بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- يبدو أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ذهب إلى خيار غير صدامي مع الميليشيات المسلحة بتراجعه أمامها، بعد فشل عملية ليلة القبض على خلية الكاتيوشيا في منطقة الدورة ببغداد، رغم علمه المسبق بما تمتلكه تلك الميليشيات من إمكانيات التحدي الفوضوي الذي يهدد منصبه إذا ما اقترب من منظومتها العسكرية.
واقترن هذا التراجع بالإحباط الذي تركته عملية اغتيال الباحث الأمني المقرّب منه، هشام الهاشمي، والوثيقة المنشورة الخطيرة التي أوصى بنشرها إذا ما تعرض للقتل، وتحتوي في جانب منها معلومات موثقة عن تطويق ميليشيوي عسكري لبغداد وضواحيها ومخارجها، وجبايتها “إتاوات” مالية خاصة من السنة في نقاط تفتيش كثيرة.
كان الخيار الأول الذي تركه الكاظمي إلى حين في فرض سلطة الدولة أمنيا ضروريا وحتميا، إذا ما أراد التحرر من الغول الملتف حول عنقه بعد أن وصلت هيمنة الميليشيات الأمنية والتجارية إلى درجة تهدد كيان البلد، وامتناع الدول عن المخاطرة في وضع أقدامها الاستثمارية على الأرض العراقية نتيجة التقارير الميدانية حول الأوضاع الخطيرة التي نتجت عن غياب الدولة العراقية، وتعطل آليات مؤتمر الكويت للمانحين مثال على ذلك.
لا مفرّ أمام الكاظمي من الصدام مع كارتل النهب، ومافياته الميليشيوية، سواء اختار الميدان الأمني المباشر أو التجاري، فكلاهما يقودان إلى نقطة المواجهة الحتمية المباشرة مع تلك الميليشيات
لن تؤدي محاولات الهيمنة على المنافذ الحدودية إلى تحقيق مردود سريع لإنقاذ الاقتصاد العراقي، رغم أهميتها اللوجستية في تجفيف منابع الميليشيات، لسبب مهم هو أن المحاصصة الحقيقية والخصومات التي تحصل بين فترة وأخرى مدعومة بالسلاح الميليشيوي حول تقاسم النهب، مكانها ليس في صالة البرلمان ببغداد وإنما على طول حدود العراق الشرقية والجنوبية، حيث تعتمد موارد كل حزب وكل فرقة ميليشيا من مليارات الدولارات تبعا لقوة وزنها على الأرض، وفق سلسلة معقدة من المصالح، وقرب أو بعد كل فصيل من الحامية طهران، حيث النقطة الأخيرة لوصول عائدات النهب، التي يضغط نظامها للمحافظة على مستوياتها، بعد الطوق الاقتصادي الخانق الذي يلتف حول رقبته.
حين أعلن الكاظمي استعداده لدخول معركة المواطن العراقي ضد خصومه ممن أهانوه وجوّعوه، كان عليه أن يتحلى بمواصفات القائد السياسي الشجاع البعيد عن عباءة “الإسلام السياسي الشيعي” وهو تطور مهم، ومثل هذه المواصفات القيادية لا تتطلب في شروطها أن يكون ملما بعلم المخابرات أو الإعلام أو التواصل العام، فالإحاطة بهذه المرافق قد يكتسبها القائد السياسي بالتجربة، وليس مهما معرفته بتفصيلاتها الفنية، بل إن المعارك الكبرى قد تدفع القائد السياسي إلى عدم الاستسلام إلى المعلومات الاستخبارية والأمنية أو التقارير الفنية في مجالات الاقتصاد والسياسة، التي قد توهم القائد وتوقعه بالمشاكل إن لم يكن ملهما في رؤيته لصورة الغد.
ليس عيبا على القائد السياسي المبادرة إلى تغيير خيارات المعركة، والمناورة في صفحاتها، دون أن يفقد الأولويات أو يضيع في تفاصيل تبعد المخاطر عن خصم المواطن العراقي، وهي جحافل الميليشيات وأحزابها، لكن من المهم مواجهة الخصم من حيث لا يعلم وضربه في الخاصرة الموجعة له.
ولا نشك إن الكاظمي لديه العزم على دخول معركة جادة، رغم ما يحيط به من خصوم، وهم قادة الأحزاب الموالية لطهران، ولديهم ما يمتلكونه من إمكانيات إعلامية محلية وإيرانية، وما يعرف بجيوش الذباب الإلكتروني ورتل كبير من الإعلاميين المأجورين، مقابل مكتب إعلامي متواضع تابع للكاظمي لا يتعدى دوره ترديد أخبار وتحليلها على طريقة برامج الفضائيات السياسية. في وقت تحتاج فيه مثل هذه المعركة استنفار جميع الإمكانيات الثقافية، والإعلامية العراقية والعربية النزيهة، البعيدة عن الدوافع الطائفية التي خرّبت البلد.
معركة الهيمنة الحكومية على واردات العراق من غير النفط الرسمي، كالمنافذ البرية والبحرية وغيرها من أجل مواجهة العجز المالي الذي سببته الأحزاب، ليست مهمة سهلة، وهي الوجه الثاني لإمكانات الميليشيات والأحزاب العسكرية، ولا يمكن إنجازها بزيارة ميدانية لرئيس الوزراء، واتخاذه إجراءات بإقصاء موظفين حكوميين متورطين بالسرقة رغم أهميتها، لأن المتورطين الرئيسيين هم حيتان النهب من أحزاب وميليشيات، وهؤلاء لن يستسلموا بسهولة، فهم مافيا خطيرة لديهم امتدادات وتشعبات ومصالح داخل وخارج العراق.
