بقلم: د. باهرة الشيخلي
الشرق اليوم- لم يصدر عن تنسيقيات الثورة العراقية أي بيان يوضح موقف المنتفضين العراقيين من الجولة الأولى من الحوار الأميركي – العراقي، الذي سماه بعضهم الحوار الأميركي – الأميركي، لكن صحيفة “مدارات الثورة” المقربة من ساحات التظاهر والاعتصام في العراق، قالت إن مثل هذا البيان سيصدر، حتما، عقب الجولة الثانية للحوار.
الصحيفة وصفت الحوار بأنه “لا أهمية له”، فمن قرأ بيان الحوار الأميركي مع ممثلي وزارة الخارجية في حكومة الكاظمي، وهو يعرف الواقع السياسي والاقتصادي في العراق، لا شك أنه وجد في الحوار المذكور لغة لا يمكن وصفها بأنها لغة سياسية واقعية، فهي أقرب إلى أن تكون محاولة في أن ترى الكأس من نصفها المليء، أو ترى الواقع من جانبه المضيء، مع أن لا الكأس مليئة ولا الواقع مضيئا.
وهذا البيان، بالوصف الذي ذهبنا إليه، تأكيد بأن الحوار سيخرج بنتائج متفق عليها مسبقا بين الطرفين المتحاورين.
وهنا لا بد من القول إن الحوار الافتراضي لم يكن سوى حوار عام، لم تتوفر فيه أي سمة من سمات التفاوض، الذي ينتهي، عادة، إلى قرارات محددة ومن ثم إلى إجراءات، تحدد لكل طرف حقوقه وواجباته والتزاماته.
لكن، لو قرأنا البيان قراءة تحاول أن تكتشف ماذا أراد الطرفان، وبخاصة ماذا أراد الطرف الأميركي منه، فسنجده تكتنفه الضبابية، إن لم نقل يكتنفه الغموض، وفي رأينا، إنه غموض متعمد.
إن الطرف الأميركي، يعد على لسان الذين شاركوا في الحوار، بتقليل عدد قواته في العراق، والانسحاب التدريجي. وهذا الوعد بشقيه لا يعني شيئا بحسابات الواقع، أما الطرف الذي مثل وزارة الخارجية في حكومة الكاظمي، فقد اعتبر هذا الوعد مكسبا استراتيجيا، ليس لأنه ضد الوجود الأجنبي في العراق، بل لأنه يريد شيئا يرضي به ذيول النظام الإيراني، ولا نقول النظام الإيراني، لأنه نظام عنصري، لا يهمه العراق، بقدر ما يريده ورقة يوظفها في علاقاته المتوترة مع الإدارة الأميركية.
العراق، في وضعه الحالي يحتاج إلى تكنولوجيا متطورة واستثمارات في الثروات تتجاوز 15 تريليون دولار، وإعادة تشغيل الصناعات البتروكيمياوية والحديد والصلب والفوسفات والمشتقات النفطية والطاقة الكهربائية
لذا لا أهمية لهذا الحوار، ولا لبيانه، وليس للمراقب، إلا رصد الوقع، وماذا سيشهد ميدان العلاقة الأميركية مع سلطة الفساد والفاسدين من متغيرات.
للحوار أسس معروفة، أولها التكافؤ بين الطرفين المتحاورين، وثانيها الاحترام المتبادل وثالثها أن يتخلى الطرفان عن الأحكام الجاهزة، وهذه الأسس إذا لم تكن متوفرة، فلا يملك التابع رأيا مستقلا فهو يشتق موقفه من مصالح السيد المطاع، وبذلك تتهاوى الأسس الأخرى تلقائيا.
الحوار التفاوضي الذي ينشده العراقيون هو أن يكون الطرف المفاوض عن (العراق) العظيم بأهله وتراثه وإراداته من يمتلك روح شهداء ساحات الحرية، الشباب الشجعان، الذين جعلوا من مطالب الشعب قبلتهم، والذين يؤمنون بأن وطن الرافدين هو من يفاوض وهو وحده الذي ينتزع حقوقه.
الحوار الذي ينشده الحراك الوطني ويصر عليه هو التحرر الكامل وضمان استقلال الإرادة الوطنية، وهو صفحة من صفحات الثورة، التي تعمل على إنهاء عصر الفاسدين من الحكام والأتباع لتنتقل إلى إنهاء الزمن الظلامي بأحزابه وميليشياته، كما يقول دبلوماسي عراقي سابق.
الأمر الآخر، يضع الحراك الوطني، اليوم، حدا لحكومات الحرامية، التي غرقت بالفساد، فعلى مدى 17 عاما عاثت حكومات ما بعد 2003 فسادا هو الأول من نوعه في تاريخ الكوكب.
