إعداد: الشرق اليوم – قسم الدراسات
الشرق اليوم- منذ موافقة البرلمان العراقي في 7 مايو 2020 على تشكيل الحكومة العراقية برئاسة، مصطفى الكاظمي، تتجه الأنظار نحو سلوك هذه الحكومة؛ فيما يتعلق بالأهداف التي وضعتها، والتي اعتبرتها واجبة التحقيق؛ وذلك للخروج من حالة اللاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، إلى جانب الأزمة الصحية التي يمر بها العراق بسبب جائحة “كورونا”.
وأحد هذه الأهداف التي تكلم عنها الكاظمي مراراً هو حصر السلاح في يد الدولة العراقية، وهنا يدور النقاش بشكل رئيسي ومنفرد حول طبيعة العلاقة بين المؤسسات الرسمية العراقية بشقيها المدني والعسكري، وبين هيئة الحشد الشعبي التي أُنشئت بالاستناد على فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقتها المرجعية الدينية في النجف، بهدف قتال “داعش” عام 2014.
لكن وبعد الانتهاء من الحرب على الإرهاب بشكل شبه نهائي، صار لزاماً على الدولة العراقية أن تنظر في أمر الوضع القانوني والسياسي للفصائل المسلحة المكونة للهيكل التنظيمي للحشد الشعبي، وذلك لاعتبارات داخلية تتلخص في ضرورة التعامل مع الواقع المعيشي الصعب الذي أنتج حراكاً شعبياً وشبابياً غاضباً يشتد زخمه بين الفينة والأخرى، والذي ينادي بتحقيق العديد من المطالب؛ من ضمنها: تعزيز الحياة المدنية، وإعادة بناء الدولة بعيداً عن الطائفية والفوضى المسلحة.
وهناك اعتبارات خارجية تتعلق بظهور قناعة لدى إحدى تيارات النخبة الحاكمة في العراق حول ضرورة انتهاج سياسة مغايرة على الصعيد الإقليمي، وبعبارة أكثر وضوحاً، هناك العديد من المعطيات التي تشير إلى إعادة صياغة العلاقة الخارجية مع الجارة الشرقية؛ إيران، التي اعتادت على التدخل في الشأن العراقي على جميع الأصعدة، حيث أصبح – أي الشأن العراقي – من أهم الملفات بالنسبة للسياسة الخارجية الإيرانية خلال الـ 15 عاماً الماضية.
وبهذا الصدد، كان رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، قد أصدر في مطلع يوليو 2019 مرسوماً يقضي باندماج فصائل الحشد الشعبي مع الجيش العراقي، وهذا ما يتناقض مع قرار مجلس النواب العراقي الذي مرّر القانون رقم (40)، حيث يعتبر هذا القانون هيئة الحشد الشعبي قوة عسكرية رديفة للجيش العراقي تأتمر بتوجيهات قائد الجيش العراقي. ولم يلقَ مرسوم عبد المهدي استجابة من قبل قيادات الحشد الشعبي، إذ جرى النظر إليه على أنه مطلب أمريكي بغلاف رسمي عراقي يهدف إلى تذويب الحشد الشعبي في المؤسسة الرسمية العراقية.
هل يفرض الكاظمي واقعاً جديداً؟
مع تسلُّم الكاظمي منصب رئاسة الوزراء، بدا هناك تعاملاً أكثر اتساقاً مع ملف السلاح المنفلت خارج إطار الدولة، حيث قام جهاز مكافحة الإرهاب في يونيو 2020 بمداهمة مقرّين لكتائب حزب الله العراقي التابع لهيئة الحشد الشعبي، واعتقل 14 عنصراً، وقام بمصادرة قاعدتين لإطلاق الصواريخ، وذلك بعد نحو 8 أشهر من الاعتداءات المتقطعة على المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد؛ والتي تُعتبر الحي الدبلوماسي الذي يحتضن عدداً كبيراً من سفارات الدول الأجنبية، حيث يُعتقد أن الكتائب هي من تقف وراء هذه الاعتداءات، بل وكانت تخطط أيضاً لتنفيذ اعتداءات أخرى ضد أهداف حكومية في تلك المنطقة.
