إعداد: القسم المهني – هيئة علماء المسلمين في العراق
الشرق اليوم- يعدَّ التعليم في أيّ بلد من بلدان العالم ركيزة أساسية من ركائز التقدم والنهوض، فهو عنوانها الأكبر وسرّ تقدمها في مختلف مجالات الحياة؛ لذلك يكون محل اهتمام ورعاية دائمًا، فتحرص البلدان على تطوير تعليمها، والنهوض به، حيث يتم اختيار أفضل الكفاءات التدريسية، وأحسن طرق التدريس، فضلًا عن الرقي بالمناهج والمعدات المختبرية ووسائل العلم الحديثة والأبنية.
ومعلوم أن العراق كان من أفضل بلدان المنطقة في هذا الجانب، فمنذ عقود طويلة تعود إلى الثلث الأول من القرن العشرين؛ بدأت خطوات بناء التعليم بكافة فروعه، ليكمل أحدها الآخر وفق خطط محكمة؛ بغية الوصول إلى المستوى المطلوب، فكانت البعثات إلى الخارج للدراسة في التخصصات النادرة والعلمية على وجه الخصوص، فضلًا عن بناء المدارس والمعاهد والكليات الإنسانية والعلمية.
بعد هذه العقود من السنوات بدأ العراق يجد له مكانًا في عالم العلم والمعرفة، وكانت ثمار ذلك تخريج أجيال من أهل العلم في كافة التخصصات الإنسانية والعلمية؛ بحيث وصل العراق في سبعينات القرن الماضي إلى الاكتفاء الذاتي في أغلب التخصصات، وتقديم المشورات والإعارات العلمية للبلدان العربية، وخاصة المجاورة منها.
ومن الجدير بالإشارة إليه في هذا الصدد أن خريجي الدراسة العراقية المبتعثين لإكمال دراساتهم العليا في الخارج كانوا لا يُختبرون أحيانًا في بعض البلدان – بحسب شهادة بعض ممن أكملوا دراساتهم في بريطانيا مثلًا – لما تملكه الشهادة العراقية من رصانة علمية يشهد لها القاصي والداني.
بدأ واضحًا تأثير الحصار – الذي فُرض على العراق عام 1991م – على التعليم وخاصة الكليات العلمية التي تكون بحاجة إلى التواصل الدائم مع العالم، ومتابعة كل ما هو جديد في المجال العلمي بالنظر إلى البحوث المنشورة والتجارب الحديثة، فضلًا عما وصلت إليه أدوات البحث العلمي من تقدم، فحاول الباحث العراقي أن يجتهد في سبيل الوصول إلى المستوى العلمي الذي يليق به وببلده الذي له قصب السبق قياسًا إلى دول الجوار والمنطقة.
واقع التعليم بعد الاحتلال
وقع الاحتلال الأمريكي الغاشم على العراق سنة 2003م، وبدأ العد التنازلي السريع لواقع التعليم عمومًا والتعليم الجامعي خصوصًا، وكان لهذا التراجع أسباب عديدة ومعطيات كثيرة، جديرة بالنظر إليها بكل اهتمام، ومنها:
أولًا: غياب التخطيط عن مجمل النشاطات الاقتصادية والتعليمية بسبب العشوائية في القبول والتصرفات الانتقائية للوزراء المتعاقبين على هذه الوزارة.
ثانيًا: قبول الطلبة خارج الخطة الاستيعابية للكليات، – فعلى سبيل المثال – تستوعب بعض الأقسام العلمية قرابة 500 طالب؛ فيقبل 800 طالب، وهذا يؤثر سلبًا على العمل في المختبرات التي ليس فيها العدد الكافي من الأجهزة فمثلًا المختبر يستوعب (100) طالب وممكن (120)، ويأتي عدد الطلبة المقبولين (250) طالبًا، فكيف ممكن استيعابهم، وهذا مستحيل؛ مما سيؤثر سلبًا على الطالب ومستواه العلمي؛ بسبب عدم أخذ الوقت الكافي لعمل التجارب، وانعدام فرصة المختبر العملي، فعلى سبيل المثال في كلية طب الأسنان بالجامعة المستنصرية، يحتاج الطلبة أربع قاعات للحشوات، والمتوفر واحدة فقط، فضلًا عن عدم تناسب عدد الطلاب مع عدد الأساتذة المتخصصين.