ناقشت أستاذ الاقتصاد السياسي البروفيسور محمد طاقة في موضوع هذا الحوار الذي جرى في الحادي عشر من الشهر الحالي، فأبدى ملاحظات متشائمة، إذ قال لي إن البيان، الذي أصدره الطرفان تطرق إلى قضايا الاقتصاد والطاقة، ذكر أن الطرفين يدركان التحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي الهائلة، في حين أن الطرفين؛ الولايات المتحدة ومن نصبتهم لحكم العراق، هما السبب في خلق تلك التحديات وتدمير الاقتصاد العراقي.
منذ عام 2003 وإلى يومنا هذا، سرقا ودمرا كل ما يمت إلى الاقتصاد بصلة، وبددا ثروات العراق، وأكدا في الوقت نفسه أن العراق بحاجة إلى إصلاحات اقتصادية جوهرية. لكن الطرفين لم يتطرقا إلى أي أسس علمية واقتصادية لتحقيق ذلك، والبيان يقول إن دور الولايات المتحدة سيقتصر على تزويد العراق بالمستشارين الاقتصاديين، ومساعدة العراق في تعزيز الدعم الدولي، بما في ذلك الدعم الدولي المقدم من المؤسسات المالية الدولية.
ولكن ذلك سيغرق العراق بالديون الخارجية وفوائدها، في حين لم يتطرق البيان إلى دور الاقتصاديين العراقيين الوطنيين، وهم أكفاء وقادرون على معالجة الوضع الاقتصادي كونهم أدرى باقتصاد بلادهم، ثم إنهما، في الختام، ربطا ذلك كله بـ”أن تكون ظروف العمل مؤاتية”.
والسؤال متى ستكون ظروف العمل هذه مؤاتية إذا كان تشجيع الاستثمارات، وبالأخص الاستثمارات الخارجية، لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا بوجود مناخ مناسب للاستثمار وأهمها الاستقرار السياسي والأمني، وهذان الشرطان لن يتوفرا في العراق، على الإطلاق، في الأمد القصير والمتوسط وأميركا تعرف ذلك تماما.. فعلى من يضحكان وبخاصة أن الوضع الأمني العراقي يسير من سيء إلى أسوأ ولن يتحسن على الأمد المنظور.
رغم الصورة القاتمة، التي رسمها أستاذ اقتصاد معروف، يبقى الحوار مع الولايات المتحدة مطلوبا، ولكنه إذا جرى مع سلطة بغداد بالنحو الذي تخوف منه الدكتور طاقة، فإنه سيؤدي إلى جملة مساوئ في مقدمتها شرعنة الاحتلال، وضياع ما ترتب للعراق من حقوق جراءه، يعقب ذلك ترسيخ الوجود الإيراني بالنحو والحجم اللذين تراهما واشنطن مناسبين لها، وهذا يعني بقاء العراق جزءا من الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، وانسلاخ العراق من واقعه الإقليمي والعربي، كما يقول أكاديمي عراقي يقيم في الخليج العربي.
لا أهمية لهذا الحوار، ولا لبيانه، وليس للمراقب، إلا رصد الوقع، وماذا سيشهد ميدان العلاقة الأميركية مع سلطة الفساد والفاسدين من متغيرات
طالب نواب عراقيون بإلغاء “الاتفاق الاستراتيجي” الموقع بين بغداد وواشنطن ردا على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن أهمية التواجد العسكري لبلاده في العراق “لمراقبة إيران”.
واضح أن هؤلاء النواب، ونحن هنا لا نريد إلا مصلحة العراق، يمثلون مصالح إيران في المنطقة، وإيران عليها الذهاب إلى الحوار المباشر مع واشنطن لإيجاد حلول للمشكلات المعلقة بينهما بدلا من إثارة الأزمات والحروب وتجنيد الميليشيات للقصف بالكاتيوشا والجريمة المنظمة.
إن العراق، في وضعه الحالي يحتاج إلى تكنولوجيا متطورة واستثمارات في الثروات تتجاوز 15 تريليون دولار، وإعادة تشغيل الصناعات البتروكيمياوية والحديد والصلب والفوسفات والمشتقات النفطية والطاقة الكهربائية.
ولولا التدخل الإيراني في شؤون العراق وتخريب ميليشياته للمنشآت الصناعية وتدميرها مقومات الحياة، كان يمكن لهذا البلد أن يتحول إلى بلد متقدم بـ800 مليار دولار من وارداته، كما أشار إلى ذلك محافظ البنك المركزي العراقي سنان الشبيبي، الذي لاحقه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لكن الأحزاب المتخلفة حولت العراق إلى بلد للجوع والفقر والتشرد والحروب.
خلاصة القول إن العراق، مع وجود العملية السياسية الحالية والنفوذ الإيراني المتزايد سرا وعلانية، وعدم إفساح المجال للوطنيين العراقيين لرسم خارطة الخلاص لبلدهم، لن تقوم له قائمة. وستنعكس الحالة السلبية فيه على دول المنطقة والعالم، وهذا أمر ينبغي أن يدركه العرب أولا.
وستبقى سيادة العراق واستقلال إرادته رسالة الشباب الآن وغدا حتى يتم تحرير أرض الرافدين من الغزاة والدخلاء.