بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- من سوء حظ العراقيين أن تتسلط على حكمهم مجموعة من الغرباء عن السياسة، يتخذون من مقولة العراق ومكانته التاريخية المرموقة، عكازا يرتكبون باسمه الحماقات، ويتحولون إلى أدوات تنفذ رغبات نظام طهران وسياسات حاكمه خامنئي التوسعية.
للأسف تمنح مكانة العراق الإستراتيجية في المنطقة منظومة الحكم الحالية أهمية عربية وإقليمية ودولية، ولو كان هؤلاء يحكمون بلداً فقيراً، هل يتوقع أحد ذكر القوائم الطويلة من أسماء قادة الأحزاب والميليشيات وغيرهم من التابعين؟ بالتأكيد لا.
رغم مرور أكثر من سبعة عشر عاماً لم يتعلم هؤلاء الحدود الدنيا من السياسة والدبلوماسية التي اغتالوها، ليس من أجل شعب العراق ومصالحه العليا، وإنما لملء الفراغ المخيف ما بين عناوينهم وحقيقتهم. لا يستطيع أحد من عباقرتهم أن يدلنا أين تكمن مصلحة العراق في توظيف ما تعيشه أميركا الآن من أزمة داخلية تتعلق بانتهاكات حقوق السود، وبين الدعوة من قبل جبهة “المقاومة الإيرانية الإسلامية” وأتباعها في العراق لاستغلال ما أسموه حالة “الانهيار الأميركي الكبير” والنضال من أجل توحيد الصفوف والانقضاض العاجل على دونالد ترامب ومنعه من تولي ولاية ثانية.
الحملة الحالية المفتعلة على الولايات المتحدة لا علاقة لها بمصالح العراقيين، وليس المقصود منها كشف انتهاكات إداراتها السابقة، خصوصاً في عهد بوش الابن، ضد العراق، حين تم احتلاله عام 2003 ودمرت بنية الدولة فيه، وأهين أهله بمعاونة ودعم وافدين من بلدان اللجوء من دعاة الطائفية والمذهبية الذين يحكمون البلد الآن.
وإن كانت هناك دعوة شعبية حقيقية لفضح السياسة الأميركية في العراق، وهي غير موجودة الآن، فيجب ألا تستثني أدوات القتل التي استثمرت مناخ الاحتلال لتنفيذ البرنامج اللئيم بقتل علماء العراق ومهندسيه وأطبائه وقادة جيشه.
الجهلة في العراق لا يعلمون أن الولايات المتحدة لديها مشاكلها الداخلية اليومية المتعلقة بحياة الناس، التي تؤثر على اتجاهات الرأي العام الأميركي في خيارات الرئيس المقبل، وليست إيران أو العراق أو مشاكل الشرق الأوسط ما يحدد مصير ترامب في الدورة الانتخابية المقبلة.
ورغم أن بعض المحللين والكتاب يعكسون نظرياً شظايا الانفجار حول مقتل جورج فلويد إلى تراجع وانتكاسة الإستراتيجية الأميركية، لكنها رؤى وتحليلات عامة لا تؤثر على مسار الانتخابات المقبلة. ولمعلومات الجهلة في بغداد، فإن إدارة ترامب لا تضع أهمية للملف العراقي في أولوياتها مثلما يتوهمون، إلا بمقدار صلته بالحملة الحالية ضد طهران التي ستذعن في النهاية لشروطهم.
مناسبة هذه الحملة الإعلامية المفتعلة ضد واشنطن هي مبادرة إدارة ترامب إلى فتح حوار جدّي مع الحكومة العراقية، لبحث إستراتيجية العلاقات العراقية الأميركية في العاشر من هذا الشهر بعد اختلال التوازنات السياسية واللوجستية، وتصاعد المناخ المعادي لواشنطن في العراق من قبل الموالين لطهران، إثر مقتل قاسم سليماني، ورفيقه أبومهدي المهندس، قرب مطار بغداد في يناير الماضي.