وبما أن السلاح ما زال بيد تلك الميليشيات، وغيرهم من بعض المحسوبين على العشائر من الفاسدين واللصوص في منطقة البصرة، قد تصبح المعركة على مشارف الحدود الجنوبية والشرقية صدامية، تأخذ أشكالا تمردية لا بدّ للعقل المخابراتي في رأس الكاظمي، ليس أن يدركها وحسب، وإنما أن يضع لها حسابات وتدابير الرّد أيضا، وسط حملة تشكيك وتشويه من داعمي الميليشيات للقادة السياسيين كدعوتهم له إلى شمول المرافق الحدودية في كردستان بهذه الإجراءات وهي كلمة حق أريد بها باطل.
هناك تفصيلات كثيرة حول هذا المرفق المهم من واردات العراق الخاضعة للمافيا الحزبية والميليشيوية، فالمنافذ الحدودية البرية والبحرية تحولت من نقاط سيطرة حكومية إلى نقاط نهب الموارد التي تقدر بالمليارات. وقد عرضت قناة الحرة الأميركية في ديسمبر الماضي تحقيقا مصورا حول تورط ميليشيا العصائب بتهريب ما مقداره 300 ألف برميل من نفط البصرة، بما يقدر بـ7 مليارات دولار سنويا، إلى ميناء بوشهر الإيراني، وقد أغلق مكتب قناة الحرة ببغداد على إثر بث التحقيق.
وهناك عشرات التقارير الموثقة التي تفضح سيطرة الميليشيات على حقول نفطية في مناطق تابعة لمحافظة نينوى، مثل علاس، والقيارة، ونجمة، يتم نقل النفط منها عبر شركات خاصة إلى جنوب العراق.
الحقائق والأرقام مذهلة، لنهب واردات البلد من قبل الميليشيات خارج المسالك الرسمية، وفي تهريب العملة عبر مزاد الدولار، وتجارة المخدرات، وسلسلة طويلة متشعبة وصلت إلى درجة مبتذلة تمثلت في هيمنة الميليشيات على صالات القمار، ومراكز الدعارة، والاستيلاء على عقارات الدولة، وممتلكات المواطنين الفارين من “داعش” في مدينة الموصل.
وتمكنت الميليشيات الموالية لإيران من اختراق نظام “كي كارد” المركزي المخصص لدفع الرواتب الحكومية، عبر زج أسماء موظفين وهميين في النظام الإلكتروني، للحصول على أموال تبلغ قيمتها عشرات ملايين الدولارات شهريا.
أعلن الكاظمي استعداده لدخول معركة المواطن العراقي ضد خصومه ممن أهانوه وجوّعوه، كان عليه أن يتحلى بمواصفات القائد السياسي الشجاع البعيد عن عباءة “الإسلام السياسي الشيعي” وهو تطور مهم
المعلومات الموثّقة حول تهريب النفط ومافيا تبييض الأموال، كانت الجهات الأميركية الاستخبارية قد أوصلتها إلى رئيسي الوزراء السابقين حيدر العبادي، وعادل عبدالمهدي، وفق شهادات مسؤولين أميركيين يتابعون ملف تدفق الأموال العراقية إلى طهران.
وكان مايكل روبين، المسؤول السابق في البنتاغون، والكاتب في مجلة “واشنطن إكزامينر” قد نشر تقريرا بعد زيارة تقصّ له لبغداد، أشار فيه إلى أن المعادلة المالية باتت معكوسة الآن، حيث تستغل هذه الميليشيات نفوذها داخل مؤسسات الدولة العراقية، لتقديم الدعم المالي لإيران وللحرس الثوري الذي يدير هذه الميليشيات.
ليس من السهل على الكاظمي بعد هذه الخطوة الثانوية التي اتخذها في المنافذ الحدودية، التراجع مرة أخرى. ودخوله بهذا الملف لا يختلف إلا من حيث الشكل عن المداهمات الأمنية لكتائب الكاتيوشا، التي فقدت فاعليتها بعدما وضعت حكومة واشنطن التدابير الدفاعية عن سفارتها ببغداد، ولهذا يضطرون كل يوم إلى تفريخ عصابات جديدة، لاستكمال مشروع قتل العراقيين تحت عناوين فقدت سحرها السابق بين السذج.
وحين يمس الكاظمي هذا العصب الحساس لمنابع المال للأحزاب والميليشيات، ستثار حوله الزوابع، بما تمتلكه تلك العصابات من أسلحة وأدوات ضجيج إعلامي حول الوجود الأميركي في العراق، وهو ملف مقصود به إلحاق الأضرار الأمنية بالبلد وإنهاء أيّ عراقيل أمام الهيمنة الإيرانية، وقد تصل الكتل البرلمانية الشيعية، ولديها الأغلبية، إلى حد المطالبة بعزله برلمانيا، رغم عدم وجود إجماع شيعي ضده.
لا مفرّ أمام الكاظمي من الصدام مع كارتل النهب، ومافياته الميليشيوية، سواء اختار الميدان الأمني المباشر أو التجاري، فكلاهما يقودان إلى نقطة المواجهة الحتمية المباشرة مع تلك الميليشيات.