الرئيسية / الرئيسية / مترجم: التجديد الديمقراطي

مترجم: التجديد الديمقراطي

بقلم: بن رودس – فورين بويلسي

الشرق اليوم- في حالة انتخابه رئيساً، سوف يرث جو بايدن ولاياتٍ متحدةً تخلت عن دورها القيادي في العالم، وفقدت حقها في المطالبة بالسُّلطة الأخلاقية. وسوف يتولى أيضاً زمام الأمور في بلدٍ لا يزال يعاني من آلام جائحة صحية، ويترنح من التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا المستجد، ومُستقطباً بشدة. وسوف يتجاوز هذا الخراب إرث الرئيس باراك أوباما الذي كان عبارة عن أزمة مالية وحربين متعثرتين. وسوف يتعين على بايدن وفريقه إيجاد طريقة ما لإعادة تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية وإحياء شعور الولايات المتحدة بوجود غاية لها في العالم.

ولن يكون الأمر سهلاً، فمن شأن فوز بايدن في نوفمبر أن يُغري الولايات المتحدة بأن تستعيد تصورها حول نفسها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها قوةً مهيمنةً فاضلة، إلا أن ذلك سوف يستهين إلى حد كبير من حجم المأزق الذي ترزح البلاد فيه حالياً. إذ لم تخسر الولايات المتحدة مركزها فحسب، بل وسفينة الدولة تتحرك في الاتجاه الخاطئ، بينما بقية العالم تابع مسيره. فالمخاوف العالمية بشأن مصداقية الولايات المتحدة لا ترتبط ببساطة برئاسة دونالد ترامب الكارثية، بل إنها مُتجذرة في حقيقة أن الشعب الأمريكي انتخب شخصاً مثل ترامب في المقام الأول. وبعد أن رأى العالم الأمريكيين يفعلون ذلك ذات مرة، فسوف يتساءل الزعماء والشعوب في الخارج عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تفعل ذلك مرة أخرى، لا سيما مع الأخذ في الاعتبار إخلاص الحزب الجمهوري لسياسات ترامب ذات النوع القومي الاستبدادي. ومن الضروري في هذه البيئة أّلّا يبحث الرئيس بايدن عن الفرصة في الماضي، بل في الحاضر، أي في أعقاب الأزمات الأخيرة التي قلبت الحياة الأمريكية رأساً على عقب، وفي البراعم الغضّة للانتفاضة الشعبية الاستثنائية التي أعقبت مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في مينيابوليس في شهر مايو.

يوفّر الحشد الاستثنائي ضد العنصرية والظلم الهيكليين فرصة لتجديد شعور الولايات المتحدة بالغاية. حيث كانت العناصر التطورية والتعويضية لحكاية الولايات المتحدة تمثّل قسماً كبير من ادعاء الدولة للزعامة العالمية، أي حقيقة أن الولايات المتحدة عبارة عن مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، قضى على العنصرية المؤسسية والقوة العالقة لـ “تفوّق العرق الأبيض” من خلال الديمقراطية الدستورية. وكان وزير الخارجية الأمريكي دين أتشيسون قد أدرك ذلك عندما قدّم في عام 1952 خطاباً إلى المحكمة العليا حين كانت تنظر في قضية براون ضد مجلس التعليم، قال فيه “إن استمرار التمييز العنصري في الولايات المتحدة لا يزال مصدر إحراج دائم لهذه الحكومة في ممارستها اليومية لعلاقاتها الخارجية، ويهدد الحفاظ على قيادتنا الأخلاقية الفعالة للدول الحرة والديمقراطية في العالم”.

وفي الوقت الذي فقد فيه العالم الثقة في الحكومة الأمريكية، أظهرت الاحتجاجات العالمية المُؤيّدة لحركة “حياة السود مهمة” أن الولايات المتحدة التي يريد بقية العالم أن يتعاطف معها لا تزال موجودة. وهذه الاحتجاجات الأمريكية عبارة عن جزء من التعبئة الجماهيرية في السنوات الأخيرة: الإضرابات المناخية، والمظاهرات ضد عدم المساواة الاقتصادية، والاحتجاجات دفاعاً عن الحكم الذاتي في هونغ كونغ والحريات المدنية. فرغم كل عيوب الديمقراطية، إلا أنها الشكل الوحيد للحكومة الذي يمكنه اتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة لمواجهة مثل هذه التحديات نيابة عن المواطنين. وإذا فاز بايدن وتمكنت إدارته القادمة من تسخير تلك الطاقة وعكسها في السياسات، فإن هزيمة ترامب يمكن أن توفر فرصة مهمة لتجديد الديمقراطية الأمريكية في الداخل. وعلاوة على ذلك، يمكن أن توفر أيضاً الزخم للتجديد الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، والتعامل مع عدم المساواة الهيكلية، وصياغة نظام عالمي يلبي تطلعات المواطنين العاديين بصورة أفضل.