الولايات المتحدة كدولة عظمى، خاضت حروبًا عالمية وإقليمية كثيرة، ولديها تجارب رصينة في التفاوض مع الآخرين، ومقدرة دبلوماسية في انتزاع المكاسب من الأصدقاء والأعداء، وتحتفظ في أدراج مكاتبها، في الخارجية والبنتاغون، بملفات هائلة تتعلق بأشخاص كبار وصغار، ومن بينهم عملاؤها الذين خرجوا عن طاعتها وذهبوا إلى أولياء نعمة آخرين.
المفاوض الأميركي في ملف العراق، الذي يتكون وفده من فريق دبلوماسي لديه رصيد ضخم من معلومات تؤكد الولاء المزدوج لعدد كبير من مسؤولي الحكم في بغداد، والموزع بين واشنطن وطهران. ما زال الوقت، وهم على هامش المفاوضات في جولتها الفنية الأولى، مبكرًا لمواجهتهم بها.
أما مفاوضو الجانب العراقي، وبعضهم عاش وعمل في أميركا، فمهمتهم الأولى تنفيذ توصيات زعمائهم (هادي العامري ونوري المالكي وقيس الخزعلي) القاضية بتنفيذ الرغبة الإيرانية في إخراج القوات الأميركية من العراق، كرد فعل على عقوبات ترامب الذي لا يهمه استمرار بقاء قواته في العراق، فذلك لن يؤثر إستراتيجيا على مستوى التواجد الأميركي في المنطقة، إضافة إلى استجابته للرغبة الكردية في بقاء هذه القوات في منطقة كردستان العراق.
المفاوضون من الفنيين العراقيين، قد تكون لديهم معرفة جزئية سياحية بأميركا، لكنهم ليسوا خبراء بالعقل السياسي الأميركي، والأميركيون ليست لديهم عقدة من التفاوض مع الجانب العراقي، بل هم الذين دعوا إلى ذلك، لأنهم من أنتج هذا النظام وجلب زعماءه بحماية ورعاية المخابرات الأميركية، ويبدو أن في حقائبهم الكثير من الحقائق والعروض التي هي في صالح شعب العراق ومستقبله في مجالات المال والصحة والتعليم والتكنولوجيا.
لقد تفاوض الأميركيون، وما زالوا يتفاوضون مع طالبان في أفغانستان، وهم الآباء الأوائل للقاعدة، ولو استطاعت فلول داعش، لا سمح الله، السيطرة على العراق لتفاوض الأميركيون معهم.
في الجولة الفعلية اللاحقة التي يتوقع أن تكون بمستوى تمثيل دبلوماسي أعلى، لا يتوقع للوجوه السياسية الحقيقية أن تحضر وتواجه الأميركيين على طاولة مفاوضات مباشرة، فهؤلاء بين أيديهم ملكية مزوّرة، وهم من باع العراق مرة للأميركيين ومرة أخرى للإيرانيين، أما من يمتلكون العراق وأهله الحقيقيون فهم في مكان آخر خارج طاولة حوار الإذعان، هم في ساحات العز والكرامة قدموا الدماء من أجل رفعة بلدهم.
أقصى ما يدور في عقل الزعامات الشيعية الموالية لطهران، إضافة إلى الهدف السوقي بإخراج القوات الأميركية، الاعتقاد بأن نتائج الحوار مع واشنطن وقبولها المبدئي بالرحيل ستؤذي أصدقاءها من السياسيين داخل العراق من السنة والأكراد والشيعة، وتكسر شوكتهم، وتمتن إخضاعهم النهائي للهيمنة الإيرانية، وتؤمن خلو العراق من المشاكسين، إلى جانب محاولة حشر رئيس الوزراء الحالي في زاوية ماكرة، بتخييره بين الولاء لأميركا أو الولاء لإيران، وليس بالطبع التعبير عن الولاء للعراق الحقيقي وشعبه الثائر ضدهم.
إذا تأمل الكاظمي جيدًا في العمق الهائل لهذا الشعب، يمكنه اختياره دون خوف. قريبا سيأتي اليوم الذي يتولى فيه العراقيون مصيرهم بعد طرد الفاسدين والعملاء، حين ذاك ستكون لحوار بغداد مع واشنطن دلالة وطنية حقيقية.