بقلم: إبراهيم الزبيدي
الشرق اليوم- نعم، لقد استمع إليها، وصار معلوما لديه أن الملايين العراقية المعذبة قد طفح بها الكيل، وذاقت ما يكفي من مرارة وظلم وفقر وتضليل وتجهيل، وأنها، منذ زمن طويل، تترقب ولادة القائد الوطني الشريف العفيف الشجاع لتجلسه في قلوبها، وتضعه، بكل احترام ومحبة، على الكرسي الذي شرفه عبدالمحسن السعدون، ومحمد فاضل الجمالي، وعبدالرحمن البزاز، وليس على الكرسي الذي أهانه وقتل هيبته إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وحيدر العبادي، وعادل عبدالمهدي.
لقد عودونا على أن نستقبل كلَّ رئيس وزراء جديد بالشك والريبة، وألا نتفاءل بمقدمه، وذلك لأن كل الذين زفتهم لنا الأحزاب الحاكمة الفاسدة، من 2005 وحتى 2020، بالتطبيل والتزمير والتبخير لم يكونوا عند حسن ظن العراقيين.
وكان من حقنا، تبعا لذلك التاريخ الأسود، أن نستقبل مصطفى الكاظمي دون حماس، وندعو إلى عدم التفاؤل كثيرا بمقدمه، وانتظار أفعاله لا أقواله، قبل أن نحكم له أو عليه.
ولكنه، والحق يقال، أظهر، لحد الآن، نية حسنة، وتجرأ على التحرش برؤوس الفساد الكبيرة، ولو بالتي هي أحسن، وبطريقة خطوتان إلى أمام وخطوة إلى وراء.
والذي فعله الخميس الماضي، على صغره، كان عملا يبشر بخير، حتى لو أطلق القضاء، المشكوك في استقلاله، سراح الذين اعتقلهم جهاز مكافحة الإرهاب. يكفي أنه أرسل إلى مواطنيه المنتظرين على نار، بهذه العملية الجريئة، رسالة مكتوبة بالحبر السري تقول، إن أكل العنب حبة حبة، لا تستعجلوا، فالحرب الشاملة مع الفاسدين والمزورين والمنافقين وجواسيس المخابرات الأجنبية، وهم الأقوى سلاحا ومالا، ليس هذا أوانها. وضمانُ الانتصار فيها يحتاج إلى حكمة وطول بال، وإلى دعم شعبي حقيقي يسند الظهر ويمكن الاعتماد عليه.
ولا بد من الاعتراف هنا بأن ما يستطيع الكاظمي فعله متواضع، بحكم الوضع العراقي السياسي والاقتصادي والصحي والأمني المعقد الحالي، وبأنه ليس المطلوب، جماهيريا، لإعادة الوطن إلى أهله بكامل الصحة والعافية والسلامة، مثلما أراده شهداء الانتفاضة، وكما يريده آباؤهم وإخوتهم وأخواتهم المتظاهرون.
ولكن أحدا من العراقيين لا يريد حرب شوارع دامية وشاملة يخوضها شرفاء الجيش والقوات المسلحة، الآن، مع الدولة العميقة، حتى وإن كانت جماهير واسعة تؤيدهم وتساندهم ومستعدة للتطوع معهم للقتال والتضحية والفداء.
الشعب العراقي، خاصة أجياله الجديدة الواعية، لن يفرح إذا اشتعلت شوارع الوطن وساحاته بنيران المدافع والصواريخ، فيصبح العراق سوريا ثانية، أو ليبيا أخرى، خربة لا تصلح إلا لسكن البوم.
الحاجة اليوم ماسة جدا إلى الصبر وحسن التخطيط ومهارة التدبير. ولا أفضل، في هذه الأيام، من ولادة الحزب المنتظر الشعبي الديمقراطي التقدمي العابر للطوائف والقوميات والأديان والمناطق، والمحرم على الانتهازيين والمنافقين وتجار الشعارات، لنضع أيدينا في يديه، ونكون من ناصريه وسانديه، ونحن بالملايين.
وإن كان الكاظمي قد استمع لزغاريد العراقيات الفرِحات بصولته الأخيرة، رغم صغرها، فإن عليه أن يفهم الرسالة، وأن يتأكد من أن ظهره محمي بشعبه، وليس بغيره. فهو وحده السند المتين، والمعين الصادق الأمين.
وليس بعيدا ولا غريبا أن يكون الكاظمي مدركا، مثلنا، لحقيقة أن الميدان الوحيد الضامن لخوض الحرب الحاسمة والانتصار فيها على جيوش الفاسدين والمزورين ووكلاء المخابرات الأجنبية، هو الانتخاب الجديد، ولكن بالاستعداد له بحكمة وروية وصبر.
ولو صحت الأنباء التي تقول إنه يخطط لتشكيل حزب شعبي يقوده ويخوض به الانتخابات القادمة، مع استمراره في صولاته التي تزعج تماسيح الدولة العميقة، وقراراته الإصلاحية المتأنية، فلن يكون هناك شك في أن عشرات الملايين سوف تلتف حوله، ولا شك، أيضا، في أن حزبا شعبيا من هذا الوزن، ومن هذا النوع، سيُكلل باكتساح صناديق الاقتراع.
هذا بعد تعديل قانون الانتخاب المغشوش الحالي ليصبح أكثر عدلا ونزاهة، وبشرط توفر الحماية الكاملة من قبل الجيش والقوات المسلحة لمراكز الانتخاب، لمنع تلاعب المتلاعبين، ولحماية الناخبين من إرهاب القتلة المستأجرين. وليس بعيدا أن يحصل على الأكثرية المطلقة من مقاعد البرلمان الجديد.
وعند ذاك، فقط، سيمكن القيام بتغيير ما ينبغي تغييره من الدستور، فتُحول الدولة العراقية إلى رئاسية يتولى رئاسةَ جمهوريتها ورئاسةَ وزرائها، في آن، واحدٌ تختاره الملايين بحرية وشفافية، ودون مساومات ومقايضات ومحاصصات، وبلا فتاوى مرجعية دينية أو قبلية أو ميليشياوية، وبلا وصاية أجنبية، ليقودها إلى شاطئ الأمان.
ومن الآن وحتى موعد الخلاص المنتظر الأخير، يستطيع الكاظمي أن يحجز له مقعدا بارزا، إما مع الخالدين المحترمين في تاريخ العراق والمنطقة، أو مع الفاشلين الخوافين وأنصاف القادة وأشباه الرجال، وأمره إلى الله. فقد وضعته الظروف في موقع الاختيار، وأصبح له وحده القرار.
ولكي يدخل في قلوب العراقيين ولا يخرج منها، عليه أن يواصل تعزيز بطانته بالرجال الشرفاء الأشداء، وينجد المظلوم، ويعيد المهجرين، ويبسطَ هيمنة الدولة على الموانئ والمنافذ الحدودية، ويستعيد ما يمكن استعادتُه من الأموال المسروقة، ويحرر الوزارات والمؤسسات من هيمنة الأحزاب الفاسدة، ويعين القضاء على الخلاص من سطوة المسلحين عليه.
إنه حلمٌ جميل، ولكن تحقيقه ليس بالمستحيل، إذا صحت العزيمة وتحالَف الشرفاء. فهل يفعلها الكاظمي، أم يخاف، ويجامل، ثم يسقط من أعين الملايين؟