تجنّب حكم “الفقاعة”

كيف يجب أن يغتنم بايدن هذه الفرصة في حال انتخابه؟ بدايةً، من المهم أن يكون لديك شعور واضح بما ينبغي على الإدارة الديمقراطية الجديدة أن تتجنبه. إذ سيكون من الخطأ العودة إلى إخفاقات السياسة الأمريكية لحقبة ما بعد 11 سبتمبر رداً على الواقع القاسي لأخطاء ترامب الهائلة. نعم، لقد كان النهج الذي اتبعه ترامب تجاه العالم كارثياً بكل معنى الكلمة، فقد أدت مبادراته إلى تحقيق عكس الأهداف المرجوة منها: كوريا الشمالية توسّع ترسانتها النووية، وإيران استأنفت برنامجها النووي، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو شدد قبضته على السلطة، والصين لم تغيّر أياً من الممارسات المؤسسية التي كان من المفترض أن توقفها حرب ترامب التجارية. ولم يؤد شعار ترامب “أمريكا أولاً” سوى لتراجع أمريكا: فانهارت الثقة العالمية في الولايات المتحدة، وتآكلت التحالفات الأمريكية، ودخل النظام الدولي الليبرالي في حالة انهيار، وأخذت الصين توسّع نفوذها وتروج لنموذجها الاستبدادي التقني للحكم باعتباره بديلاً للديمقراطية الليبرالية. وقد فتح غياب الدور القيادي الأمريكي في مواجهة جائحة كوفيد 19 النافذة على اضطراب عالمي جديد، تجعل فيه النزعة القومية الفجّة العمل الجماعي الفعّال أمراً مستحيلاً، والصراعَ أمراً شبه حتمي.

لكن تركيز الاهتمام على عثرات ترامب يغطي عملية إعادة التقييم الأساسية اللازمة للسياسة الخارجية الأمريكية. حيث يجادل بعض أعضاء مؤسسة السياسة الخارجية (وأسمّيهم “الفقاعة”) الذين لم يكونوا راضين عن اتجاه السياسة خلال سنوات حكم أوباما بأن تخبّط ترامب هو دليل إضافي على الحاجة إلى إحياء السمة الاستثنائية الأمريكية بصورة أكثر قوة. ويجادلون مراراً وتكراراً بأن ترامب واصل اتباع المسار الذي وضعه أوباما: إبعاد الولايات المتحدة عن الحروب الخارجية، وتعزيز تقاسم الأعباء مع الدول الأخرى، واستيعاب ظهور نماذج سياسية بديلة وقوى صاعدة مثل الصين.

لكن هذه الممارسة التعديلية تُعدّ عبثية بشكل هزلي. إذ إن أحد المبادئ الناظمة لسياسة ترامب الخارجية هي إبطال الإنجازات الرئيسية لأوباما: اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة)، والشراكة عبر المحيط الهادئ، وإزالة الجليد عن العلاقات مع كوبا، وربما حتى عقد معاهدة ستارت الجديدة. لا يمكن وصف هذا بالاستمرارية، والأهم من ذلك أن هذا النوع من التفكير يشوش على اختلاف جوهري، فقد كان أوباما شديد الانتقاد لقرار إدارة جورج دبليو بوش بشن الحرب في العراق، والذي أعدّه أنا أكبر قرار كارثي في السياسة الخارجية شهدته في حياتي، وقد حظي بدعم واسع من مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية.

لقد قدّم ترامب بعض الادعاءات المنمقة تجاه نظرة أوباما للعالم، مردداً انتقاداته للتدخل الأمريكي، إلا أن كلاً من أوباما وترامب طرح علاجات مختلفة لهذا المرض. حيث حاول أوباما خلال مدة رئاسته إعادة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو مجموعة جديدة من الترتيبات متعددة الأطراف، ونحو مناطق ذات أهمية استراتيجية لكنها مُهملة، مثل منطقة آسيا والمحيط الهادئ؛ ونحو قضايا مهملة، مثل تغير المناخ والتأهب لمواجهة الأوبئة. أما ترامب، فمزج ببساطة النزعة الانعزالية مع نوبات عدوانية عارضة وتدفق مستمر من الخطاب القادم مباشرة من قناة فوكس نيوز.

وأكثر قرارات أوباما التي لم تسِر على ما يُرام هي تلك التي كانت أكثر انسجاماً مع ميول الفقاعة: زيادة القوات في أفغانستان، وخطة مُفرطة التمويل لتحديث البنية التحتية للترسانة النووية الأمريكية، ودعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن. وفي المقابل، فإن بعض القرارات الأكثر إثارة للجدل في عهد أوباما سارت على خير ما يرام: خصوصاً الاتفاق النووي الإيراني، الذي أكّد بصورة مؤسفة أن السيناريوهات الرهيبة التي استحضرها معارضوه لم تتحقق إلا بعد أن قرر ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق.

ربما أدار ترامب ظهره للنظام الدولي الليبرالي، لكنه اتبع أيضاً المبادئ الأساسية لقواعد اللعبة التي وضعتها الفقاعة بعد 11 سبتمبر. إذ لم يسبق أن كانت الولايات المتحدة أكثر انحيازاً لإسرائيل والسعودية والإمارات مما هي عليه الآن. وفي عام 2017، قصفت الطائرات الأمريكية قاعدة جوية سورية رداً على هجوم بالأسلحة الكيماوية. كما لم يسبق أن كانت الولايات المتحدة أكثر عداء تجاه إيران مما هي عليه الآن. فقد أرسلت الولايات المتحدة ما يقرب من 20 ألف جندي إضافي إلى الشرق الأوسط منذ تولى ترامب الرئاسة، الأمر الذي لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره انسحاباً من المنطقة. وتضخمت ميزانية الدفاع إلى أكثر من 700 مليار دولار، كما تتّبع الولايات المتحدة سياسة تغيير النظام في كوبا وإيران وفنزويلا، وتنخرط إدارة ترامب بانتظام في مثل هذا النوع من الترهيب الذي طالب به الكثيرون ممن شعروا أن أوباما لم يكن حازماً بما فيه الكفاية في تأكيده على الاستثنائية الأمريكية.

لن يكون في وسع إدارة بايدن المحتملة القادمة أن تُكرر المجموعة الفاشلة من الأفكار والسياسات التي لا تتماشى مع الزمن. فعلى سبيل المثال، ليس لدى واشنطن الوقت ولا رأس المال السياسي في الخارج لإضاعة السنة الأولى من إدارة جديدة في وضع نهج تجاه إيران يُساير أجندة دول الخليج العربي التي قوّضت الرئيس الديمقراطي السابق بلا هوادة. وحقيقة أن الولايات المتحدة كانت على وشك خوض حرب مع إيران بينما كان فيروس كورونا قد بدأ ينتشر من الصين إلى بقية العالم تبيّن المغالطة في هوس واشنطن الدائم بالجمهورية الإسلامية. فبالنظر إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تراجعت عن كلمتها، فإن مجرد العودة إلى أساس خطة العمل الشاملة المشتركة سيكون إنجازاً كبيراً، ويخدم المصالح الأساسية للأمن القومي الأمريكي في إيران، ويمكن أن يقدّم قاعدة لإطلاق المبادرات الدبلوماسية المستقبلية.

ثمة فجوة خطيرة بين توقعات الناخبين الذين يمكن أن يصوتوا لصالح بايدن، وغرائز أولئك الموجودين في مؤسسة السياسة الخارجية الذين سيطالبون بعودة الولايات المتحدة التي تتصرف باعتبارها قوة مُهيمنة. وإذا أصغى بايدن إلى ناخبيه بدلاً من أولئك المتشددين في واشنطن، فسيكون من الحكمة أن يضع نهاية للحرب الدائمة للولايات المتحدة من خلال إلغاء الإذن باستخدام القوة العسكرية الصادر عام 2001، وإيقاف الدعم الأمريكي للكارثة الأخلاقية والاستراتيجية الجارية في اليمن، وإنهاء العلاقة المسببة للانحلال مع السعودية. وبدلاً من إضفاء مظهر عملية السلام على قيام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بضم الأراضي الفلسطينية، يجب على الولايات المتحدة أن تطرح علناً مواقفها بشأن قضايا الوضع النهائي لحل الدولتين، وأن تدعمها على الصعيد الدولي وفي أي جهود مستقبلية من أجل السلام. وبدلاً من تكرار نفس المناقشات والأخطاء التي حدثت خلال العقدين الماضيين، فقد آن الأوان لتجاوزها والمضي قدماً.

ماذا يجب أن تكون أولويات تنشيط الإدارة الجديدة؟ أولاً وقبل كل شيء، الاستجابة لجائحة كوفيد 19. حيث يجب اتخاذ خطوات فورية على الصعيد المحلي لجعل تدابير الصحة العامة تتماشى مع أحدث التوصيات العلمية. أما على الصعيد العالمي، فيمكن أن تكسب الولايات المتحدة السمعة الحسنة من خلال العمل على ضمان إطلاق أي لقاح محتمل في أسرع وقت ممكن وبصورة منصفة قدر الإمكان، وألا تتسبب مخاوف شركات الأدوية بشأن الأرباح في تأخيرات لا داعي لها. وسوف يواجه هذا المشروع العديد من التحديات المرتبطة بالجائحة، بما في ذلك استئناف السفر وسلاسل التوريد العالمية. وسيكون على إدارة بايدن أن تستعين بمواهب جديدة -ولو على أساس مؤقت- في الحكومة للقضاء على كوفيد 19. وبينما تعمل واشنطن على إصلاح علاقاتها مع المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، يجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة إقامة بنية تحتية أكثر قوة للأمن الصحي، مع زيادة تمويل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ومعاهد الصحة الوطنية، والمكاتب التعاونية في الخارج لمراقبة حالات تفشي المرض والاستجابة لها والتخطيط متعدد الأطراف للسيناريوهات من أجل تطبيق الدروس المستفادة من جائحة كوفيد 19 على الأوبئة المستقبلية.

ويجب أن يكون العمل اللازم للتصدي للجائحة الحالية جزءاً من عملية أوسع لإعادة تقييم أولويات الولايات المتحدة وقيادتها العالمية. ويجب أن يُدرك الأمريكيون أنه لم يعد من الممكن أن يكون هناك أي تناقض بين ما تفعله الدولة في الداخل وما تفعله في الخارج. وربما لا يوجد ما يدلّ على هذه الضرورة أوضح من حقيقة أن بعض الأمريكيين أنفسهم الذين يطالبون بفرض العقوبات على الصين بسبب قمع الاحتجاجات السلمية في هونغ كونغ، هم الذين دعوا الجيش لقمع الاحتجاجات السلمية في واشنطن. وبالتالي لا يمكن لإدارة بايدن أن تنغمس في هذا النوع من النفاق. وعند إعادة تشكيل القيادة العالمية للولايات المتحدة، يجب على الرئيس بايدن أن يجعل العمل على الصعيد المحلي نقطة انطلاق سياسته الخارجية.

ويجب أن تبدأ هذه الجهود من الديمقراطية الأمريكية نفسها، لأنها لم تعد القدوة التي كانت عليها من قبل. ويجب على إدارة بايدن أن تتحرك على الفور لإنجاز الإصلاحات الديمقراطية اللازمة بشدة في الولايات المتحدة، بما في ذلك توسيع حقوق التصويت وحمايتها، والعمل على إنهاء التلاعب في الدوائر الانتخابية، وتعزيز الشفافية حول دور المال في السياسة الأمريكية والحد منه.

وقد سلطت احتجاجات “حياة السود مهمة” الضوء على التباينات العرقية والقوة الراسخة لتفوق البيض في الولايات المتحدة، لكنها أظهرت أيضاً مدى رغبة الغالبية العظمى من الأمريكيين في الانتباه للظلم الجاري في بلادهم. ويجب على إدارة بايدن إصلاح جهاز إنفاذ القانون والعدالة الجنائية اللذين يعكسان إرث تفوق البيض، وكذلك إعادة كتابة قانون الضرائب الذي يكافئ أصحاب الثروة على حساب الناس الذين يقومون بالأعمال الأساسية. ويجب على بايدن أن يضع مثل هذه الإجراءات في إطار جهدٍ دوليٍّ لإحياء الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، من هونغ كونغ إلى هنغاريا، وصولاً إلى قلب أمريكا.

وسوف يتعين على إدارة بايدن أيضاً إعادة بناء العلاقات مع الحلفاء الديمقراطيين على أساس القيم المشتركة. كما سيتعين عليه، في حال فوزه، أن يفي بوعده بعقد قمة للدول الديمقراطية في العالم خلال السنة الأولى من رئاسته. ويجب أن يحدد ذلك الاجتماع الالتزامات الوطنية لتنشيط الديمقراطيات الراسخة، مع اتخاذ خطوات لدعم المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان لدى الأنظمة الديمقراطية الناشئة والأنظمة الاستبدادية. وينبغي على المشاركين وضع تدابير منسقة لتعزيز الشفافية في الحكم، وشن حملة ضد التهرب الضريبي، ومساعدة الدول التي تنتقل إلى أنظمة أكثر ديمقراطية. كما يجب أن يشمل ذلك الجهود المبذولة لاجتثاث الفساد، إذ يوجد أكثر من تريليون دولار من “الأموال المُظلمة” تنتقل عبر الحدود في كل عام، وتغذي كل شيء بدءاً من عمليات التأثير الروسية إلى تفشي الكسب غير المشروع.


يجب إغلاق ثغرة “ملكية الانتفاع” في الولايات المتحدة، حتى لا تتمكن الجهات الفاعلة السيئة من وضع أموالها في البلاد دون الكشف عمّن تعود إليه تلك الأموال. ويجب أيضاً تعزيز الجهود متعددة الأطراف لتعقب التدفقات المالية غير المشروعة، ويجب ألا تخجل الولايات المتحدة وحلفاؤها من الكشف عن الثروة غير المشروعة وشبكات الفساد للقادة غير الليبراليين.

لا تنفصل هذه الجهود لإعادة توحيد العالم الحرّ عن مخاوف الولايات المتحدة الأمنية بشأن روسيا. فما تحتاجه الولايات المتحدة وأوروبا أكثر من أي سياسة فردية هو بذل جهود منظمة لاكتساب المناعة ضد محاولات الأنظمة الاستبدادية للتدخل في الديمقراطيات. وسوف يحتاجون إلى تعزيز المؤسسات الغربية من خلال العمل جنباً إلى جنب مع الديمقراطيات الأخرى في جميع أنحاء العالم، وذلك لتقديم أنموذج ديمقراطي أكثر مرونة، والدعوة للقيم الديمقراطية دون تردد. ويجب يتوسع ذلك ليشمل مؤسسات مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، والتي يجب إعادة صياغتها بحيث يكون تحالفات للديمقراطيات، وفي حال استمرت دول مثل هنغاريا وتركيا في الانزلاق نحو عدم الليبرالية، فيجب تهديدها بالعقوبات أو الطرد.

وينبغي على الولايات المتحدة التخلي عن أي تردد في التحدث جهراً ضد انتهاكات حقوق الإنسان، سواء كانت تحدث داخل الدول الشريكة للولايات المتحدة مثل السعودية، أو لدى القوى الكبرى مثل الصين وروسيا (التي لا تتردد أجهزة الدعاية لديها في التعليق على الشؤون الداخلية الأمريكية).


وينبغي على واشنطن أيضاً أن تتوقف عن فرض الحظر الذي يأتي بنتائج عكسية ضد كوبا وفنزويلا، وأن تستخدم أدوات أدق استهدافاً، مثل فرض العقوبات ضد الأفراد المذنبين، وليس الدول بأكملها. كما ينبغي أن تسعى واشنطن في كل ما تقوم به إلى التحدث والعمل بالتنسيق مع أكبر عدد ممكن من الدول، وذلك من أجل مواجهة أي مخاوف يمكن أن تكون لديهم عند الوقوف في وجه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ أو ابتلاع الحكم الذاتي الديمقراطي في هونغ كونغ.

ينبغي أن تصل روح التضامن الضرورية تلك إلى عالم التكنولوجيا. إذ إن شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية، مثل فيسبوك، ساعدت في نشر المعلومات المضللة التي عصفت بالديمقراطيات في العالم. لذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تبدأ تنظيم مثل هذه الشركات. وهذه ليست مسألة تقييد لحرية التعبير كما تعتبرها بعض شركات التكنولوجيا، بل إنها مسألة تنظيم الخوارزميات التي تنشر الكراهية والمعلومات المضللة التي يمكن أن تؤجج النار في كل شيء، بدءاً من انهيار التماسك الاجتماعي في الولايات المتحدة وصولاً إلى التطهير العرقي في ميانمار. وينبغي على الولايات المتحدة أيضاً اللحاق بالاتحاد الأوروبي في وضع تدابير أكثر صرامة لحماية الخصوصية.

Trump shakes hands with Saudi Arabia's Crown Prince Mohammed bin Salman at the G-20 summit in Osaka, Japan, June 2019 

ترامب مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في أوساكا، اليابان، يونيو 2019

ويجب أن تؤدي عقلية مماثلة للمرونة الديمقراطية إلى تسريع التزامات الولايات المتحدة بالابتكار. حيث أنها في حاجة ماسة للاستثمار في البحث والتطوير بنفسها، لا سيما في الوقت الذي يتبنى فيه العالم المزيد من استخدامات الذكاء الاصطناعي وما يُسمى “إنترنت الأشياء”. وعلى الصعيد العالمي، وبدلاً من توبيخ الدول التي تشعر أنه ليس لديها بديل عن التكنولوجيا الصينية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمّق التعاون مع الدول ذات التفكير المماثل في تطوير شبكات الجيل الخامس وحماية الملكية الفكرية والبنية التحتية الإلكترونية الحيوية. وبالمثل، يجب على الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى العمل معاً لتطوير القواعد التي تحكم استخدام هذه التقنيات، والتي يمكن أن تمهد الطريق بعد ذلك لمجموعة جديدة من المفاوضات متعددة الأطراف مع الصين بدلاً من مواجهة ثنائية متصاعدة لا نهاية لها.

وترتبط كل واحدة من هذه الأولويات بالهوية الأساسية للولايات المتحدة باعتبارها دولة ترحب بالمهاجرين؛ أي أن الأنموذج الديمقراطي للبلاد لا ينفصل عن إحساسها بأنها دولة كفاح مكونة من الغرباء، وأن قدرتها على الابتكار اعتمدت على استقبال أفضل الناس وأذكاهم من جميع أنحاء العالم. فالهجرة تجدّد القوة العاملة في الولايات المتحدة، وتُثري المجتمع الأمريكي، وتحفّز ريادة الأعمال، وتؤسس روابط عالمية، وتُشبع الولايات المتحدة بآفاق تعكس التنوع العالمي. إلا أن إدارة ترامب حوّلت الهجرة إلى سلاح باعتبارها جزءاً من حرب ثقافية متجذرة في النزعة القومية للعرض الأبيض، فتنازلت بذلك عن السلطة الأخلاقية، وضحت بفوائد الهجرة، وقادت سياسات مناهضة للاجئين والمهاجرين تستهدف الناس في جميع أنحاء العالم.

يجب على إدارة بايدن أن تتحرك في الاتجاه المعاكس. فينبغي أن تُلغي قيود السفر المعادية للإسلام، وتنبذ سياسات الحدود والترحيل غير الإنسانية، وتستأنف عمليات اللجوء بتوفير موارد إضافية لمعالجة المطالبات. ويجب منح المهاجرين الذين ليس لديهم إذن للعمل في الولايات المتحدة أو العيش فيها، ولكنهم موجودون في البلاد منذ مدة طويلة، طريقة لتصحيح وضعهم القانوني، ويُفضّل أن يكون ذلك من خلال التشريعات وليس الأوامر التنفيذية. حيث تُعتبر الهجرة القانونية الفعالة وتعليم الطلاب الأجانب في الكليات والجامعات الأمريكية أصولاً وطنية، ويجب معاملتها على هذا الأساس. ويجب أن ترجع إعادة توطين اللاجئين في الولايات المتحدة إلى المستوى الذي اقتربت منه في نهاية إدارة أوباما، أي 120 ألف شخص في السنة بالحد الأدنى.

