بقلم: إبراهيم الزبيدي
الشرق اليوم- المقدمات تصنع النتائج. وما حدث في العراق في الأسبوع الماضي مقدمة لمفصلٍ حاد وعميق بين حال وحال آخر مختلف كليا، في السياسة والأمن والاقتصاد والسيادة وهيبة الدولة والدستور وسلطة القانون.
فرغم أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لم يكن راغبا ولا عازما على خوض حرب حاسمة وحازمة، بالقوة العسكرية الموالية له، مع الفصائل المسلحة المتمردة على الدولة، إلا أن تلك الحرب، باغتيال الشهيد هاشم الهاشمي، أصبحت مفروضة عليه، وليس أمامه إلا خوضُها برجولة وشجاعة، سواء أرادها أم لم يردها. أما إذا تهاون وتردد وخاف فسوف يسقط ويسقط معه شهداء كثيرون آخرون.
الكاظمي وعد بعدم النوم قبل أن يخضع قتلة الشهيد هشام الهاشمي للقضاء. وقال “إن الإجابة الوحيدة التي يتقبلها الشعب منا هي الإنجاز”، “ولن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا أبدا، ولن نسمح لأحدٍ بأن يحوّل العراق إلى دولة عصابات”.
حسنا، إن هذا كلام كبير وجميل، ولكنْ يتعذر تحقيقه بالهيئة التي شكلها القضاء الأعلى للتحقيق في جرائم الاغتيالات، والتي يبدو أنه ألقى عليها الحمل كله واستراح.
القضاء الذي لم يفعل شيئا بشأن جرائم الاغتيالات السابقة التي تجاوزت 142 شهيدا من علماء الوطن وخبرائه وقادته العسكريين والمدنيين، منذ 2003 وحتى تشرين- أكتوبر من العام الماضي، ولم يفعل شيئا، أيضا، بشأن الاغتيالات التي حدثت أيام الانتفاضة في ساحة التحرير والخلاني والناصرية والبصرة والحلة والكوت والنجف وكربلاء، والتي بلغ عدد شهدائها 600، رغم بشاعتها وخطورتها، وسُجلت ضد مجهول، لن يفعل أكثر ما فعله في السابق، خصوصا وأن قضاة الهيئة المذكورة يعلمون بأن دراجات بخارية وكواتم صوت أخرى في انتظارهم، ناهيك عن غضب حلفائهم قادة الأحزاب الحاكمة التي لا ترحم.
ولكن الإيرانيين، كما ظهر مؤخرا، قد اتخذوا قرارهم النهائي، واختاروا المواجهة الحازمة والحاسمة، ليس مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ومعاونيه ومستشاريه، إنما مع الجماهير العراقية الناقمة على حكم الميليشيات، ومع الحكومات الإقليمية والدولية التي أعلنت عن تأييدها للكاظمي، ولم تتوقف عن حثه على التخلي عن سياسة المراوحة الناعمة التي لا تنفع مع إيران وميليشياتها المتمردة على سلطة القانون.
فالذين اغتالوا الهاشمي معروفون، ربما ليس بالأدلة الجرمية الثابتة القاطعة بعد، ولكن بالقرائن والشهادات، وبالتهديدات التي تم تمريرها إلى الفقيد بواسطة أشخاص معروفين وموجودين في مقرات الميليشيات، أو بحمايتها، وليسوا بعيدين عن عين القضاء ولا عن يديه.
وإذا صدق رئيس الوزراء في وعده وأراد أن يلقي القبض على الفاعلين فإن عليه أن يقتحم أوكار الزنابير، ويتحمل لسعها قبل سحقها وتخليص الوطن من شرورها.
وهذا لا يمكن، بطبيعة الحال، أن يمر دون ثورة معاكسة تقوم بها الميليشيات، فقد تغزو المنطقة الخضراء، بدعم إيراني لا شك فيه، دفاعا عن هيبتها لدى الحرس الثوري الإيراني الذي أعلن أكثر من مسؤول كبير فيه مقرب من الولي الفقيه أن “الحشد الشعبي العراقي هو درع إيران القوي ضد من يحاول المساس بوجودها بأي شكل من الأشكال”.
واغتيال هشام الهاشمي، بالطريقة التي تم فيها وفي عز النهار، كان رسالةً علنية موجهة إلى الكاظمي، شخصيا، وإلى الشارع الذي يطالبه بالخلاص من سلاح الميليشيات، مفادها أننا نحن أصحاب القرار والحكومة والدولة وسلطة القانون، وعلى من يعترض أن ينتظر كلام الرصاص.
ويكرر الكاظمي القول مرارا وتكرارا بأن قبوله التكليف كان من أجل أن يخدم شعبه بثلاثة ملفات، هي اجتثاث الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة، واستعادة سلطة القانون.
ومصدر الحرج هنا هو أن هذه الملفات الثلاثة متلازمة ولا تقبل الفصل في ما بينها. أي أنها إما أن تتحقق مجتمعةً، وإما تهمل مجتمعةً، أيضا. مع العلم بأن تحقيقها لا يكون إلا بالصدام اللازم والواجب مع السلاح المتمرد، ومع الدولة الخارجية التي تديره وتستخدمه.
فما هو حاصل اليوم أن إيران العراقية في أسوأ حالاتها، بعد أن أهين نفوذها وتراجعت شرعية احتلالها، وتخلت عنها حاضنتها الشيعية التي كانت تمدها بالمال والرجال.
وقد أعلنها السفير الإيراني في العراق، إيرج مسجدي، بصراحة ودون خوف ولا حياء ولا مجاملة، فأكد “صعوبة إبعاد طهران عن المشهد العراقي، مع وجود قوات الحشد الشعبي”.
إذن، فلا الكاظمي بقادر على التراجع، ولا الميليشيات بقادرة على التهاون. ولا بد لهذه العقدة من حل.
أما الشعب العراقي فلا أمل له في إسكات كواتم الاغتيال إلا بالاستعداد للانضمام إلى الرجال الشرفاء في الجيش وأجهزة الأمن حين يدخلون، مختارين أو مجبرين، في الحرب القادمة مع الإرهاب المتدثر بالمقاومة وبالحشد الشعبي، فإنها الفرصة التي لا فرصة له بعدها للخلاص.
وأي جريمة اغتيال حدثت أو تحدث في أيّ مدينة عراقية، أيا كانت دوافعُها وظروفها، تعني أن الوطن قد تخلّى عن سلامة أبنائه وأمنهم وكراماتهم وأرزاقهم، وأنه لم يعد صالحا لعيش أحد من بني آدم، وصار على كل عراقي لديه بقية شرف وأمانة وشجاعة، ويرفض أن ينحني أمام حرامي، أو يُقبّل الأرض بين يدي جلاد، إما أن يحمل عصاه ويرحل، أو يقاتل حتى الدم الأخير، قبل أن تصبح الرصاصة هي رئيسة الجمهورية ورئيسة الوزراء ووزيرة الداخلية وقائدة الشرطة والجيش، في العراق الإيراني الديمقراطي الجديد.
وأخيرا، سؤال مهم. هل تكون جريمة اغتيال الهاشمي آخر الأحزان، والضارة النافعة، أم تضاف إلى الجرائم السابقة المرميّة وثائقُها في سلال المهملات؟