بقلم: حسن فحص
الشرق اليوم- من أكثر الأمور التي تبعث على التساؤل إن لم يكن التعجب، ما يدور في الأوساط الإيرانية ويصدر من مواقف تتعلق بالعلاقة مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ومستقبل الدور الإيراني وحلفاء طهران في المشهد السياسي العراقي. بحيث يمكن القول بإن العلاقة بين طهران والعراق، وتحديداً موقع رئاسة الوزراء في بغداد لم تمر بمثل ما تمر فيه هذه الأيام من تناقضات وتباينات تدفع أي مراقب للاعتقاد بأن الجانب الإيراني، وبناء على ما تفيض به أوساط تعتبر مقربة من مصادر القرار، على طريق حسم خياراته للتخلص من “الضيف الثقيل” الذي بات يشكل إرباكاً وتحدياً واضحاً وصريحاً للقيادة الإيرانية وأهدافها ومخططاتها وما تطمح له على الساحة العراقية.
قد يكون من الواقعية بمكان القول إن القيادة الإيرانية كانت تفضل أن لا ترى الأمور تذهب بحيث تجد نفسها أمام واحد من خيارين، أما الفوضى والمزيد من انفلات الأمور قد تؤدي إلى خسارتها لكل الجهود والاستثمارات التي بذلتها لتثبيت مواطئ أقدامها على الساحة العراقية، وأما القبول بخيار لا يتنسجم مع طموحاتها وتمرير المرحلة بانتظار إعادة ترتيب أوراقها وصياغة رؤية جديدة للتعامل مع مفردات هذه الساحة بحيث تقلل من خسائرها أو توقف المسار الانحداري الذي اتخذته وزاد من تفاقمه وصول عادل عبدالمهدي إلى رئاسة الوزراء وتحميلها وحلفاءها مسؤولية أعمال العنف التي طالت المتظاهرين والمعتصمين المطالبين بإصلاح المنظومة السياسية ووقف الفساد والهدر والنهب والمحاصصة.
التطورات المتسارعة وحجم الفتق الذي أصاب النفوذ الإيراني في المشهد العراقي، أجبر القيادة الإيرانية بكل أدواتها أن تلجأ إلى التعامل الواقعي والبراغماتي مع الأحداث، وأن تترجل عن صهوة معادلة “ثلاثة مقابل صفر” التي حاول إرساءها قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني بعد أن استطاع فرض مرشحيه في الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) على حساب الرغبة الأميركية. من هنا يمكن القول إن وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء لا يمثل الخيار الأمثل للقيادة الإيرانية، إلا أنها اضطرت للقبول به للحد من الخسائر التي بدأت تتسع وتهدد كل الانجازات بالضياع، خصوصاً وأن دورها ونفوذها على الساحة العراقية قد فقد توازنه بعد إخراج سليماني من المعادلة.
يمكن القول إن الجانب الإيراني استطاع تطويق الكاظمي في حكومته إلى حد ما، من خلال تكريس مبدأ المحاصصة بين الأحزاب والفصائل السياسية التي تتحكم بالمشهد العراقي بمختلف انتماءاتها المذهبية والقومية والسياسية، ما سمح لها بأن تكون في دائرة القرار نسبياً، بما يساعدها على إعادة ترتيب أوراقها وتقويم علاقاتها مع الفصائل التي مارست كل أنواع الابتزاز معها وفي كثير من الأحيان من أجل مصالحها على حساب المصلحة الاستراتيجية الإيرانية.
هذه التطورات يبدو أنها جاءت خارج قدرة بعض الأطراف والأوساط في الداخل الإيراني على الاستيعاب، فهي لم تعتد التعامل مع الساحة العراقية، وبناء على فهمها القاصر، سوى من منظار التبعية الخالصة والتامة بحيث لا تستطيع أن تقبل بأي هامش من الخصوصية خارج دائرة المصلحة الإيرانية. وبالتالي تذهب لخيارات قد تكون على تعارض تام مع المصلحة الاستراتيجية للنظام، فتمسكت بتوجيه الاتهام للكاظمي بتسهيل العملية الأميركية لاغتيال سليماني في الوقت الذي كان المرشد الأعلى للنظام و”ولي دم سليماني” يستقبل بحفاوة الكاظمي في طهران، ما يكشف أنها تعيش في حالة من التخبط بين القبول بمسارات النظام السياسية وبين التمسك بانغلاقها العقدي والعقائدي الذي يرفض القبول بغير “الموالي” في محاولة لإسقاط النموذج الداخلي الذي قسم الإيرانيين بين “موال وغير موال” على التعاملات الخارجية، وتحديداً مع الكاظمي. وذهبت إلى اتهامه بالخيانة ليس فقط لإيران، بل للحسين وكربلاء التي تنحصر هنا بإيران على الساحة العراقية، خصوصاً وأنه فرّط بدم سليماني وما طلبه المرشد الأعلى بأن تعمل حكومته على فرض الانسحاب الأميركي من العراق.
ما بين مواقف القيادة الإيرانية التي تنحو صوب المزيد من الواقعية والبراغماتية وبين مواقف هذه الأوساط التي ترى نفسها معبراً عن سياسات النظام في طهران، يبدو أن هناك انفصاماً كبيراً في الرؤية والقراءة والتعامل، خصوصاً وأن النظام وقيادته ومؤسسات الدولة الإيرانية استقبلت الكاظمي بعد الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي العراقي الأميركي، والذي تم فيه بحث إمكانيات وآليات الانسحاب الأميركي من العراق، وفي هذا الحوار وضع الإطار العام لهذا الموضوع الذي يقوم على انسحاب متدرج خلال ثلاث سنوات مع الإبقاء على قوة تدريبية في إطار حاجة القوات المسلحة العراقية، في حين شدد المرشد الأعلى خلال استقباله الكاظمي على ضرورة العمل على تطبيق توصية البرلمان بهذه الخصوص وإخراج هذه القوات بأسرع وقت ممكن من دون الدخول في التوقيتات والآليات بما يتعلق بالجانب العراقي تاركاً ما يتعلق بالجانب الإيراني بعيداً عن النقاش محتفظاً بآلياته التي تقدرها القيادة الإيرانية وفقاً للمعطيات الميدانية والسياسية والاستراتيجية.
الهجوم على الكاظمي، قد يعبر في جانب منه عما يدور في الكواليس الجماعات الطوباوية الإيرانية عن مقدار الإحساس بالخسارة والإحباط من التطورات العراقية وعدم قدرة طهران الاستمرار بتفردها في الإمساك بمفاصل هذا الساحة، في مقابل ما تقوم به الدوائر المعنية بالقرار الاستراتيجي من بحث عن مخارج تقلل من حدة التوتر بينها وبين الإدارة الأميركية وقطع الطريق على أي إمكانية للوصول إلى حائط المواجهة المباشرة التي قد تطيح بكل ما لدى إيران في الداخل والاقليم، من هنا تأتي زيارة قائد قوة القدس الجديد الجنرال اسماعيل قاآني إلى بغداد عشية زيارة الكاظمي إلى واشنطن والتي يعلم الطرفان جدول أعمالها خصوصاً وأنها جاءت في ختام الجولة الثانية من الحوار الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن بقيادة وزيري الخارجية فؤاد حسين ومايك بومبيو والتي لم تخرج عن نتائج الجولة الأولى، بل جاءت تأكيداً على مخرجات الجولة الأولى فضلاً عن توقيع تفاهمات اقتصادية في مجالات الطاقة والنفط.