وأخيراً، يتمثل التهديد الرئيسي على الأمن القومي للولايات المتحدة في تغيّر المناخ، ولم بوسع الأمريكيين تحمّل الأصوات التي تنكر وجوده، ولا يمكنهم التعامل معه على أنه مجرد مشكلة بيئية. فالعالم يتجه نحو مستقبل كارثي من ارتفاع درجات الحرارة ومستويات سطح البحر، ونزوح السكان، وظواهر جوية متفاقمة ستجعل الاضطرابات التي تسبب بها كوفيد 19 تبدو حدثاً طريفاً مقارنة بها. وتقريباً كل التحديات الرئيسية الأخرى للأمن القومي التي يواجهها الأمريكيون -من الإرهاب، والدول الفاشلة، وصراع القوى العظمى، والأوبئة، والهجرة الجماعية- سوف تتفاقم.

ومع ذلك، لم تقترب الولايات المتحدة من اتخاذ لإجراءات اللازمة للحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض بما يقرب من 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، وهو المستوى الذي يقول العلماء إنه لا بد منه. بل تحركت إدارة ترامب بدلاً من ذلك في الاتجاه المعاكس، فانسحبت من اتفاقية باريس للمناخ، وأبطلت اللوائح المتعلقة بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي صدرت في عهد أوباما. ومع ذلك فإن القيادة على مستوى الولايات والمستوى المحلي وفي القطاع الخاص خففت من بعض الأضرار، إلا أن الحكومة الفيدرالية هي الوحيدة القادرة على حشد الإجراءات المطلوبة في الداخل، والولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها تحفيز العمل الجماعي المطلوب في الخارج.

ومنذ اليوم الأول لإدارة بايدن، يجب على الولايات المتحدة أن تنضم مجدداً إلى اتفاقية باريس، وأن تبدأ العمل على وضع أكبر مساهمة ممكنة لخفض الانبعاثات، حيث ستكون مصداقية البلاد وطموحها في الخارج مرتبطة ارتباطاً كلياً بأفعالها في الداخل. فبالإضافة إلى العودة إلى الإطار التنظيمي الخاص بالبيئة الذي صدر في عهد أوباما والبناء على أساسه، يجب على إدارة بايدن أن تسعى لإصدار تشريعات خاصة بالمناخ والطاقة في عامها الأول. ويجب أن تستثمر هذه الحزمة إلى حد كبير في كفاءة الطاقة، ومصادر الطاقة المتجددة، والتخفيف من حدة المناخ الدولي والتكيف معه، بما يتماشى مع مقترحات الصفقة الخضراء الجديدة، ويجب أن يترافق ذلك مع التركيز على توفير فرص العمل وتطوير البنية التحتية في المجتمعات المهمشة.

ويجب أن تصبح مكافحة تغير المناخ أيضاً أحد محاور السياسة الخارجية الأمريكية لكي تُتاح للعالم فرصة إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي. إذ لم يتم التوصل إلى اتفاق باريس في ولاية أوباما الثانية عن طريق المفاوضات فحسب، بل أصبح تغير المناخ أولوية بالنسبة للولايات المتحدة في كل علاقاتها تقريباً، سواء الثنائية أو متعددة الأطراف. ويجب إدخال هذا التركيز بصورة كاملة في طريقة تنظيم وزارة الخارجية والوكالات الأخرى وتزويدها بالموظفين حول العالم، وفي طريقة تعامل واشنطن مع الحكومات الأخرى على جميع المستويات الدبلوماسية، من مستوى الرئيس إلى مستوى السفارات. فمثلاً، ينبغي على واشنطن أن تحاول دفع بكين لجعل مبادرة الحزام والطريق، بمشروعاتها الضخمة للبنية التحتية، تتماشى مع قيود اتفاقية باريس للمناخ، كما ينبغي أن تشجع نيودلهي على الوفاء بالتزاماتها الدولية، وتحثّ برازيليا على حماية غابات الأمازون المطيرة. ويجب أن يصبح تغير المناخ أولوية قصوى ومستدامة لدى مجموعة السبع ومجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية.

 إن التقدم على كل هذه الجبهات -الديمقراطية، التكنولوجيا، الهجرة، المناخ – مترابط ترابطاً جوهرياً. وإذا لم تعزز واشنطن الديمقراطية وتقاوم النزعة القومية الاستبدادية، فإن العمل الجماعي اللازم لمعالجة الهجرة الجماعية، وتغير المناخ، والأوبئة، سوف يكون مستحيلاً. فليس من قبيل المصادفة أن الدول التي تعاملت مع جائحة كوفيد 19 بأسوأ صورة -البرازيل، وروسيا، والولايات المتحدة- يقودها يمينيون متطرفون ذوي نزعة قومية ويستخدمون التكنولوجيا أداةً للتضليل، وشيطنة الأقليات، وتجاهل تغير المناخ. وليس من المصادفة أيضاً أن يؤدي انهيار الديمقراطية الأمريكية إلى ظهور نموذج بديل تمثله الصين. والاستجابة لهذا التحدي لا تكون باعتناق حرب باردة جديدة مع الحزب الشيوعي الصيني، بل من خلال متابعة مشروع وطني أوسع يمكن أن يعيد تنشيط الولايات المتحدة ويعزز العمل الجماعي في الخارج.

