بقلم: عمار الحكيم
الشرق اليوم- بدأ صراع الدولة واللادولة منذ أن شهد العراق تغييرات جوهرية في نظام الحكم. وقد شهدنا أشكالاً مختلفة من الحكومات تمظهرت بمظاهر عديدة، منها دولة المكونات ودولة الأحزاب. وفي الغالب كانت ترتكز على تقسيمات فئوية أدت إلى ضعف في منظومة الدولة المنشودة بعد التغيير، وصولاً إلى هذا المقطع الزمني الذي سيكون نقطة التحول القادم في حسم هذا الصراع، فإما الدولة أو اللادولة. ومن هذه النقطة ستبدأ ملامح الدولة بالتشكل والنضوج.
إن دولة المؤسسات هي القاعدة التي انطلق منها المشروع السياسي لشهيد المحراب. وقد لخص هذه الرؤية بمقولات عديدة، أبرزها رفض الحاكم العسكري والوصاية الدولية، ورفض استبدال ديكتاتور بآخر، والمضي في دولة المؤسسات المبنية على رأي الشعب. هذه الدولة هي التي يمكن أن تحقق شرط العدالة الاجتماعية وتنهي ظاهرة التقسيمات بكل أشكالها وتبريراتها.
بيد أن ذلك الهدف، لم يكن مفهوماً من قبل بعض الشركاء، أو ربما كان مصنفاً ضمن خانة الشعارات ولم يؤخذ به، فكان المنهج عبارة عن تأسيس سلطات بعيدة عن مفهوم الدولة.
لقد استثمرت بعض الحكومات المواقع لأغراض ضيقة، ولا سيما أن بعض الممارسات التي اتبعتها تلك الحكومات والوزارات كانت ظاهرياً تسعى لخدمة الشعب، غير أنها على المدى البعيد لم تكن تفعل سوى مزيد من الانهيار للدولة. وقد تكلمنا عن هذه الحقيقة مراراً وبوضوح كامل، ولا سيما بعد الاستقرار النسبي الذي شهدته الساحة العراقية في العام 2010 والذي مثل فرصة حقيقية لفرض دولة المواطنة.
لكن الضجيج المعروف كان يغطي على المشاريع الكبرى، وبالتالي وقع ما كنا نحذر منه بعد أقل من دورة انتخابية.
وفي هذا المقام لا بد من التفريق بين مصطلحين يترددان بشكل دائم في مشهد اليوم، هما «الصالح العام» و«الرأي العام». فطيلة التجارب السابقة التي أشرنا إليها كان الأول ينسجم مع ما ذهبنا إليه، وكان الثاني يتماشى مع توجهات تعاكس أطروحاتنا لسبب أو لآخر، وهو موقف سرعان ما انقلب على نفسه وبات يتبنى مواقفنا تلك، ولكن بعد فوات الأوان.
إن مصالح البلدان بحاجة إلى استقراء موضوعي وجرأة ملموسة في ابتكار الحلول. ونتيجة لإدراك هذه الحقيقة، فقد طرحنا مبكراً مفهوم «الدولة العصرية العادلة» في الوقت الذي كانت الأزمات تشتد والخطابات التقسيمية هي التي تتسيد المشهد. ويقوم هذا المفهوم في فكرته الأساسية على تحقيق مشروع دولة المؤسسات، مع الأخذ بالاعتبار المستجدات التي طرأت وتطرأ على المشهد العراقي برمته، بما يضمن تحقيق المساواة بين الجميع.
إن مبدأ المساواة الذي يشكل نواة مفهوم «الدولة العصرية العادلة» سيحقق بالضرورة سيادة الدولة، ومن ثم فإنه سيؤدي قطعاً إلى تراجع «اللادولة» وانحسارها عملياً ونظرياً، وهنا ستغادر البلاد مرحلة «الوعي المشوه» الذي ترتكز عليه بعض المشاريع الانتخابية التي تجد في الانقسامات الطائفية والقومية مادتها الرئيسية كما كان ذلك ينعكس بشكل واضح في الحملات الدعائية.
ورغم ذهاب بعض الآراء إلى غياب إمكانية قيام الدولة في ظل التخندقات الطائفية والقومية التي تتأكد مع ارتفاع مناسيب الخطاب التقسيمي ووسائل تكريسه في الشارع، إلا أن إمكانية قيام الدولة تشهد فرصة كبيرة ومهمة مع تراجع أسهم الخطاب الطائفي الضيق ورفضه من قبل الجماهير، خصوصاً عند الأخذ بنظر الاعتبار المقومات الهائلة والاستثنائية التي يمتلكها العراق، سواء على المستوى الاقتصادي أم السكاني أم الجغرافي والبعد الجيوسياسي بشكل عام.
إن استثمار تلك المقومات بما يخدم مصلحة الدولة سيفضي بالضرورة إلى صعود سياسي إقليمي يشهده البلد، فالعراق هو الدولة الوحيدة التي يمكن أن تنتهي فيها خلافات دول المنطقة وصراعاتها. وهذه الميزة الفريدة لن تتحقق إلا حين يقرر العراقيون أنفسهم أن يتحولوا ببلدهم إلى دولة.
ولعل أبرز تحديات قيام الدولة تكمن في التشبث بالنتائج السريعة التي تلامس العواطف ولكنها سرعان ما تقوض قيام دولة قوية ومقتدرة، إذ تبقيها أسيرة المصالح الحزبية والفئوية التي تؤدي إلى نشوء دويلات متعددة الولاءات والأهداف، وهو ما نصطلح عليه بــ«اللادولة».
ونعود لنؤكد هنا أن علينا أولاً ضمان احتكار الدولة للسلاح، وتحولها إلى سقف يضم جميع القوى والفعاليات السياسية والمجتمعية ليبقى أي اختلاف ضمن هذا السقف مشروعاً ومتاحاً، وما عداه يدخل ضمن توصيف الخروج عن القانون، وبالتالي فإنه يسير في طريق تقويض الدولة والتقهقر مجدداً إلى اللادولة.
إن التحديات التي نعيشها اليوم تشكل منعطفاً تاريخياً وفرصة كبيرة، وما علينا سوى أن نختار اتجاه «الدولة» ونصر عليه، وبالمقابل نرفض فوضى «اللادولة» وننأى عنها.