بقلم: د. باهرة الشيخلي
الشرق اليوم– تناقضت المعلومات عن زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى طهران، وما جرى في كواليسها؛ الجيش الإلكتروني التابع له، قال إن الكاظمي تعامل مع الإيرانيين معاملة الند للند، وتحدث معهم بقوة، بشأن تدخلهم في الشؤون الداخلية. ليرد عليهم المشككون ساخرين أن الإيرانيين أملوا عليه ما يتخذ من خطوات، إذا أراد أن يبقى رأسه على كتفيه، وطلبوا منه أن يكفّ عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية!
على أيّ حال، انتشرت معلومات على مواقع التواصل الاجتماعي، بمجرد عودة الكاظمي إلى بغداد، تقول إن مصادر مرافقة له أفادت بما يأتي:
تأخر نزول الكاظمي من الطائرة بانتظار مسؤول التشريفات الإيرانية وكان التأخير متعمداً.
استقبل الكاظمي من قبل وزير الطاقة، ولم يستقبله رئيس الحكومة، كما هو متعارف عليه بروتوكولياً.
لم يعزف السلام الجمهوري العراقي، كما هو معهود في مثل هذه الزيارات في المطار.
لم يستعرض الكاظمي (حرس الشرف الإيراني) في المطار.
المحادثات مع روحاني كانت تعليمات للكاظمي وليست مباحثات، تضمنت:
رفع الميزان التجاري لصادرات إيران إلى 20 مليار دولار (بمعنى تخصيص ربع ميزانية العراق لإيران).
رفض إيران استيراد الكهرباء من السعودية، أي (رفض مشروع الربط العربي للكهرباء).
فتح المنافذ الحدودية لزيادة تصدير المنتجات الإيرانية.
تقليل التبادل التجاري مع تركيا إلى الحدود الدنيا بحجة العدوان التركي على العراق.
عدم التعرض أمنياً أو إعلامياً للفصائل التابعة لإيران.
إن أغلب، وربما كل ما جاء على لسان هذه المصادر، صحيح، لأننا سمعناه يتردد على لسان المرشد الأعلى الإيراني خامنئي، عند لقائه الكاظمي، وعلى لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني، في المؤتمر الصحافي المشترك مع الكاظمي في طهران.
وقد اضطرت بعض معلومات المصادر المذكورة مساعد مدير مكتب الرئيس الإيراني لشؤون العلاقات والإعلام علي رضا معزي، إلى الاعتراف أن إيران خالفت البروتوكول في استقبال الكاظمي، مسوغاً ذلك بالقول: إن التغيير بمراسم استقبال رئيس وزراء العراق، سببه التقید بالبروتوكولات الصحية المرتبطة بتفشي كورونا.
وحمل حديث المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي مع الكاظمي الكثير من التلميحات، وحتى التهديد المبطن، عندما قال: إن بلاده ستوجه ضربة لأميركا رداً على قتل القائد البارز بالحرس الثوري قاسم سليماني، وأن بلاده لن تتدخل في علاقة بغداد بواشنطن، لكن تتوقع من الأصدقاء العراقيين أن يعرفوا أميركا ويدركوا أن وجودها في أيّ بلد يسبب الفساد والدمار والتدمير.
وطبعاً الضربة، التي هدد خامنئي بتوجيهها إلى أميركا ستكون على أرض العراق، وعلى يد الميليشيات الموالية لها، وهو ما ينذر بعواقب سيئة سوف يتحملها العراقيون، في حال تنفيذ هذا التهديد.
ومما قاله خامنئي أيضاً إن “الجمهورية الإسلامية تتوقع الالتزام بقرار البرلمان (العراقي) طرد القوات الأميركية حيث أن وجودها سبب لانفلات الأمن”.
وطبعاً، غالبية أعضاء البرلمان هم من الأحزاب الموالية لإيران، وهذا تدخل واضح في الشأن العراقي من جانب خامنئي، الذي زاد محرضاً عندما أشار إلى مقتل سليماني “لقد قتلوا ضيفكم في بيتكم واعترفوا بذلك بوقاحة”، مضيفاً أن إيران “لن تنسى أبدا هذا وستوجه بالتأكيد ضربة انتقامية للأميركيين”.
لكن بعض ما قاله الجيش الإلكتروني للكاظمي صحيح أيضاً، فقد قال في مؤتمر صحافي مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في طهران، وبنحو خجول: إن الشعب العراقي توّاق إلى علاقات تعاون مع إيران وفق خصوصية كل بلد، ووفق مبدأ عدم التدخل في الشأن الداخلي.
ما تهمنا هي الإملاءات الواضحة، التي وردت في كلمة روحاني، في المؤتمر المشترك مع الكاظمي، ومما جاء فيها قوله “إن هناك إرادة لدى البلدين لرفع التبادل التجاري إلى 20 مليار دولار، واستكمال العمل على ربط السكك الحديد بين البلدين”.
