بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- لا علاقة لتشكيل كيان ومؤسسة ما سمي بالحشد الشعبي في العراق بمعركة تحرير ثلث الأراضي العراقية من عصابات “داعش”، الوجه الثاني لفصائل الميليشيات المسلحة عام 2014، فقد اعترف عرّاب تلك الميليشيات، نوري المالكي، أن التحضير لقيام “الحشد” تم قبل وقت طويل من هذا التاريخ، وهو كلام أقرب إلى الصحة من دعاوى “قدسية الحشد” لارتباطها بفتوى المرجع الشيعي السيستاني.
علاقة الميليشيات بالأحزاب الدينية المذهبية في العراق علاقة متشابكة عقائديا ووظيفيا، وهي علاقة تبادل خدمات يصعب تفكيكها، والميليشيات هي الأنسب والأقرب لمناهج تلك الأحزاب في الفوضى والتخريب، وهي مناقضة لمنطق الدولة ومؤسساتها.
وليست كما تسمى “بالدولة العميقة”، لأن الدولة غائبة، ومراجع تلك الميليشيات اشتغلت على أن تكون البديل المؤسساتي للدولة العراقية، وهو بديل قائم على قواعد تعلن عن نفسها بأنها عقائدية، لكنها في الواقع أقرب إلى نظم المافيا. وهو السبب لأن يصبح العراق بعد عقد ونصف العقد خرابا ونهبا، وميدانا مفتوحا لنفوذ إيران.
ومع تعاظم الفساد، لدرجة لم تحصل في بلد آخر في العالم، لم تعد هناك حماية لرموز الأحزاب وقادتها، بعد أن لملمت انتفاضة الشباب مشاعر النقمة وحولتها إلى قوة دفع أربكت صفوف الميليشيات، وزعزعت ثقة الأحزاب بقدرة الميليشيات على إنهاء هذه الانتفاضة، عبر جرائم القتل والاختطاف وتشويه السمعة.
فانتقلت تلك الأحزاب إلى تنفيذ الورقة الإيرانية بمحاصرة الوجود الأميركي، والتلاعب بعواطف العراقيين، على أمل نقل المعركة وتحويلها إلى خصم خارجي، لكن المحصلة هي احتراق الورقة عبر تعاظم الغضب الشعبي ضد النفوذ الإيراني، وانتفاء القناعة بأن الأميركان متمسكون بالبقاء للمساعدة على الخلاص من تلك الميليشيات.
ما حصل بعد النجاح الذي حققته الانتفاضة أواخر عام 2019 وإجبار رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي على الاستقالة هو انتهاء عهد احتكار الإسلام السياسي الشيعي الخاضع كليا لإيران لمنصب رئاسة الحكومة، بمجيء مصطفى الكاظمي، ذي التوجهات الليبرالية.
وهو تطور يشير إلى تغيير بوصلة الحكم، وانتهاء سيطرة الميليشيات على شؤون السلطة، وانتعاش الآمال بدخول معادلة وخط سياسي جديد يلاحق تلك الميليشيات، بعد كشف خططها الإرهابية، وتهديدها للأمن الوطني العراقي ومصالحه العليا.
خصومة الميليشيات للكاظمي تدفع بها طهران بصورة غير مباشرة، لكي لا توحي بالتصعيد مع واشنطن في هذا الظرف الصعب الذي تمر به، إلا أن وصول الكاظمي فتح ملّف عملياتها الإرهابية وخرقها للأمن الوطني، الذي أثبتته حادثة كشف مقرات تحتوي صواريخ جاهزة للإطلاق في منطقة الدورة ببغداد، والقبض على البعض من أفراد كتائب حزب الله العراقي، ومعهم مستشار إيراني يوم 25 يونيو.
وهذه إستراتيجية يجب أن تتواصل، إذا ما أراد الكاظمي حماية العراق، والسيطرة على أمنه الداخلي، ومتابعة العمل السرّي للميليشيات في معسكرات السلاح المعد للاعتداء على دول الجوار العربية، خاصة بعد إطلاق الوعود بفتح علاقات انفتاح جدّية على بلدان الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات والكويت، إلى جانب الجار الأردن.
ردود فعل الميليشيات في شوارع بغداد على هذه الخطوة حملت طابعا استعراضيا، في تحدّ مباشر للكاظمي، والهتافات الداعية لإسقاطه دعمتها مواقف إعلامية منفعلة ومرتبكة لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وقادة الهيئات السياسية لتلك الميليشيات. وكان أخطرها تصريحات زعيم العصائب، قيس الخزعلي، الذي اعتبر تلك الخطوة مخططا لها أميركيا، وهدّد بالفوضى، محذرا الكاظمي بأن مهمة حكومته مؤقتة، إلى جانب بيانات نارية لميليشيا كتائب حزب الله والنجباء. والأدهى خروج ما يسمون بوكلاء الولي الفقيه الإيراني علي خامنئي في العراق للعلن، ببيانات منددة بخطوات الكاظمي، وكأن هذا البلد محمية إيرانية.
الإجهاز الاستباقي المنظم على مواقع الميليشيات، يحاصر زعماء السنين السابقة المرعوبين من احتمال تطور الحالة “الكاظمية” لتصبح مشروعا وطنيا ينهي أسطورة “الإسلام السياسي” المزيفة التي حكمت العراق. ولن يكون مستغربا أن تثور ثائرة الخائفين على مصيرهم الحتمي ليعيدوا أسطوانة “قدسية الحشد”.
بعض السياسيين الذين تدور حولهم الدوائر ويضيق الخناق عليهم، جراء ما اقترفوه بحق هذا الشعب العظيم، يتمسكون بخشبة واهية هي هذه القدسية المنسوبة للحشد، والتي تبتلعها اليوم أمواج الاستحقاقات الشعبية، معتقدين أنها ستنقذهم من مصيرهم.
لقد تمزقت الأوراق بعد أن أصبحت الساحة مكشوفة بين أبناء العراق وبين الأحزاب المتورطة بدماء أبنائهم، والناهبة لأكثر من 800 مليار دولار من أموالهم، وأشارت الأنباء إلى أن السلطات الأميركية قدمت قوائم بأسمائهم لحكومة الكاظمي.
لكي يثبت زعماء الدعوة أن محاربتهم لنظام صدام، التي يعتبرونها بطاقتهم الخضراء لحكم العراق، هي ليست بسبب علاقتهم بطهران خلال الحرب العراقية الإيرانية، عليهم التخلي عن الميليشيات المسلحة الموالية لنظام طهران.
ألا تعلم هذه الزعامات، التي تتبجح بمعاداة الأميركان والدعوة لإخراجهم من العراق، أن من أخطر جرائم منتسبي تلك الميليشيات عمالتهم لدولة أجنبية؟ بل لا يتردد قادة تلك الميليشيات في الإعلان عن ولائهم لطهران، وتنفيذ رغبات وأوامر الولي الفقيه، وهذا وحده كافيا لوضعهم تحت طائلة القوانين العراقية التي تنفذ بحق الجواسيس والخونة.
لقد تورطت الميليشيات الموالية لطهران بدماء عشرات الآلاف من العراقيين، قضوا أو اختطفوا تحت مشروع التغيير الديموغرافي في مدن كبيرة كالموصل وسامراء وديالى، وبعض أقضية الأنبار وحزام بغداد، وظلت لأكثر من خمسة عشر عاما تستخدم وزارة الداخلية وأجهزتها لتنفيذ سياسة القمع وتغييب المواطنين؛ فضائح السجون السرّية ببغداد وجرف الصخر أمثلة على تلك الجرائم.
الميليشيات تحولت إلى مافيا لسرقة موارد العراق في منافذه الحدودية بتقاسم بين الأحزاب، وكذلك السيطرة على مناطق الحدود الإستراتيجية مع سوريا والأردن والسعودية، خاصة مدينة القائم، لتأمين الخط الاستراتيجي طهران – بيروت.
لقد تضخم نفوذ هذه الميليشيات ليهدد كيان العراق، ويطال جميع المسؤولين في الحكومة، ويهددهم بالطرد إن لم ينفذوا برنامج تلك الميليشيات. وهذا ما يتصدى له مصطفى الكاظمي، الذي مدّ يديه إلى عش الدبابير؛ ولن يكون وحده، فالشعب العراقي من ورائه، ومثال ذلك خروج مظاهرات شعبية في بغداد مؤيدة للإجراءات التي اتخذها.
أمام السياسيين العراقيين اليوم خيار اتخاذ الموقف الصحيح من أجل مصلحة العراق، وتحويل هذه الإجراءات إلى حملة شعبية وطنية لإنهاء الدور الخطير للميليشيات المسلحة وطرد التابعين والدخلاء.
المعركة بدأت بين الميليشيات الإيرانية وشعب العراق. فلتكن معركة سيادة.