نحو استثنائية أمريكية جديدة

مثلما يجب القضاء على الانقسام بين السياسات الخارجية والداخلية، يجب أيضاً إزالة الفصل المصطنع بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. فقد أدركت القوى اليمينية في الولايات المتحدة وحول العالم أن السياسة الخارجية امتداد لمشاريعها السياسية المحلية، بينما كان اليسار متردداً بصورة تلقائية في المزج بين الاثنين.

سمح هذا التردد في الولايات المتحدة بأن يُنظر إلى جميع السياسات الخارجية وسياسيات الأمن القومي من منظور يميني. ولهذا الاتجاه جذور عميقة، بدءاً من انهيار مؤسسة الأمن القومي الليبرالية بعد حرب فيتنام، مروراً بتحويل الحزب الجمهوري لدوره في الانتصار في الحرب الباردة إلى أسطورة، ووصولاً إلى حقبة ما بعد 11 سبتمبر، عندما سعى قادة الولايات المتحدة إلى إظهار القسوة باعتبارها شكلاً من أشكال الشرعية. ويبدو أن النتائج الكارثية لأعمال التعذيب التي رعتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وعسكرة السياسة الخارجية، وغزو العراق، لم تحقق سوى إثارة عقيدة أكثر عدوانية، بل وحتى متعصبة، للاستثنائية الأمريكية. وبدلاً من معالجة إخفاقات السياسة الخارجية، سعى الحزب الجمهوري هذه المرة إلى إلقاء اللوم على الآخرين، حيث يبحث ترامب باستمرار عن الأشرار وكبش الفداء، من أوباما، إلى المهاجرين، إلى الحركة المناهضة للفاشية المعروفة باسم “أنتيفا”.

أما الحزب الديمقراطي فيتخذ بدوره موقفاً دفاعي دون داعٍ. حيث أدى جُبنه في عهد أوباما إلى الإحجام عن دعم مبادئ الحزب، حتى عندما كان الديمقراطيون يتخذون الموقف الصحيح من القضايا. والمثير للاستغراب أن سجن خليج غوانتانامو لا يزال مفتوحاً بعد مضي ما يقرب من 20 عاماً من أحداث 11 سبتمبر، ويكلّف ملايين الدولارات لكل سجين، فقط لأن معظم الديمقراطيين يخشون أن يوصفوا بالضعفاء. وخلال المناقشات الشرسة حول خطة العمل الشاملة المشتركة، شعر الكثير من الديمقراطيين بالحاجة إلى تخفيف دعمهم، فأصدروا تحذيرات متشددة حول أوجه القصور في الصفقة، وسردوا مراراً وتكراراً كيف أن إيران تُعدّ جهة فقاعلة سيئة. فما الذي يجعل الناخبين يختارون مرشحين أقل عدوانية في طول الانتخابات وعرضها إذا دُفعوا للاعتقاد بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران تتطلب اتخاذ موقف عدائي؟ إن الكثير من الديمقراطيين غير راغبين -أو غير قادرين- على تقديم الحجج اللازمة لإعادة تشكيل الرأي العام في مختلف القضايا، بما في ذلك الهجرة وتغيّر المناخ.

Biden watches Obama speak about the agreement of the Iran nuclear deal in Washington, July 2015

بايدن ينظر إلى أوباما وهو يتحدث عن الاتفاق النووي الإيراني في واشنطن، يوليو 2015

تتيح إخفاقات إدارة ترامب الفادحة فرصةً للتخلي عن هذا الأسلوب الدفاعي. فليس هناك داعٍ لأن يشعر الديمقراطيون بالتردد في مواجهة الأولويات المُضللة لدولة تستعد لتمزيق اتفاقيات الحد من التسلح وإنفاق ما يقرب من تريليون دولار لتحديث البنية التحتية للأسلحة النووية. فلماذا لا نُقنع الشعب الأمريكي أن إنفاق هذه الأموال سيكون أفضل في مكان آخر، وأن خوض سباق جديد للتسلح النووي يُعدّ ضرباً من الجنون؟ وحتى عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي يكون الرأي العام الوطني فيها مؤيداً لسياسات الحزب الديمقراطي إلى حد كبير -مثل إنهاء الحصار المُضلل وغير الإنساني على كوبا – فإن الخوف من إثارة غضب شريحة محافظة واحدة من الناخبين في عدد قليل من الأحياء في ميامي يثير قلق الحزب دائماً، فيطيل أمد السياسات التمييزية الفاشلة تجاه كوبا وفنزويلا.

الشيء الذي أدركه الجمهوريون دائماً هو أن الظهور بمظهر القناعة الراسخة والاستعداد للقتال من أجلها يتمتع بجاذبية أكبر من النهج غير السياسي والدفاعي. ولكن الآن في عام 2020، اتبع الجمهوريون منطقهم هذا نحو المجهول، فخانوا قيم الولايات المتحدة قولاً وفعلاً، ولاطفوا خصومها، وأخضعوا مصالحها لنزوات سياسية استبدادية غير كفؤة. ويوجد مجال كبير أمام الحزب الديمقراطي لكي يُثبت نفسه بصفته مدافعاً عن القيم الديمقراطية، والتحالفات القوية، والقيادة الأمريكية، ولكنه لن يحقق ذلك إلا إذا أخذ هذا المشروع على محمل الجد.