يحتاج الطالب أسبوعيًا إلى ست ساعات كما في مقرر مادة (operative)، ونظرًا لكثرة عدد الطلاب، وقلة الأجهزة والمقاعد والقاعات تختصر الساعات إلى النصف أو الأقل، وبالتالي تكون نسبة الساعات العملية قياسًا إلى الكليات العالمية ما يعادل 30% أو أقل.
أسباب تراجع المختبرات
أ. قلة المختبرات والتجهيزات واندثار بعضها.
ب. قلة الأجهزة وقِدم بعضها.
ج. ضعف الجانب العملي في الكليات العلمية.
د. قلة الدورات لأساتذة المختبرات وعدم اعتماد معايير الدورات لترقيتهم.
ر. تحول الجانب العملي في المختبرات إلى كتابة تقارير فقط.
وفي زيارة لبعض الكليات العلمية الحكومية اتضح أن بعض الأجهزة التي تُستورد لا تكون بالكفاءة المطلوبة، وعدم صيانة أجهزة الحاسوب، فضلًا عن تنصيب برامج الحاسوب غير الأصلية من النت؛ مما يؤثر سلبًا على عملها وبالكفاءة المطلوبة، وكل هذا بسبب الفساد الإداري، وغياب الرقابة، ومن هنا يضطر الطالب إلى السفر خارج القطر لإكمال تجاربه العملية على حسابه الخاص؛ مما يكلفه كثيرًا.
ثالثًا: تأسيس كليات وأقسام جديدة دون وجود ملاكات علمية وكفاءات قادرة على إدارتها، فضلًا عن عدم التخطيط المسبق وجدوى الإنشاء لهكذا كليات وأقسام، – وكأن الكليات عبارة عن بنايات فقط -.
رابعًا: تنحية الكفاءات العلمية والخبرات الواسعة والضغط عليها وإضطرارها للهجرة خارج القطر بحجج ومسوغات عديدة.
خامسًا: تولي إدارات الجامعات والكليات على أساس الحزبيات والمحاصصة بعيدًا عن معايير التدرج الوظيفي والكفاءة واللقب العلمي.
سادسًا: غياب الاستراتيجية العلمية تمامًا وتقديم المصالح الشخصية، وانتشار المحسوبية في التعيينات على حساب معايير الكفاءة والعلمية والتخصص.
سابعًا: عدم تناسب الأعداد الكبيرة للطلبة مع البنية التحتية للكليات من قاعات الدراسة والمختبرات.
ثامنًا: انعدام التخطيط بين مدخلات ومخرجات الطلبة، فالخريجون لا مجال لتعيينهم وخاصة الإنسانية والهندسية، لقلة المعامل والمصانع، فضلًا عن غياب الرؤية المستقبلية لما يحتاجه البلد من تخصصات فنية ومتوسطة، فالبلدان عادة تفتح كليات أو معاهد بالتخطيط المسبق ليكون العمل تكماليًا بين جميع الوزارات.
تاسعًا: غياب سلطة القانون، وجعل الأستاذ الجامعي الحلقة الأضعف من خلال سيطرة الأحزاب والميلشيات والمحسوبيات والعشائرية والمناطقية، وبما يؤثر تأثيرًا سلبيًا على الأداء العلمي للأستاذ تجاه الطالب.
التعليم الأهلي وآثاره السلبية على واقع التعليم
ومما يؤشر على تدني واقع التعليم الجامعي في العراق بعد 2003م، ظهور الكليات الأهلية وبأعداد غير مسبوقة بعيدًا عن المعايير العلمية والضوابط حيث تتبع معظمها لأحزاب وسياسيين، وبالتالي أصبحت مجالًا للكسب المادي وتحول التعليم إلى تجارة.