لقد كانت العلاقة متوترة دائماً بين الكاظمي، وبين هذا الفصيل بالذات، حيث وجه الأخير اتهاماً واضحاً وصريحاً لرئيس الوزراء الجديد بأنه كان متواطئاً للتخلص من قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ومن نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، اللذين اغتالتهما طائرة مُسيّرة أمريكية بالقرب من مطار بغداد في مطلع عام 2020، إلا أن الحادث الأخير – المتمثل في مداهمة مقري الكتائب – تم التقليل من شأنه عبر “صُلحة” تمّت بين قيادات الحشد الشعبي وبين قيادة جهاز مكافحة الإرهاب الذي يديره الفريق الركن، عبد الوهاب الساعدي، حيث يحظى الساعدي بشعبية كبيرة لدى المجتمع العراقي دفعت رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، لإعادته إلى جهاز مكافحة الإرهاب بعد قيام رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، بإبعاده عنه.
إن الحكومة الحالية والجهاز الرسمي العراقي بشكل عام لا يرغبان – أو بالأحرى غير قادرَيْن – على القضاء على الحشد الشعبي كذراع عسكري، وذلك لعدم توفر الجاهزية اللازمة للتعامل مع التبعات الاجتماعية والأمنية لهذا الخيار. وعوضاً عن ذلك، فإن هناك توجهاً يتنامى داخل دائرة صنع القرار التنفيذية حول ضرورة إعادة توجيه بوصلة هيئة الحشد الشعبي نحو الداخل، بحيث ينسجم دورها مع مسار قيام مشروع عراقي مستقل عن الحسابات الإقليمية وسياسات المحاور.
في هذا السياق، تأتي مداهمة مقر كتائب حزب الله في العراق التي سبقتها مداهمة وإغلاق لمقر حركة “ثأر الله الإسلامي” في البصرة في مايو 2020، بالإضافة إلى إبعاد رئيس هيئة الحشد، فالح فياض، عن منصبين مهمين؛ هما: رئاسة جهاز الأمن الوطني، ومستشارية الأمن الوطني، لصالح كل من: عبد الغني الأسدي، وقاسم الأعرجي على التوالي، والأعرجي هو قيادي سابق في منظمة بدر، ويُعتقد أنه يمتلك علاقات جيدة مع دول الجوار العراقي.
إن قيام الكاظمي من خلال حكومته بإرسال رسائل إلى إيران لا يتوقف فقط على قراءة مغايرة في المعادلة الأمنية، بل أيضاً على الصعيد الاقتصادي، حيث كشفت مصادر في حكومة الكاظمي عن أن هناك مراجعة للاتفاقيات التي أبرمتها حكومة عادل عبد المهدي مع نظيرتها الإيرانية، خلال زيارة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى بغداد في مارس 2019، حيث يتم النظر حالياً إلى هذه الاتفاقيات (التجارية والخدماتية) على أنها لا تلبي مصالح المجتمع العراقي.
لا يجب أن يُفهم من مساعي تحجيم دور هيئة الحشد الشعبي في الحياة السياسية والأمنية العراقية، أن الحكومة الحالية أو ما سيأتي شبيهاً لها في المستقبل، تعمل على نقل العراق – كقاعدة أمنية وسياسية وما ينبثق عن ذلك من علاقات اجتماعية – إلى الطور المدني، فهذا الأخير من الصعب جداً تحقيقه في القريب العاجل بسبب الظروف المحلية والإقليمية.
وفي المقابل، لا يمكن اعتبار هيئة الحشد الشعبي بنية واحدة على درجة عالية من التجانس والتنسيق، بل هناك خلافات عميقة وصلت في أبريل 2020 حد انشقاق الألوية التالية عن البناء الهيكلي للحشد الشعبي؛ وهم: “أنصار المرجعية”، و”فرقة العباس القتالية”، و”فرقة الإمام علي”، و”لواء علي الأكبر”؛ ليتم إلحاقهم بقوات الجيش العراقي، ما أعطى مظهراً من مظاهر الخلاف في الولاء للمرجعيات الدينية بين “قم” في إيران وبين “النجف” في العراق، باعتبار أن الألوية الأربعة أعلنوا عن ولائهم للمرجعية الشيعية في النجف.
