بقلم: محمد عبد الجبار الشبوط
الشرق اليوم- ما حصل في الجمهورية الرومانية عام 30 ق.م، أن الطبقة السياسية الحاكمة آنذاك، والممثلة في مجلس الشيوخ، فقدت القدرة على الحكم وضبط الاوضاع والعطاء ومقاومة الفساد، وللتغطية على عجزها وفشلها سلّمت الحكم إلى القائد العسكري أوكتافيان، وتخلت عن مبادىء الدستور الجمهوري، ونظام ديمقراطية وحكم المجلس، ومنحته سلطات مطلقة ليتحول الى ملك أو امبراطور في كل شيء سوى الاسم. وقبل الشعب هذا الحل “ذلك أنه لم يعد حريصا على الحرية، مولعا بها، بل كان قد مل الفوضى وتاقت نفسه إلى الأمن والنظام وكان يرضى أن يحكمه أي إنسان”، كما ذكرتُ في الجزء السابق من هذا المقال.
حكم اوكتافيان (اغسطس العظيم) روما، التي لم تعد جمهورية الا بالاسم، من عام ٣٠ ق م الى عام ١٤ بعد الميلاد.وكان في بداية حكمه “مستبدا مصلحا”، وتمثلت اصلاحاته بتحقيق ما نسميه الاصلاحات “الشعبوية الزبائنية”، اي الاجراءات التي تحقق رضا شعبيا عاجلا، فالغى الضرائب، واقام الالعاب، وقدم المال لجميع المواطنين، وشرع باقامة المشاريع العامة لحل مشكلة البطالة، وفي مقابل ذلك كان يستحوذ على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي كانت بيد المجلس، واطلق على نفسه لقب الزعيم، الذي اصبح عنوان الحكم في روما(الزعامة) من عام ٣٠ ق م الى عام ١٩٢ ب م. ولما كانت السلطة مفسدة بقدرها للحاكم وللمحكوم معا، فقد اخذ يتصرف كأله، فيما صار الناس ينظرون اليه نظرتهم الى اله معبود. وما هي الا فترة من الزمن حتى اعلن اوكتافيان نفسه الها، ضمن قائمة الالهة الرومانية، ولما زار اسيا اليونانية عام ٢١ وجد ان عبادته قد انتشرت انتشارا واسعا في البلاد.
لم يكن هذا غريبا على البشر في ذلك الوقت. فقد سبق للحاكم الاكدي نارام سن (٢٢٩١-٢٢٥١)، حفيد سرجون الاكدي المشهور، ان كان اول ملك يعلن نفسه الهاً. وكان البشر من احفاد ادم يعرفون بوجود اله غيبي غير منظور، لكن طول الامد جعل كثيرا من الناس ينحرفون عن توحيد الاله، ويتصورون وجود الهة اخرى الى جانب الاله الخالق، وهذا هو الشرك الذي عرفته كل الحضارات القديمة رغم انها كانت حضارات ذات صبغة دينية. وكان فراعنة مصر يعتبرون انفسهم الهة، وقد نقل القران عن احدهم قوله:”أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ”.
وقد شهد القرن العشرون ظهور حكام مستبدين اعلنوا انفسهم الهة، وعلى راسهم كيم ايل سونغ، جد الرئيس الكوري الشمالي الحالي، وقد رأيت بنفسي وعيني اثناء زيارتي لكوريا الشمالية في عام ١٩٨٤ كيف يعبد الكوريون الشماليون رئيسهم الاله. وقد سار صدام حسين على نهج كيم ايل سونغ، ولم يبق له من الالوهية الا اسمها.
وهذه امثلة على ان فكرة “المستبد الصالح” ليست فكرة صائبة، لان من اكبر مساوئها، اي مساوىء السلطة المطلقة التي تستبطنها، انها تحرف “الصالح المستبد” عن طريق الصلاح، ولا يبقى منه الا الاستبداد.والاستبداد فساد كبير. وقد شرح ذاك باستفاضة جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) في كتابه “الحكومات البرلمانية” لمن رغب بالاستزادة.
واذْ تنفعنا الخبرة التاريخية بالذهاب الى القول ان الاستبداد ليس حلا حتى وان بدا “صالحا”، فان حل مشكلة الفساد وتدهور الاوضاع السياسية والاقتصادية في البلد لا يكون بالنكوص عن الديمقراطية واستعادة الدكتاتورية بأي شكل من الاشكال، كما فعل مجلس الشيوخ في روما قبل اكثر من الفي سنة، وكما تفعل الطبقة السياسية العراقية (طبقة الاوليجارشية) الان، وانما بالذهاب الى الاصلاح السياسي الشامل باتجاه تعزيز الديمقراطية وتعميقها وتوسيعها. ان نسبة ال ٧١٪ من الذين اكدوا تمسكهم بالديمقراطية ورفضهم للدكتاتورية، انما يتوقون الى هذا النوع من العمل.