بقلم: محمد عبد الجبار الشبوط
الشرق اليوم- أذكر بما أقوله دائما من أن التخلف هو: خلل حاد في المركب الحضاري، بعناصره الخمسة، والقيم السلوكية الحافة به. وهذا تعريف توصيفي للتخلف، يعبر عن هويته، وللتخلف فضلا عن التوصيف: أسباب، ومظاهر، وطرق علاج.
وكما يوجد تخلف اقتصادي، يوجد تخلف سياسي، والتخلف السياسي هو خلل حاد في الثقافة السياسية والممارسة السياسية المجسدة والمتأثرة بهذه الثقافة، وهذا الخلل السياسي يصيب الافراد، والجمهور، والمؤسسات السياسية كالاحزاب، ومؤسسات الدولة.
والثقافة السياسية فرع من الثقافة العامة للمجتمع، وهو الفرع المتعلق بالشأن السياسي مثل نظام الحكم، والعلاقة بالقادة، والاحزاب، والتظاهر والدولة والحكومة وطرق التقييم واصدار الاحكام وغير ذلك. وبصورة عامة نستطيع أن نتصور نوعين من الثقافة السياسية هما: الثقافة السياسية لما قبل الدولة الحضارية الحديثة، والثقافة السياسية الخاصة بالدولة الحضارية الحديثة. وتتعلق الثانية بالديمقراطية والمواطنة والمؤسسات والقانون والنظام العام والسلوك الانتخابي وغير ذلك مما له ارتباط بالدولة الحضارية الحديثة.
ولم يشهد المجتمع العراقي انتشارا وهيمنة للثقافة السياسية الحضارية الحديثة بسبب انظمة الحكم المتخلفة التي تولت السلطة خاصة بعد عام ١٩٦٨، حيث سادت ثقافة الدكتاتورية، ومركزية السلطة، والولاء للزعيم الكلي القدرة، والعلاقة الرعوية بالدولة، وشخصنة الدولة، واحتكار العمل السياسي، وغير ذلك. وهذه كله مثل خللا في الثقافة السياسية، وبالتالي في الحياة السياسية للمجتمع العراقي بما في ذلك السلوك السياسي للافراد والجماعات والاحزاب والجمهور والسلطات. وبعد سقوط الدكتاتورية لم يكن من السهل نزع رداء الثقافة السياسية الدكتاتورية المتخلفة، وارتداء لباس الثقافة السياسية الديمقراطية الحضارية الحديثة في ليلة وضحاها، لا على مستوى الحاكمين، ولا على مستوى المحكومين. وقد أثر هذا كثيرا على التجربة الديمقراطية، وحرفها، واجهض الجهود المبذولة في هذا السياق، وبالتالي حصل النكوص السريع من الديمقراطية الهشة، الى الديمقراطية المصابة بخلل، الى الديمقراطية الهجينة، لننتهي أخيرا الى قيام سلطة أوليجارشية، أي تحكم عدد قليل من الافراد في الشان السياسي، بشكل لا يخلو من تفضيل المصالح الشخصية والفئوية على حساب المصلحة الوطنية العامة، واستغلال النفوذ السياسي للاثراء والهيمنة والتفضيلات القرابية والزبائنية، والفساد السياسي والمالي.
وكما ينعكس الخلل الثقافي السياسي على الحاكمين، فإنه ينعكس على جمهور المحكومين بصورة عامة. وتجسدت الحالة الثانية في الشعارات والممارسات الشعبية التي ترافق الاحتجاجات الشعبية كالتظاهرات. ففي هذه الحالات نستطيع ان نلاحظ غياب الثقافة السياسية الحضارية الحديثة، أو سطحيتها، وعدم تحول مفهوم الدولة الحضارية الحديثة، بما تتضمنه من قيم المواطنة والديمقراطية والمؤسساتية وحكم القانون، الى هدف مركزي للنشاط الاحتجاجي العام. بل ظهرت مفردات توكد وجود الخلل الحاد في الثقافة السياسية الحضارية والديمقراطية الحديثة، ومن بين هذه المفردات، على سبيل التمثيل وليس على سبيل الحصر:
1. ادعاء تمثيل الشعب، والتصور بأن التظاهر وحده يعطي الحق للمتظاهر بادعاء تمثيل الشعب. وهذا يعبر عن قصور في فهم معنى مصطلح “التمثيل” الذي لا يمكن ان يتحقق دون انتخابات حرة وعادلة ونزيهة ومنصفة. والمفارقة هنا، أنه بينما يرفض بعض الاشخاص مجلس النواب الحالي باعتباره تشكّل بانتخابات غير نزيهة، فإنهم يعطون الحق لانفسهم بادعاء تمثيل الشعب بدون انتخابات أصلا. وعلى سبيل المثال، سمعت حديثا لأحد هؤلاء كشف فيه عن قصور مرعب في فهم معنى مصطلح تمثيل الشعب!
2. رفض العمل الحزبي بالمطلق بحجة فساد الاحزاب المشاركة في الحكم الان. وقد يصح السبب، لكن لا يمكن ان تصح النتيجة. فالحكم بفساد الحزب الفلاني يؤدي الى عدم التصويت له بالانتخابات، وهذا حق للناخب، وليس برفض الحزبية مطلقا، لأن الحزبية من مقومات الدولة الديمقراطية الحضارية الحديثة. وغياب التعددية الحزبية في اي بلد يؤدي الى قيام أشكال مختلفة من الحكم والسلطة، ليس من بينها الحكم الديمقراطي.
وسوف أتطرق في المستقبل الى أمثلة أخرى للخلل في الثقافة السياسية في المجتمع العراقي، بهدف التوجه الى معالجتها.