هل يسعى الكاظمي إلى حل الحشد أو تفكيكه من خلال اللعب على وتر التناقضات السياسية بين مكوناته؟
تنطوي إجابة هذا السؤال على الكثير من التكهنات، فزيارة الكاظمي إلى مقر هيئة الحشد الشعبي في منتصف مايو 2020، فسّرها البعض على أنها استعراض لقوة الحكومة، باعتبار أن الألوية التي انشقت في أبريل كانت حاضرة إلى جانب الكاظمي، بينما رآها البعض الآخر رغبة من القائد الأعلى للقوات المسلحة – أي رئيس الوزراء ذاته – بحل الخلافات داخل مؤسسة الحشد، وقد يكون هذا الطرح الأخير منطقياً بعض الشيء.
وليس من المتوقع أن ترضى فصائل الحشد الشعبي بالتخلي عن موقعها السياسي والاجتماعي دون بديل يُرضي أغلب قادتها، وستقوم بالضغط على الحكومة باستخدام مختلف الوسائل الشرعية – من خلال البرلمان، ووسائل الضغط الأخرى.
في الوقت التي تحاول فيه حكومة الكاظمي ضبط الملف الأمني، اغتيل الخبير الاستراتيجي والأمني، هاشم الهاشمي، في يوليو 2020 على يد مجهولين. وهو كان من أشد المتحمسين لفكرة حصر السلاح بيد الدولة، كما أنه كان مقرباً من رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، الذي تعهد بالقصاص من القتلة، ناهيك عن العلاقة الجيدة التي كانت تجمع بينه وبين رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، عبد الوهاب الساعدي.
ما من ضمانة لا تجعل حادثة اغتيال الهاشمي فاتحة لمسلسل جديد من الاغتيالات، يضاف إلى مشهد العنف الفوضوي الذي تفاقم خلال المظاهرات الشعبية المندلعة منذ أكتوبر 2019، وما يدعم ذلك الطرح هو وجود “عصبة الثائرين” التي أعلنت عن نفسها في مارس 2020 متبنيةً للهجوم على قاعدة التاجي شمال بغداد، والذي أودى بحياة جنديَيْن أمريكيين وجندي بريطاني، ويُعتقد أن كل من: “كتائب حزب الله في العراق”، و”حركة النجباء”، و”عصائب أهل الحق”، هي من تقف وراء تأسيس “عصبة الثائرين” للقيام بعمليات أمنية من الصعب أن يتم تبنيها من قبل فصائل “حشدية”.
الخاتمة
إن الظروف الداخلية والخارجية التي يمر بها العراق، تدفع الحكومة العراقية الحالية إلى إعادة النظر في حدود النفوذ الإيراني في البلاد، وهنا لا يمكن إغفال الوضع الداخلي في إيران الذي يعاني من أزمة اقتصادية حادة، مدفوعة ومتفاعلة مع اشتداد التناقضات بين التيارات والشخصيات المكونة للنظام السياسي هناك، وهذا يعني – بشكل من الأشكال – اختلافات في وجهات النظر تجاه إدارة السياسة الخارجية الإيرانية التي يحتل العراق أولوية فيها، وبمعنى آخر من الممكن أن يكون هناك خلاف إيراني – إيراني حول دور الحشد الشعبي في العراق، فتركيز طهران على النفوذ العسكري ارتطم بمؤسسات مدنية لا تذهب مع المصالح الإيرانية إلى آخر الخط.
من الممكن القول إن الكاظمي يطمح لأن يكون العراق وسيطاً بين المتنازعين في المنطقة، لكن لكي يتم تحقيق هذا “الطموح” لا بد من أن تُخرج العراق نفسها من سياسة المحاور ومعادلة الاستقطاب الإقليمية. أما المعضلة الأخرى، هي أن إيران والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما من الدول المرتبطة – بهذا القدر أو ذاك – بالشأن العراقي، لا يرون في العراق وسيطاً أو دولة يمكنها أن تمارس الحياد الإيجابي، بل يرونها كساحة للتنافس السياسي والعسكري وحتى الثقافي.
لقد أثبتت ثنائية (الحرس – الجيش) فشلها على الساحة السياسية العراقية، هذا إن غضضنا الطرف عن مدى نجاح التطبيق الإيراني لهذه الثنائية، لكن يبقى التحدي متمثلاً في الآلية الرسمية التي سيتم من خلالها تجاوز هذا الفشل دون الانجرار إلى حالة انفلات أمني يكون فاتحتها صدام بين الجيش العراقي وبين فصائل الحشد الشعبي.