بقلم: إبراهيم أحمد
الشرق اليوم- إذا كان صوت انفجار بيروت قد سُمع في قبرص؛ فإنه – على مستوى الضمير – سُمع في كافة أنحاء العالم، بكل ما حمل من دخان ودماء ودموع، فأثار كثيراً من الأسئلة، وأيقظ كثيراً من الوعي والمراجعة؛ خصوصاً على مستوى دول كبرى كانت قد تركت لبنان لمصيره تعود اليوم لتتواصل معه، وقد تكون زيارة الرئيس الفرنسي لبيروت فاتحة لتواصلات أخرى مع المجتمع الدولي!
ولشدة التشابه بين النظامين السياسيين: اللبناني والعراقي، فقد كانت أصداؤه في العراق سريعة؛ لكنها اختلفت بنوعها ومستوياتها بين الأحزاب والميليشيات، والشعب وطبقاته المختلفة!
ربما أكثر التفاعلات وضوحاً وبساطة، الدعوات التي انطلقت من مثقفين وجماهير عراقية واسعة، تطالب «الحشد الشعبي» وميليشياته الإيرانية بتصفية وسحب مخازن أسلحتها وأكداس عتادها الكثير والرهيب من الأحياء السكنية. وأصدرت الحكومة – كما قيل – أوامر بجرد وتصفية المواد الكيماوية القابلة للاشتعال في المنافذ الحدودية، والتخلص منها بطرق آمنة؛ لكنها لم تتحدث عن سلاح الميليشيات المبثوث هنا وهناك. وما زال «الحشد» وميليشياته يلتزمون الصمت والتجاهل واللامبالاة حيال ما يجري، وربما أعينهم على ما سيصدر من «حزب الله» في لبنان، وما يوجهه ملالي طهران لهم من أوامر!
ولكن هذا كله أبسط ما يُقرأ من الدرس اللبناني الذي دفع اللبنانيون في حلقته الراهنة أرواحاً كثيرة غالية، وثروات باهظة، وفي غضون ثوانٍ! الدرس الأهم هو قراءة جوهر التجربة اللبنانية الأخيرة التي سبقت العراقية بكثير!
للبنان درسه الخاص الذي اخترق إليه طريقاً طويلاً امتد لما يقارب نصف قرن، اكتظ بأهوال وكوارث وفواجع كثيرة، لعل أهم سماته أن قراره قد انتُزع من أيدي أبنائه قسراً وظلماً وعدواناً، وصار نهباً لأيدي ونزوات قوى خارجية كثيرة، يطول الحديث في أسمائها وملامحها، ولكنها اليوم وفي نهاية المطاف هيمنة إيرانية تفننت في الخبث والمراوغة وتبديل الألوان والأقنعة!
ما عانى العراق منذ 2003 ولا يزال من حرب طائفية ومد «داعشي» دموي تدميري، انتهى ليكون كما لبنان تحت الهيمنة الإيرانية، ولم يعد سيد نفسه!
سيطرت إيران على لبنان بواسطة «حزب الله» بدعوى مقارعة إسرائيل، وما سُمي حروب المقاومة المزعومة، والتي لم تجلب للبنان سوى الخراب والفساد والتوتر الدائم وتعطيل كل شيء، ووضعه تحت عباءة «حزب الله»!
وسيطرت على العراق بواسطة أحزابها الإسلامية الطائفية وميليشياتها و«حشدها الشعبي»، بحجة مقارعة «داعش»!
