يقلم: إبراهيم الزبيدي
الشرق اليوم- ليس للسياسة الأميركية، سواء بإدارة جمهورية أو ديمقراطية، وجهان فقط، بل ربما أربعة أو خمسة أو عشرون وجها، فأنت، مثلا، لا تفهم كيف يحارب الساسة الأميركيون إرهاباً هنا، ويشدون من أزر إرهابٍ هناك. ولا كيف ينفقون أطنانا من المال لقلب نظام حكم دكتاتوري فاسد في بلد، ويضعون كل قوتهم، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لمنع طرد حاكم قاتل وفاسد في بلد آخر.
خذوا ما يفعله الجمهوريون في عهد الرئيس دونالد ترامب؛ المعلن والمعروف أن عقوباته على إيران هي الأقسى والأعنف من كل العقوبات التي فرضتها الإدارات الأميركية السابقة على خصومها السياسيين.
لم تترك العقوبات أمام النظام الإيراني سوى التسول والمتاجرة بالمحرمات، لتمويل الحد الأدنى من احتياجاته الضرورية من أجل البقاء على قيد الحياة، حتى لو ظلَّ هيكلا عظميا ليس له أظافر ولا أسنان.
ورغم كل ما في هذه العقوبات من شدة وقسوة، نجد النواب الجمهوريين يطالبون بتشديدها وبتوسيعها. فقد طرحت لجنة الدراسة الجمهورية في الكونغرس أكثر من 150 مقترحاً وصفها رئيس اللجنة الجمهوري، مايك جونسون، بأنها “الأكثر قسوة ضد إيران حتى الساعة”.
يبدو أنْ لا أحد من الجمهوريين أزعجه أردوغان وهو يدخل إلى ليبيا غازيا ببوارجه الحربية وجحافل المرتزقة المصنفين في أمريكا إرهابيين
فهي تطالب بفرض عقوباتٍ على المرشد الأعلى علي خامنئي، إضافة إلى القطاعات المالية والبتروكيميائية وقطاع صناعة السيارات، وعلى الميليشيات العراقية المسؤولة عن الاعتداء على مقر السفارة الأميركية في بغداد، وعلى حزب الله اللبناني لإغلاق الفجوات في العقوبات السابقة. وتدعو إلى تطبيق قانون قيصر بحذافيره، للحرص على عدم تعاون الدول المجاورة لسوريا مع النظام في دمشق.
كما توصي بإدراج الحوثيين على لائحة الإرهاب، وتفعيل العقوبات عليهم كتنظيم.
هذا وجه من وجوه السياسة الأميركية الخارجية، يبدو وكأنه عادل وحريص على حقن دماء الشعوب. فالنظام الإيراني، وهو المُحرك لكل تلك العصابات، ما زال يكابر ويواصل نهجه الإرهابي في المنطقة ويحاول التحايل على العقوبات.
يمكن تبرير هذا السلوك حين ننظر إليه بمعزل عن وقائع السياسة الأميركية في أماكن أخرى من العالم. ولكنّ هؤلاء الجمهوريين المهيمنين اليوم على السياسة الخارجية الأميركية، أنفسَهم، لا يغضبون من قطر، حين يجدونها تتحالف مع النظام الذي يحاربونه، ولا يردعون أردوغان وهم يرونه يتعاون مع الإيرانيين على كسر العقوبات، ويعرقل سياساتهم في سوريا.
والجمهوريون، أنفسهم أيضا، لا يرون أن ما يجري في ليبيا، يمكن الحكم عليه بنفس الميزان الذي يقيّمون به سلوك النظام الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان، رغم أن القاصي، أكثر من الداني، يرى بالعين المجردة الأطراف المحاربة في طرابلس وما حولها، ويعرف أن ما يجري هو الإرهاب بعينه، ومن غير المعقول أن تكون أميركا العظمى عاجزة عن رؤية الحقيقة، ومعرفة أدق التفاصيل.