ومن تأثير الكليات الأهلية سلبيًا على التعليم اعتمادها الأقسام العلمية كالطب والصيدلة وغيرها من الكليات العلمية التي تحتاج كفاءات علمية ومختبرات لا تتوفر أصلًا بالكليات الحكومية التي مضى على تأسيسها سبعة عقود وأكثر، فالمعيار التي يتم قبول الطالب في الكليات الأهلية هو معيار المال، فالطالب الذي لديه معدل (70) مثلًا، ولديه مال ممكن يدرس الطب داخل وخارج القطر، أما الطالب الفقير الذي معدله (90) فيذهب إلى معهد أو كلية عادية، فضلًا عن أقساط الدراسة التي تعتمد على قيمة المعدل فطالب طب الأسنان أو الصيدلة يكون قسطه (7) ملايين ونصف دينارا إذا كان معدله 90% فأكثر، و ويدفع (8) ملايين دينار إذا معدله أقل من 90%.(ينظر: دليل الطالب للقبول في الجامعات والكليات الأهلية للعام 2019م – 2020م، ص37).
ومن الأسباب الأخرى على تدني مستوى التعليم الجامعي:
1. منافسة طلبة الكليات الأهلية ذوي المعدلات الفلكية لطلبة الكليات الحكومية في الدراسات العليا، على الرغم من الفارق بين المعدلين في درجاتهم بمرحلة الإعدادية.
2. غياب الاتجاه العملي في الكليات الأهلية العلمية، فطالب طب الأسنان لا يعمل بمقدار نصف عمل الطالب بالكليات الحكومية – التي هي بالأصل لا تعمل بعدد الساعات المقررة رسميًا- ؛ بسبب عدم توفر المرضى الذين يراجعون الكليات الأهلية، ولانعدام المستشفيات فيها.
3. الكليات الإنسانية منها ما يكون في بنايات عادية أو بيوت صغيرة مستأجرة لا تصلح للاستخدام ككلية؛ مما يقلل من قيمة الكلية الاعتبارية والشكلية ويحرم الطالب من شعور الانتماء والاعتزاز بكليته.
4. المشاركة في إفراغ الجامعات من الأساتذة والتخصصات الدقيقة بحيث يعمد بعضهم إلى التقاعد بخدمة قصيرة (15) سنة مثلًا، ثم يذهب للتعاقد مع كلية أهلية؛ لارتفاع مرتباتها وخاصة المجموعة الطبية كطب الأسنان والطب العام والصيدلة. المعالجات تاثير السلبي
5. التساهل في منح الدرجة والتحايل على بعض السياقات الأكاديمية؛ وبما يؤثر سلبًا على مقياس التعليم العالي في العراق في هذين العقدين من الزمن، فبالنظر إلى معدلات طلاب الطب الأهلي تجد ارتفاع المعدلات العالية التي تتجاوز نسبة الطالب الكلية 90%، وهذا يكاد مستحيلًا في الكليات الرصينة.
وما سبق ذكره هو جزء يسير مما أصاب التعليم الجامعي في العراق بعد سنة 2003م، والذي به تُعرف قوة البلدان، فلا تقدم للبلاد دون تطور تعليمها؛ لأنه العِماد الذي تقوم عليه حركة وتطور البلدان في كافة المجالات.
ومن خلال النظر في دليل القبول في الجامعات والكليات الأهلية للعام 2019م – 2020م في موقع وزارة التعليم العالي يتضح الآتي:
1. الكليات المعترف قبل عام 2003م كان عددها (10) توزعت في بغداد (6)، والبصرة والأنبار والموصل وديالى، بواقع كلية واحدة فقط في كلٍ منها.
2. عدد الجامعات والكليات الأهلية المعترف بها بعد عام 2003م في وزارة التعليم العالي بلغ (58)، بينما العدد الكلي تجاوز (100)، وهذا يدل على مؤشر خطير في افتتاح الكليات دون موافقات مسبقة، إما بتأثير شخصيات سياسية ذات نفوذ أو أحزاب، وكان توزيعها على النحو الآتي: بغداد (27)، كربلاء (6)، النجف (5)، البصرة (4)، ذي قار (4)، بابل(3)، كركوك (3)، ديالى (3)، صلاح الدين (2)، الموصل (2)، والمثنى(1)، واسط (1)، مسان (1)، (ملاحظة زيادة عدد الكليات هنا على المجموع الكلي (58)؛ لأن بعض الكليات له فرع في أكثر من محافظة، كما في الدليل).
وبالمقارنة يتبين لنا الفرق الكبير في إزدياد العدد المعترف به، فضلًا عن الكليات غير المعترف بها والتي تجاوزت (100) كلية كما سبق.
أما فيما يتعلق بهيمنة الأحزاب وذوي النفوذ السياسي على معظم الكليات الأهلية؛ لأنها خير وسيلة للكسب المادي وغسيل الأموال، بغض النظر عن جودة التعليم ورصانته وفق المعايير المتعارف عليها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الإشارة إلى بعضها:
1.جامعة البيان، طارق نجم، وعبد الحليم الزهيري، قياديون في حزب الدعوة.
2.كلية الآمال الأهلية الجامعة، همام حمودي القيادي بالمجلس الأعلى.
3.جامعة الإمام جعفر الصادق، الشيخ حسين بركة الشامي القيادي السابق في حزب الدعوة.
4.معهد العلمين للدراسات العليا، عائلة محمد بحر العلوم.
5.كلية السلام الجامعة الأهلية، قياديون في الوفاق الوطني.
6.كلية التراث الجامعة، حيدر العبادي وآخرين.
7.كلية مزايا الجامعية، ذي قار، عائلة محمد باقر الناصري.
8.كلية بلاد الرافدين، ديالى، سلمان اللهيبي.
9.كلية الإسراء الجامعة، بغداد، نوري المالكي.
10.كلية المستقبل، بابل، النائبة حنان الفتلاوي.
وبهذا يتضح تراجع المستوى العلمي في التعليم الجامعي، في جوانب كثيرة وخاصة الكليات العلمية، وأنه تحول إلى تجارة تستهدف الكسب المادي على حساب التحصيل العلمي.
ولا يخفى ضعف الجانب الرقابي على الكليات الأهلية؛ بسبب مجاملة الكليات الأهلية والخوف من أصحابها لنفوذهم السياسي، والانفلات الأمني، وتأثيرهم على صانع القرار في وزارة التعليم العالي، فضلًا عن الاستثناءات في معدلات القبول وإضافة درجات على المعدل. (ينظر: دليل الطالب للقبول في الجامعات والكليات الأهلية، ص 12 -13).
الرؤية والمعالجة
سيبقى الحال على ما هو عليه، وربما يزداد سوءًا سنة بعد سنة، طالما بقيت المحاصصة والحزبية والتجارة تسيطر على التعليم، وسيخرج لنا جيل من أنصاف المتعلمين في كافة التخصصات على مدى السنوات الماضية والمقبلة، وبالتالي سيكون تأثير هذا سلبيًا على المجتمع، وكل نواحي الحياة في البلاد من صحة وتعليم وصناعة.
إن تطور التعليم في العراق وانتشاله من واقعه الحالي يحتاج أولًا إلى علاج الفساد الإداري المستشري في دوائر الدولة عمومًا والتعليم على وجه الخصوص، فضلًا عن الاعتماد على أصحاب الكفاءة والنزاهة من ذوي الخبرة في مجال التعليم والإدارة.
ولا تكفي النيات الحسنة، بل لا بدَّ من وضع خارطة طريق واضحة المعالم، لإعادة هيبة التعليم الجامعي على وجه الخصوص إلى ما كان عليه، ومواكبة التطور في العالم على كافة المستويات، وتقنين التعليم الأهلي بقوانين صارمة بعيدًا عن نفوذ الأحزاب والسياسيين.