إن الديمقراطيين في حاجة إلى آفاق أوسع. فقد أصبح المشروع السياسي للحزب الجمهوري الذي ازداد تطرفاً نحو اليمين على مدار العقد الماضي متورطاً مع حركات يمينية أخرى في البرازيل، وهنغاريا، وبولندا، وروسيا، والمملكة المتحدة، وبلدان أخرى. وتشترك الأحزاب اليمينية في الغرب على وجه الخصوص في مصادر التمويل، ومنصات الإعلام والمعلومات المضللة، والاستراتيجيات السياسية، والمستشارين. فكان ترامب بصفته رئيساً جريئاً في محاولته تعزيز الحظوظ السياسية للحكام المستبدين الذين لديهم تفكير مماثل.

يجب على التقدميين ألا يتحاشوا الأبعاد الدولية لهذه المعركة. وينبغي على إدارة بايدن أن تُعارض بلا تردد حملات اليمين لتغيير السياسة في الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى. ومثلما وجه الشعبويون اليمينيون ردة الفعل العنيفة على الأزمة المالية لعام 2008 ضد الليبرالية نفسها، فينبغي على إدارة بايدن أن تبذل كل ما في وسعها لضمان أن تُصيب ردة الفعل العنيفة على الأزمة الاقتصادية الحالية الهدف الصحيح: مجموعة القوميين اليمينيين حول العالم الذي لم يتمكنوا من إيجاد حل لعدم المساواة الهيكلية، والفساد، وإخفاقات الحكم التي أدت إلى صعود النزعة الشعبوية في المقام الأول. وعلى الرغم من وجود حدود ضرورية لما يمكن أن تفعله الإدارة الأمريكية، إلا أنه يجب على الحزب الديمقراطي والتقدميين الأمريكيين أن يسعوا إلى التعاون بصورة منهجية مع الأحزاب التي لديها طريقة تفكير مماثلة في جميع أنحاء العالم. وينبغي على التقدميين الذين يعملون في الولايات المتحدة في قضايا مثل حقوق التصويت، والإصلاح الديمقراطي، والعدالة العرقية، أن يعمّقوا التنسيق مع التقدميين في الأماكن الأخرى من العالم، وأن يتعلموا ويدعموا بعضهم البعض.

 ويجب على الديموقراطيين، من أجل تحقيق النجاح، أن يدافعوا عن شكل مميز من الاستثنائية الأمريكية، وهنا يكمن الاختلاف العميق بين الحزبين: فبالنسبة للحزب الجمهوري الذي اختار ترامب ليكون حامل رايته، يبدو أن هناك اعتقاداً يجعل ذلك الاختيار صحيحاً، وهو أن حجم ميزانية الدفاع في البلاد، واستعدادها للسعي لتغيير النظام، وتأكيدها بشدة على القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وهويتها بصفتها طليعة الحضارة المسيحية التي يغلب عليها العرق الأبيض، تُضفي على الولايات المتحدة طبيعة استثنائية متأصلة. أما بالنسبة للديمقراطيين، ولا سيما التقدميين، فهناك اعتقاد بأن الحق يصنع القوة، أي أن قدرة الولايات المتحدة على تصحيح عيوبها في الداخل، وهويتها باعتبارها ديمقراطية متعددة الثقافات ترحب بالمهاجرين، وتمسكها بسيادة القانون، واهتمامها بكرامة الناس المتأصلة في كل مكان، هي التي تُعطي البلاد الحق الأخلاقي في القيادة.

كان النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة إنجازاً هائلاً مزج عناصر كلتا النظرتين إلى العالم، لكن واشنطن مرت بأفول تلك الحقبة. وخلال الصحوة التي شهدها الأمريكيون هذا الصيف في شوارعهم، أصبح أمام البلاد الآن فرصة لتشكيل ما سوف ينشأ من انهيار القوة الأمريكية العظمى خلال أزمة كوفيد 19. وقد وصف بايدن آفاق رئاسته بأنها جسر إلى المستقبل، وفرصة لاستعادة الشعور بالحياة الطبيعية في الداخل والخارج، مع التقدم نحو ولايات متحدة من نوع مختلف. وينبغي أن تشمل هذه الجهود قيام نوع مختلف من النظام العالمي، نظاماً تتولى فيه الولايات المتحدة القيادة دون إملاء الشروط، وتعيش بموجب المعايير التي تضعها للآخرين، وتحارب عدم المساواة العالمية بدلاً من تأجيجها.

 خلال حديثه ضد حرب فيتنام والفقر، حذّر مارتن لوثر كينغ جونيور ذات مرة من أن “مشكلة العنصرية، ومشكلة الاستغلال الاقتصادي، ومشكلة الحرب، كلها مرتبطة ببعضها البعض”، وهي كذلك اليوم أيضاً. ويمكن لحركةٍ تصرّ على هذه الحقيقة، ورئاسةٍ تعكسها، أن تواجه اللحظة المحفوفة بالمخاطر وتبني جسراً نحو أمّة وعالم أكثر استعداداً لتحقيق العدالة والمساواة والسلام.

شاهد أيضاً

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …