بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- المراقب المحايد لما حصل، ويحصل في العراق، لا بد أن يتساءل، كيف لحكام العراق بعد 2003، أن يستمروا سبعة عشر عاما، رغم كل الفساد، ورغم كراهية الشعب لهم، ورغم العزلة؟
مع ذلك يعتقد بعض المخّدرين بمورفين المال والإحباط بأنه ما زال هناك وقت طويل للحديث عن نهايتهم، واستعادة العراق من خاطفيه.
وقبل الإجابة على مثل هذا التساؤل الافتراضي، ومن خلاله، لا بد من التأكيد وفق الوقائع السياسية بأن زمن حكم الأحزاب الإسلامية في العراق قد انتهى، على أساس المعادلات الفقهية للحكم، والموجودون على إدارة حكم البلد من قادة تلك الأحزاب يعدون أيامهم الأخيرة، فقد طويت، بثمن غال قدمه شعب العراق، جميع الأغطية العقائدية والسياسية التي استثمروها لخداع الناس، إلى جانب تنفيذ سياسات الاستبداد والإرهاب ضد من وقف بوجههم.
استخدمت الأحزاب منذ الأيام الأولى للاحتلال الأميركي، وبرعاية من جهات سريّة داخل مؤسساته، غطاء المذهب والتعكز على المرجعية الشيعية، التي لها تأثيرها المعنوي على توجيه خيارات بعض الناس، بعد التراجع والانسحاب الإجباري لدور العقيدة القومية أو اليسارية من المشهد العراقي، لكن هذا الغطاء تراجع وتلاشى ظاهرياً لخوف المرجعية من ارتباط اسمها ببرامج القتل والإقصاء الطائفي المفضوح، فاضطرت إلى إعلان غلق أبوابها بوجه السياسيين، وكان ذلك في عهد نوري المالكي، رغم إعلان رؤساء جميع الحكومات، كذباً ونفاقاً، أن شرعيتهم مستمدة من رضا تلك المرجعية.
الغطاء الثاني الذي وفّر لتلك الأحزاب الحصانة، هو الدستور الذي كان صفقة التحالف الاستراتيجي الكردي الشيعي المرحلية، بتبعية بعض من السنة الموالين للعملية السياسية، وما تلاه من السياقات الشكلية الديمقراطية في الانتخابات، والتي أصبحت الأحزاب تتشبث بها واكتشفت سحرها في الحفاظ على سلطة الحكم، فوضعت بعناية قوانين الأحزاب والانتخابات ومفوضيتها، وعدم الاكتراث للرأي العام العراقي الفاضح لمواسم التزوير، وتحوّلت المناصب الحكومية والمواقع البرلمانية إلى مزادات في سوق النخاسة يصرف عليها من المال العراقي المسروق، إلى ظاهرة لم يشهدها بلد آخر في العالم.
الغطاء الثالث، هو التوافق المزعوم والمحاصصة الطائفية التي يقوم عليها الحكم، والتي تحوّل من خلالها “سنّة العملية السياسية” إلى أجراء، حيث فرضت عليهم حالة القبول بولاية الأحزاب الشيعية، رغم ما تعرض إليه الجمهور العربي السني من القتل والخطف ومصادرة الحقوق الإنسانية، ولو امتلك الذين ركبوا موجة التعاطي مع السلطة الحدّ الأدنى من الإخلاص والوفاء لأبناء طائفتهم لقاطعوا العملية السياسية وأسقطوا شرعيتها، لكنهم فضلّوا مكاسب التنعم الفردي بخيرات البلد على حساب الجمهور، والدفاع عن بقاء الطبقة الحاكمة بقيادة سياسيين موالين لطهران.
الغطاء الأخطر، والذي ما زالت مراهنة الأحزاب عليه كملجأ أخير لحمايتها من السقوط، هو استخدام القوة والسلاح خارج منظومات القوات المسلحة، وبذلك فضحت تلك الأحزاب نفسها بكونها أقرب إلى الميليشيات منها إلى الدولة.
الغطاء تمزّق ولم تعد ملحمة طرد “داعش” من قبل القوات المسلحة والمتطوعين الشباب قادرة على توفير غطائه، كما أصبحت الميليشيات الماسكة بالسلاح أداة لحماية هيمنة إيران على العراق، والأمثلة الأخيرة في فعاليات خلايا “الكاتيوشا” ضد المصالح الأميركية تثبت ذلك، مما يضع العراق أمام مخاطر جديدة تضاف إلى وضعه الكارثي في جميع الميادين.
لم يعد الغطاءان الدولي والإقليمي حاميين للطبقة السياسية الحاكمة، فالأميركان في عهد ترامب حالياً، وإذا ما جددّ انتخابه نهاية العام الحالي، قد أنهوا حضانة “الدلال” لحكام المنطقة الخضراء، التي كانت من خلالها واشنطن تدفع المليارات لأمن العهد القائم، لبناء أجهزة القوات المسلحة وكوادرها، وفي المقابل لا تحصل على الحد الأدنى لحماية مؤسساتها الدبلوماسية والعسكرية المتواجدة في العراق.
لكن أميركا اليوم تنفّذ، بلا تردد، برنامجاً طويل الأمد يستهدف تصفية مراكز الميليشيات الموالية لطهران وقواعدها الخطيرة المنتشرة في العراق، وملاحقة رموز تلك الميليشيات بعد انكسار حاجز التردد بمقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، ضمن حزمة إقليمية من العقوبات تشمل لبنان وسوريا واليمن.
أما دعم النظام الإيراني للأحزاب، فرغم مكابرته الفارغة بنضال “المقاومة الإسلامية “، هو في حالة استجداء الحوار مع واشنطن، مما يتطلب منه عدم الذهاب بعيداً باستخدام أدواته الميليشياوية داخل العراق.
قادة الأحزاب يدركون مصيرهم الموجع، لكنهم لا يواجهون الخصوم بصدورهم، ويختارون سلوك طرق المكر والمخادعة والغدر، على سنة أوليائهم في طهران.
من الأمثلة على خطط القيادات الميليشياوية في الهروب الفعلي من الأميركان، المناورة والتكتيك والتخفي لإبعاد خطر الملاحقة الأميركية، حيث لجأ بعضها إلى إعلان غلق مكاتبها دون تعطيل فعالياتها، أو تحويل بعض هجمات “الكاتيوشا” إلى عنوانين ميليشياوية جديدة هي ليست خارجة عن ولاءاتها، أو تسريب معلومات عن ابتعاد رموز كبيرة مثل هادي العامري عن طهران.
ونشر موقع “ميدل إيست” الإيراني أخيراً، أن هادي العامري ابتعد عن إيران ولم يعد لديه تنسيق كما في السابق معها، خاصة بعد استقالته من البرلمان العراقي، وبات ينأى بنفسه عن طهران، ويتخذ قرارات عاجلة وآنية بحسب تقديره الخاص دون استشارة أي شخص. فهل يصدق أحد أن المقرب من قادة إيران والحرس الثوري قد أصبح في يوم وليلة بعيداً عنها؟
رغم أن الوقت أصبح متأخراً لإيقاف النزيف العراقي، بسبب سلطة أحزاب الإسلام السياسي، والتكلفة العالية التي دفعها هذه الشعب الصابر منذ عام 2003، وآخرها ما قدمه شباب الانتفاضة العراقية، لا بد أن يدفع المتسببون بهذا الدمار وقادتهم من الفاسدين ورموز الإرهاب الممنهج، ثمنا غاليا، أقله تنحيتهم عن قيادة الحكم، عبر الآليات التي حكموا البلد من خلالها “الانتخابات”، التي تقع مسؤولية قيامها على رقبة الكاظمي، لكي يثبت وفاءه للشعارات التي قطعها أمام الشعب، وأن يخضع هؤلاء لمحاكمة وطنية شعبية تسترجع ما نهبوه من مليارات.