مختصر القول إن ما حدث في زيارة الكاظمي إلى إيران لم يكن مباحثات متكافئة بين بلدين، بل كان إملاءات (قسرية) انطلاقا من اعتقاد طهران أنها صاحبة القرار والرأي والنفوذ وليس على الكاظمي إلا أن يسجل مطالب طهران ويسعى إلى تنفيذها، (إذا أراد أن يحتفظ بجلده).
إذا أراد الكاظمي أن يكون عراقياً حقيقياً، عليه أن يقرأ ميثاق الحرية، الذي دوّنه شهداء ثوره تشرين العظمى، وأول بند فيه هو استعادة الوطن من مغتصبيه، والذي يقضي أن يبدأ بعملية “تعريق” القرار السياسي ليضع أول لبنة في استقلال البلاد، وينهي سياسة “التفريس” التي عمت بلاد الرافدين وتسللت إلى قطاعات الدولة كافة.
هنا يتعين على الكاظمي أن يستعين بشباب العراق، صانعي الحلم والذين “استرخصوا أرواحهم” ليبقى العراق عظيما، هذا إذا قرر الكاظمي أن يكون ابن هذا البلد.
وعليه، وهذا يبدو ضرباً من المستحيل، في ظل تسيد الميليشيات الولائية، أن يأمر بمقاطعة السلع والبضائع الإيرانية، وإعادة تشغيل المصانع العراقية، وفضح جرائم الحشد الشعبي في دعم إيران وفي استنزاف الاقتصاد العراقي، وأن ينهي عقد شراء الكهرباء من إيران، وبالنسبة إلى الزيارات الدينية، عليه أن يأمر بعدم منحً الزائر الإيراني تأشيرة إلا بعد تحويل ما يعادل 300 دولار أميركي، مصروف جيب في العراق.
قال لي الدكتور محمد طاقة، أستاذ الاقتصاد السياسي، عضو اللجنة الاستشارية في اتحاد الاقتصاديين العرب، في حديث هاتفي طويل، إن إيران تمكنت من الاستحواذ على الاقتصاد العراقي، بعد سنة 2003، من خلال توقيع عدد من الاتفاقيات مع حكومات بغداد، التي خفضت تعرفتها الجمركية أمام السلع والبضائع الإيرانية، لتتراوح بين الصّفر والخمسة في المئة، وكذلك ألغت عمليات الرقابة على الصادرات الإيرانية للعراق لتيسير حركة التجارة بين البلدين، حيث أصبح العراق الرئتين اللتين تتنفس إيران من خلالهما.
ويتربع العراق، الآن، على المرتبة الأولى مستورداً للسلع والبضائع الإيرانية غير النفطية، إذ يستورد ما بين 75 و90 في المئة من مجموع السلع الإيرانية المحلية، حتى وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2018 إلى نحو 18 مليار دولار.
وطلب الجانب الإيراني من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، خلال زيارته إلى إيران، رفع الميزان التجاري إلى 20 مليار دولار، وهذا يعني، مسبقاً، تخصيص ربع ميزانية العراق لإيران، كما طلب منه فتح المنافذ الحدودية لزيادة تصدير المنتجات الإيرانية.
رفض الجانب الإيراني أن يستورد العراق الكهرباء من السعودية، أي أنه رفض مشروع الربط العربي للكهرباء، لأن العراق لو فعل ذلك ستتوفر الكهرباء بنحو مستمر وسيتحرك الاقتصاد العراقي بمجمله، وبالأخص في القطاع الصناعي والزراعي والخدمات، وهذا ما سيؤثر على التبادل التجاري بين البلدين، علماً أن إيران تبيع الكهرباء للعراق سنوياً بنحو 3 إلى 4 مليار دولار، وهي تشتري مشتقات النفط منه بثمن بخس وتعيد تصديره إليه.
وحول إلحاح إيران على العراق ألاّ يستورد الكهرباء من السعودية، أوضح لي المهندس الاستشاري، سحبان فيصل محجوب، وزير هيئة الكهرباء الأسبق، أن إيران حددت سعر الوحدة المباعة للعراق بـ12 سنتاً للوحدة، وهو ما يعادل قرابة الضعف من الأسعار المعمول بها عالمياً، والمرتبط أساساً بأسعار الوقود. كما تصدّر إيران للعراق وقود الديزل اللازم لتشغيل المحطات داخل العراق بسعر 85 سنتاً للتر، بالإضافة إلى الغاز.
إن الطاقة الكهربائية عامل مهم في تحقيق الاستقرار، وبقاء العراق معتمداً على إيران في تجهيز كمية من هذه الطاقة، لسد قسم من الحاجة المحلية، سوف يجعل العراق، بالنتيجة، مجاملاً لها في المواقف السياسية على حساب المفاهيم السيادية المعروفة، وبهذا سوف يصبح العراق، مكرها، تابعا فاقدا للاستقلالية في العلاقات الدولية.
لذا ليس مفاجأة أن تعرقل إيران تسويق الطاقة إلى العراق من دول أخرى، لتظل هي في موقع المسيطر، والعراق في موقع المجامل، فإيران رهنت اقتصاد العراق كله لمصلحتها، ولن تسمح له أن يحرر اقتصاده من سيطرتها.