات على ما هي عليه من انغلاق شاذ بسبب اختطاف البلد من قبل طهران.
ظرف العراق الحالي معقّد وصعب، وما أوصله إلى هذا هو النظام السياسي الذي تقوده أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، ويتحمل قادته سواء الذين أداروا الحكومات السابقة مباشرة (الجعفري والمالكي والعبادي وعبدالمهدي) أو قادة تلك الأحزاب ومنظماتها وميليشياتها التي تدير وتنفذ جميع عمليات القتل والاختطاف ضد شباب الثورة وجميع المعارضين لهذا النظام الجائر.
قادة الأحزاب هم المسؤولون عن إنتاج “داعش” وتسليمه الموصل وباقي المحافظات الست وتهجير أهلها وسرقة ممتلكاتهم، وأي محاولة لإبعاد المسؤولية العامة عنهم ونقلها إلى الحكومات التنفيذية، لا يقبلها شعب العراق ولا تقبلها ثورته الشابة.
لقد سمع العراقيون ما نشر حول استدعاء المالكي والعامري لرئيس الوزراء الكاظمي، بعد عودته من واشنطن وإشرافه على الوضع الأمني في البصرة بعد جرائم قتل نشطاء الثورة، ريهام يعقوب وتحسين الشحماني، وبعد مقتل الباحث هشام الهاشمي، وردود الفعل الشعبية التي تمثلت في حرق مقرات الأحزاب الشيعية. ونُقل عن المالكي تهديده للكاظمي خلال جلسة المساءلة بقوله “مكتبك بعلمك أو دون علمك يدير لعبة أكبر منك ومنهم، وهي جر الجنوب إلى حرب أهلية، أمهلك حتى نهاية السنة لضبط الأمن في الجنوب، وإلا سنقيلك أنت ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان”.
المالكي يتصرف كحاكم أول في العراق، حتى وإن لم يتسلم رئاسة الحكومة، ففي مكتبه يستقبل رئيس الحكومة والوزراء ويعطي التوجيهات إلى جانب هادي العامري، ولا يكترث لما يقال عن تورطه في الفساد ورعاية الميليشيات الإيرانية، وأعلن أكثر من مرّة عن مخططاته بإزاحة الكاظمي عن السلطة، وهو ما يتم تنفيذه وسط حملة دعائية شرسة من وكلاء إيران داخل وخارج العراق تستهدف الثورة الشبابية إلى جانب الكاظمي، الذي تقف مكاتبه الإعلامية ويقف مستشاروه عاجزين عن التصدّي لهذه المخططات، وسيكونون أول من يقفز من السفينة بعد ملء جيوبهم من نعمة المناصب.
لقد تصاعدت حملة قتل الناشطين البارزين خاصة في مدينة البصرة، والعديد من المدن العراقية، وسط تواطؤ بعض الأجهزة الأمنية وغياب المحاسبة رغم ما يعلنه الكاظمي عكس ذلك، وهناك قوائم معدة للتنفيذ في الأيام المقبلة ضمن حملة الترهيب القصوى التي يتوهم أصحابها أنها ستنهي ثورة الشباب، إلى جانب حملات التشويه ضد الثوار والإساءة إلى سمعتهم الوطنية، وهو ما يتولاه المالكي إعلاميا حيث أساء إلى شخصية الشهيدة ريهان يعقوب، مبشرا بحصول حرب أهلية في الجنوب، لكن في حقيقتها هي سقوط ونهاية الأحزاب الإسلامية.
التصعيد الدموي ليس دليل قوة بل هو دليل وصول الأحزاب إلى مرحلة اليأس، والكاظمي يعلم هذه الحقيقة وعليه التصرف وفقها لصالح ثورة الشعب فظرف العراق يتطلب قائدا قويا شجاعا
التصعيد الدموي الجديد ليس دليل قوة واقتدار الأحزاب، بل هو دليل وصولها إلى مرحلة اليأس والسقوط، والكاظمي قبل غيره يعلم هذه الحقيقة، وعليه التصرف وفقها لصالح ثورة الشعب، فظرف العراق يتطلب قائدا قويا شجاعا، وهو يعلم أن الأحزاب وميليشياتها الموالية لإيران تسعى إلى إسقاطه، وعليه تغيير القناعات العامة حوله بأنه صاحب “كاريزما” غير صدامية، التي قد تتلاءم مع شخصية الكاتب والإعلامي في بلد ديمقراطي مثالي وليس العراق الذي تقوده حيتان النهب والقتل والعمالة للأجنبي ووصلت به إلى حالة الانهيار.
قد يكون الكاظمي غير محظوظ على المستوى الشخصي، لكن أمامه فرصة ليصبح زعيما يوضع اسمه ضمن قائمة زعماء بناة العراق، وليس مع أولئك الذين مكانهم أرصفة الخونة والمارقين.
رغم محاصرة انتفاضة الشباب وقتل أبرز الناشطين فيها حافظت لحد اللحظة على سلميتها؛ ليس لعدم توفر السلاح، حيث يمتلأ العراق بمخزوناته. وهناك بين مناصري الثورة من يطالب الشباب بالدفاع عن أنفسهم بالسلاح، وقد تكون هذه هي الخطوة المقبلة للثورة، إذا لم يحمها الكاظمي فعليا، وليس تنفيذه لمشروع “تنظيفها” كما يروّج بعض قادة الميليشيات.
تعاني ثورة العراق من عدم مناصرة ودعم العالمين العربي والعالمي بسبب نفاق البعض لطهران، مختطفة العراق، وللنظام القائم المسمى زورا ديمقراطيا.
عراقيا، وكجزء من إدراك السياسيين والمثقفين ورجال العلم والناشطين المدنيين ومنظمات المجتمع المدني داخل العراق وخارجه بخطورة المرحلة الحالية، انطلقت خلال هذه الأيام نداءات استغاثة موجهة للمجتمعين العربي والدولي والمنظمات الدولية المعنية لإيقاف المجزرة التي تنفذها الميليشيات المسلحة ضد أبناء العراق، مذيّلة بتوقيع المئات من المنظمات والشخصيات العراقية.
هذه التظاهرة الإعلامية تشير إلى أن شعب العراق هو ليس تلك الميليشيات وأحزابها الإسلامية، وإنما هم الثوار على جبهة المواجهة مع الخصم الدموي، ونخب العراق ومثقفيه الذين يُقمعون ويُقتلون إن تحدثوا داخل بلدهم، لكن أصواتهم أكثر تعبيرا خارجه بعد أن امتلأت المنافي بهم.
لأول مرة تتحدث ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، جينين هينيس بلاسخارت، في إحاطتها الأخيرة لمجلس الأمن بجرأة عن انهيار العراق أمنيا واقتصاديا واجتماعيا، معترفة، وهي التي دائما ما تنافق الأوساط الحزبية والميليشياوية، بإهانة الحقوق الأساسية للعراقيين، مطالبة المجتمع الدولي بعدم السماح لأي حزب أو شخص أو كيان باختطاف المطالب المشروعة للشعب العراقي.
المرحلة الجديدة تتطلب إستراتيجية مواجهة سياسية وإعلامية داخلية وخارجية منظمة لمواجهة المستجدات الخطيرة، وليست هبّة مشتتة، ولا بد أن تتوجه الفعاليات السياسية والإعلامية أولا إلى رئيس الوزراء الكاظمي، مُذكّرة بمطالب الثورة وبجدول زمني للتنفيذ معلن على الرأي العام، والأهم التوجه إلى المجتمع الدولي وعرض المسألة العراقية بإتقان وبلا مزايدات فكرية وذاتية، بل بوضع قضية إنقاذ العراق في المقدمة.
إنقاذ العراق مهمة أهله، وليس كما اعتمد أولئك الأميين المتسكعين في منافي أزقة دمشق وطهران على الأميركان، بعد أن وصلت اللقمة إلى أفواههم الجائعة، وفُتحت قصور السلطة ببغداد تحت أقدامهم الوسخة وعقولهم المريضة بالحقد والثأر الطائفي، فأصبح همّهم التفنن في أساليب سرقة ونهب أموال وخيرات العراق وقمع أهله. لقد انتهى زمنهم وأصبحوا في عزلة تامة، وإيران التي تعيش همومها غير قادرة على إنقاذهم. الآن دخلت مرحلة العمل الجدّي المبرمج ليبزغ فجر العراق الجديد.