الذين اغتالوا كريستوفر ستيفينز، السفير الأميركي، مع مساعديه من أعضاء البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي سنة 2012، والذين وصفهم ترامب بأنهم إرهابيون وقتلة، يحظوْن اليوم بدعمٍ حكومي رسمي ومعلن من الحليف التركي أردوغان، يحارب بهم الجيش الليبي الذي حرر بنغازي من سطوة الميليشيات التي قتلت السفير.
صحيح أن الديمقراطيين، أيام الرئيس السابق باراك أوباما، هم الذين سهلوا لتلك الميليشيات الإسلامية المتطرفة إمساكها بالسلطة، بشهادة الرئيس الجمهوري ترامب الذي هاجم سلفه، أوباما، ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، وأدانهما بالتخاذل في محاسبة هذه الجماعات الإرهابية، وتوعد بالثأر منها لدماء السفير القتيل.
ولكن يبدو أنْ لا أحد من الجمهوريين أزعجه أردوغان وهو يدخل إلى ليبيا غازيا ببوارجه الحربية وجحافل المرتزقة المصنفين في أمريكا إرهابيين.
ولا أحد منهم أيضا احتج على ما ارتكبه الجيشُ التركي والإخوان المسلمون والقاعدة وداعش في طرابلس وترهونة، وما يصرون على ارتكابه في سرت من جرائم لا يخطئ أحد في تصنيفها جرائمَ حرب، خصوصا بعد أن كشفت الأمم المتحدة عددا من المقابر الجماعية في ترهونة.
ذلك كله ليس إرهابا، وليس انتهاكا لحقوق الإنسان، ولا غزوا عسكريا تقوم به دولة ضد دولة أخرى، تفرض الشرعية والقوانين الدولية على قائد العالم الحر، أميركا، المُحارِب رقم واحد للإرهاب، التي كان عليها أن تأمر بوقفه، فتطاع.
اكتفت واشنطن بمطالبة فايز السراج بعدم التصعيد، ودعت إلى سحب (المقاتلين) الأجانب من ليبيا، دون أن تسمي المقاتلين صراحة، وكأن الفاعل مجهول.
لم تترك العقوبات أمام النظام الإيراني سوى التسول والمتاجرة بالمحرمات، لتمويل الحد الأدنى من احتياجاته الضرورية من أجل البقاء على قيد الحياة، حتى لو ظلَّ هيكلا عظميا ليس له أظافر ولا أسنان
أمّا تبريرهم لمواقفهم تلك بخوفهم من الوجود الروسي على أمن أوروبا وعلى المصالح الأميركية، فعذر أقبح من ذنب، فهم أعرف من غيرهم بأن الحضور العسكري الروسي متواضع جدا، وجاء متأخرا جدا، ولم يكن عاملا مؤثرا في مسار الحرب الدائرة في ليبيا منذ سنوات.
يقول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو “حان الوقت الآن لأن يتحاور الليبيون، وأن ينتهي التدخل الروسي أو (غيره)”. دون أن يسمي (غيره) التركي بصراحة.
أما السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، فقد اعتبر التدخل التركي “رداً على تدخل روسيا”.
ويتحدث المحللون عن خلاف بين ترامب وبين وزارة خارجيته بخصوص الموقف من الغزو التركي، وكأن أميركا هي الدولة الفاشلة التي تملكها الميليشيات العراقية التي تتقاسم الوزارات والمؤسسات، فتصبح كل وزارة أو سفارة جمهوريةً مستقلة لها سياستها الخاصة وقادتها وحدودُها المقفلة، وكلُّ طرف منها، حتى لو كان رئيس وزراء، لا يأمر فيها ولا يطاع.
باختصار، إن الجمهوريين، كخصومهم الديمقراطيين، حين يريدونها كبيرة تصبح كبيرة، وحين يريدونها صغيرة تصبح صغيرة.