أضحت مزايدة ملالي إيران بالقضية الفلسطينية على العرب والفلسطينيين أنفسهم مفضوحة، فهي ليست سوى قناع لمشروعها التوسعي في المنطقة! وليس مبالغة قول بعضهم: لو لم تكن إسرائيل موجودة لصنعها هؤلاء الملالي؛ بل هم جعلوا من دولتهم إسرائيل أخرى تجتهد في إيذاء العرب واستنزاف طاقاتهم وتعميق فرقتهم. لقد اخترعت لـ«حزب الله» حكاية مزارع شبعا! فاتحة جبهة مفتعلة لحرب لا نهاية لها، كان لبنان ولا يزال لا يحتاجها، إنما يحتاج الاستقرار والبناء وتوفير الخدمات الأساسية لشعبه الذي أنهكته حروب الآخرين! ليس من قبيل التكهنات أن إيران ساهمت إلى حد كبير في صنع «داعش»، وسهلت عبر عملائها احتلالها المدن الغربية والشمالية من العراق، للانتقام من نقيضها الطائفي!
اللبنانيون والعراقيون اليوم يعيشون حالة واحدة من ضياع الوطن، وحياتهم مهددة بالفناء والتلاشي والشقاء لزمن طويل. وحين لا يكون الحكم بيد أبناء الوطن فلا بد من أن تكتنفه شتى ظواهر الفساد والإفلاس وانعدام الخدمات والخراب والانحلال والتفسخ، فهذه هي التربة التي تقبل بقاء إرادة الشعب مشلولة مخترقة! كما يعيشون معاً أجواء ثورة شعبية تطالب بالتغيير، وإسقاط الفئات الحاكمة الحالية بكل رموزها؛ خصوصاً تلك التي تدعي القداسة، والمدعومة إيرانياً!
ذلك يحتم على العراقيين واللبنانيين أن يقرأ كل منهما تجربة الآخر! ويستفيد منها كي لا تتكرر الأخطاء والمآسي ولا تُدفع التكاليف مضاعفة!
ما زال كثير من العراقيين ينتظرون من الحكومة حل الميليشيات، وحسم أمر «الحشد الشعبي» الذي لم تعد تفهم طبيعته وأهدافه وحقيقته، في ظل وجود جيش كبير، وقوات مسلحة ضاربة! وها هو الدرس اللبناني يشير إلى استحالة ذلك، فاللبنانيون منذ سنوات وسنوات يدعون «حزب الله» إلى أن يلقي سلاحه ويعمل سياسياً كغيره، وهو يتجاهل دعواتهم ويستهتر بطلبهم المشروع، ويصر على مزيد من السلاح، وامتلاك قرار الحرب والسلم، حتى في سوريا واليمن، ولا يستحي من قوله إنه امتداد للزخم الإيماني الجهادي في إيران، وإن تمويله منها!
بهذا يكون على العراقيين أن يدركوا أن ميليشيات إيران ستبقى تهمل دعواتهم لسنوات أخرى، وتخزن مزيداً من السلاح؛ بل ستفتح لهم «ألف شبعا وشبعا» مع جيرانهم وأشقائهم من العرب خاصة!
إذا كان «حزب الله» بقبضته على عنق لبنان قد أوصل لبنان إلى هذه الحال من الدمار والعذاب، فأين سيصل العراق الذي تمسك بعنقه أكثر من سبعين ميليشيا ولائية لخامنئي؟
في لبنان جاء الرئيس الفرنسي ماكرون مبشراً اللبنانيين بأنه سيقف إلى جانبهم لتغيير أوضاعهم وإقامة نظام جديد يحظى بثقة الشعب؛ خالٍ من الفساد، وقادر على بناء حياة جديدة، وهو يدرك أن ذلك لا يمكن أن يتحقق في ظل هيمنة الإيرانيين و«حزب الله» عليه بجيشه وسلاحه. هل في مشروعه بند يتعلق بنزع سلاح «حزب الله» وإعادة لبنان للبنانيين بقوة دولية، كما تردد في بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية؟ حتى الآن لا توجد مؤشرات واضحة ودقيقة حول ذلك، وهذا يعني أن الوضع في لبنان سيبقى على ما هو عليه، وكأن الصدمة الكبرى قد هشمت زجاج البيوت والمؤسسات فقط، وتبعاً لذلك وقياساً على الدرس نفسه، سيبقى وضع العراق كذلك، ولا أمل للبلدين إلا بثورتيهما!