الرئيسية / الرئيسية / ساف من هنا وساف من هناك!

ساف من هنا وساف من هناك!

بقلم: محمد عبد الجبار الشبوط

الشرق اليوم- بعد مئة عام من ظهور العراق ما زلنا نتحدث عن بناء الامة وبناء الدولة في العراق. وهما مصطلحان قد يقابلهما باللغة الانجليزية مصطلح  nation-building؛ لكن مضمون المصطلحين باللغة العربية لا يتطابق مع مضمونه باللغة الانجليزية، لذلك أفضل استخدامهما باللغة العربية فقط دون الوقوع بايحاءات المصطلح الانجليزي.

يختلف مصلح بناء الامة عن مصطلح بناء الدولة بقدر الاختلاف في المعنى الذي يتضمنه كل مصطلح على حده. ففي اللغة العربية، فإن الدولة غير الامة، وبالتالي وعليه، فإني أتوقع أن تكون منهجية بناء الأمة مختلفة عن منهجية بناء الدولة. الأمة تعني، بأبسط معانيها، مجموعة من الناس تشعر بالانتماء الى هوية واحدة بحيث يكون بإمكانهم أن يستخدموا ضمير المتحدث الجمع “نحن” وهم مدركون لما يجمعهم، ولما يميزهم عن الضمير الغائب الجمع “هم”. الأمة هي نحن، اذا سلمنا بوجود روابط تجمعنا وتميزنا عن غيرنا. حين وضعت بريطانيا وفرنسا حدود العراق الحديث، كان هناك بشر في هذه الرقعة الجغرافية التي اطلق الإغريق عليها اسم  Mesopotamia  رغم أن سكانها القدماء كان يسمونها بأسماء أخرى مثل سومر واكد وبابل واشور، وأطلق العرب على قسم منها اسم العراق. وحين جاء الملك فيصل الأول ليحكمها، بعد أن استورده زعماء ثورة العشرين من الحجاز، قال: أنه لم يجد شعبا لا يحكمه. لم يكن يقصد أنه لم يجد بشرا يحكمهم، انما قصد ما قاله حرفيا:”اقول وقلبي ملآن اسى انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية…”. يقصد اذاً أنه لم يجتمع العراقيون على هوية وطنية واحدة. ولم تنجح الملكية التي نستعيد ذكرى سقوطها في 14 تموز من عام 1958 في خلق هذا الشعور المشترك بالهوية الوطنية الموحدة، رغم وجود عوامل كان يفترض أنها ستساعد على ذلك. وتغلب بهذه الدرجة او تلك الشعور بالانتماء الى هويات فرعية يتناسب التمسك بها عكسيا مع بناء الانتماء الواحد.

أما الدولة فهي ذلك الكيان الكلي الذي يجمع الأمة (الشعب) والأرض والحكومة، فيما يعتبره القانون الدستوري أركان الدولة، مجردةً عن وصفها القيمي. وقد تتطابق الامة مع الدولة وقد لا يحصل هذا التطابق.

 لكن المهم أن الذهن ينصرف حين استخدام مصطلح الدولة الى ما نعتبره مؤسسات الدولة والبنية التحتية لها، بدءاً من اسمها وعلمها ونشيدها الوطني وسلامها الجمهوري مرورا بالدستور والسلطات الثلاث والمؤسسات التربوية والصحية والاقتصادية الخ.

بعد الفراغ من بيان معنى المصطلحين أقول: إنهما يشيران على علم دقيق له اصوله ومناهجه وقواعده، فضلا عن محتواه الذي يحدد وجهة البناء سواء على صعيد الامة او صعيد الدولة.

ومن الناحية النظرية يفترض أن عمليتي بناء الامة والدولة انطلقتا مباشرةً بعد اعلان استقلال العراق، الذي نال الاعتراف الدولي بدخول العراق عام 1932 الى عصبة الامم التي كانت قائمة انذاك قبل أن تحل محلها الأمم المتحدة. لكن التطورات اللاحقة سواء في العهد الملكي أو في العهود الجمهورية، لم تكشف عن رسوخ الشعور الوطني الموحد ب (نحن)، وكانت الانقسامات العرقية والمذهبية والحزبية في المجتمع العراقي عميقة الى درجة استحلال الدم العراقي من قبل العراقيين أنفسهم قبل أن تأتي من غيرهم. فقد أظهر العراقيون من القسوة على أنفسهم، فيما بينهم، الى درجة تكفي لتآكل الهوية الوطنية المفترضة.

 وبعد التحرر من ربقة النظام الدكتاتوري، كان المؤمل ان يعاد بناء الدولة العراقية على أسس وطنية تعترف بالهويات الفرعية دون أضعاف الهوية الوطنية، لكن هذا لم يحصل بشكل يؤدي الى إقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق.

لم يحصل هذا لأسباب كثيرة لست في صدد بيانها الان، ما عدا القول بان عملية بناء الأمة والدولة علم، يمكن أن نطلق عليه اسم “الهندسة السياسية”، وهذا العلم ليس متوفرا بما يكفي. ولهذا عندما حللت عناصر مفردات مصطلح الدولة الحضارية الحديثة وجدت أن “العلم” بكافة اشكاله وفروعه يدخل عنصرا اساسيا في الدولة، وفي الحضارة، وفي الحداثة. وهذا ما ينبغي ان يكون كافيا لالفات نظر المعنيين من الطبقة السياسية ومن المواطنين على أهمية العلم في بناء الامة والدولة، ويتفرع من هذا أهمية النظام التربوي الحضاري الحديث الذي تقع على عاتقه مهمة بناء الامة من جهة، وتنشئة المواطنين الصالحين الفعالين القادرين على المساهمة الايجابية في بناء الدولة من جهة ثانية، خاصة وان بين العمليتين علاقة جدلية مستمرة على قاعدة “ساف من هنا وساف من هناك”.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …