بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- المراهنة على استمرار عمر أي نظام سياسي لا تستند على تبنيه الشكليات الديمقراطية بجميع أصنافها. ألم يصبح أدولف هتلر النازي زعيماً لألمانيا عبر الانتخابات، ومسلسل فساد أنظمة أميركا اللاتينية “الديمقراطية” مثال سبق تجربة العراق بعد عام 2003 حين أقيم النظام السياسي بقوة الاحتلال العسكري الأميركي للبلاد وبرعايته حتى اشتداد عوده وقطع حبل سرّته عنه عام 2011 وانتقال الرعاية الكهنوتية إلى طهران.
لقد انتهت المبررات التاريخية والسياسية لاستمرار قادة أحزاب الإسلام الشيعي بحكم العراق خصوصاً حزب الدعوة الذي خرج من السلطة مهزوماً بسجل مخز من الظلم والاستبداد ونهب أموال البلاد، يضاف إلى سجله قبل العام 2003 الذي يفتخر به قادته بالتفجير والتفخيخ وقتل الأبرياء. هذا الحزب لم يحمل مشروعاً لبناء الدولة وإنما حركته عقدة الانتقام من حزب البعث التي ظلت تلاحقه لسبعة عشر عاما يترجمها في تصفية تنظيمات هذا الحزب واجتثاث أعضائه ومؤيديه، لأن نظام صدام حسين سبق أن اضطهد قادة حزب الدعوة وكوادره وأعدم بعضهم خلال الحرب العراقية الإيرانية.
قادة الأحزاب الشيعية ما زالوا يعتقدون أنهم قادرون على تغطية الفضيحة التاريخية بكونهم ارتهنوا لازدواجية العمالة الخارجية لكل من واشنطن وطهران. وهذه الواقعة وحدها كافية لمحاسبتهم عبر محكمة وطنية شعبية تقتص من المتورطين بهذا الإثم التاريخي.
عمالتهم لواشنطن يعتبرونها شطارة “التقيّة الشيعية”، لكنهم يعترفون في دواخلهم بما قدمه لهم أعمدة اليمين الأميركي المتحالف مع إسرائيل من خدمات في تحصينهم بعد تنصيبهم عبر منظومة الانتخابات البرلمانية التي أتقنوا لعبة التزوير فيها استناداً إلى تجاربهم في المعارضة قبل 2003 التي لم تتجاوز خبراتهم بالتزوير في الوثائق وجوازات السفر والمخادعة والتنكر وتنفيذ الاغتيالات والتفجيرات.
منذ بداية عهدهم ارتكبوا فظائع لم ترتكبها قوى القتل العنصري في جنوب أفريقيا وانتهاكات الفاشيين في البوسنة والهرسك، وفضائح لم تسجلها من قبل أخطر مافيات المخدرات في العالم، وكذبوا على الشعب، ولو كانوا صادقين في شعاراتهم المعارضة لنظام صدام حسين بما سموه المظلومية الشيعية لما نهبوا أموال شعب العراق المقدرّة بـ350 مليار دولار كان يمكن من خلالها حل جميع أزمات العراق في مجالات الكهرباء والصحة والتعليم، ولما أهانوا علياء قومه من السنّة والمسيحيين والأكراد والتركمان، وكذبوا على أبناء الشيعة في المدن الوسطى والجنوبية الجياع الفاقدين لأبسط مقومات الحياة في حين يتنعمون هم وأبناؤهم وعوائلهم ومريدوهم بحياة الأباطرة في امتلاك العمارات والقصور في الخارج.
الأحزاب الشيعية وصلت نهاية الطريق المسدود، وهي تدخل معركة النفس الأخير، ولا تنفعها حزم المخادعة والكذب والتشويه الإعلامي وتقديم التبريرات السياسية من قبل بعض المثقفين الشيعة، وبعضهم يحاول من خلال نقده إثارة الانتباه إلى شخصه من قبل الحاكم الأول معتقداً أنه صانع الملوك ومرشدهم، والبعض الآخر متدرب في ميدان الإعلام والسياسة يلوّن عبارته ويطعّم أفكاره حسب هوى الأمواج. نقد هؤلاء المصطنع يوجه لمظاهر جزئية في سلوك الحكم والحكام لأنه لم يعد بالإمكان الدفاع عن خطاياهم من دون الاقتراب من ثوابت وأركان العملية السياسية، في اعتقاد خاطئ يصطف مع قادة الأحزاب مفاده بأن زوال هذا الحكم الشيعي يعني مجيء قوى “بعثية أو سنية موالية لأميركا والخليج” دون الاعتراف بأن قادة التغيير والثورة هم شباب الشيعة المتنورون.
هناك مقاومة عنيدة من قبل قادة الأحزاب الشيعية لعدم الوصول إلى حاجز النهاية الحتمية لعهد الظلم والاستبداد وإفقار الشعب، مشحونة بنوع من المكابرة رغم أن أغطيتها المذهبية قد تمزقت، من خلال التشبث بالمواقع البرلمانية وعدم التفريط بها في الانتخابات المبكرة المقبلة، لأنهم إذا ما فقدوا وجودهم في البرلمان ستنهار عروشهم وتنتهي لعبتهم. هذه الحقيقة يعرفها رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي الذي قد تكون فترة حكمه آخر مرحلة من حياة تلك الأحزاب في حكم العراق إذا ما اختار طريق التغيير.
قد يجدني البعض في هذا التحليل والاستنتاج حالما، لكن الحلم هو بداية طريق التغيير في الواقع. وأقتطع مثلاً سريعاً ربما لم ينتبه إليه كثيرون ورد في مقالة الكاظمي الأخيرة في تفنيده لمقولة أن على رئيس الوزراء من خارج الأحزاب الإذعان لشروطها بقوله “أختم برد على من نبهني إلى أنني بلا حزب سياسي ولا كتلة نيابية تحميني في ما أنا ماض إليه من تعهدات قطعتها خدمة لشعبي بقوله تعالى “مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”.
لكن عقدة الحكم في العراق لا تحلها النيّات والشعارات الناعمة، فهي معركة كبيرة وقاسية بين الشعب وطغمة الفساد والاستبداد وظهيرها الخارجي، هذه المعركة اشتعلت ولن تخمد حيث قدّم شباب انتفاضة أكتوبر 2019 الآلاف من الشهداء والجرحى وهم مواصلون. وإذا ما اختار الكاظمي أن يسلك طريقا يحفظ له التاريخ وأن يتبوأ مكاناً مشرّفاً في صفحاته، فخياره واضح رغم صعوبته ومخاطره لكنه يمتلك أدواته في القوات المسلحة وسيدعمه الشعب وكل الوطنيين الشرفاء داخل العراق وخارجه وبعمق عربي ودولي، وفي هذا الخيار سيكون أعداؤه وهم خصوم الشعب كثر وقساة لكن أسلحتهم أصبحت “خردة بلا بارود”. ما يحتاجه الكاظمي صدق الإيمان والإرادة والشجاعة والعزم، وشعب العراق لا يحتاج لإحداث التغيير إلى جيوش احتلال كبيرة مثلما حصل في تهديم الدولة العراقية وخطف الوطن عام 2003، عندها سيشهد العالم الانهيار الدراماتيكي للعروش الكارتونية وأول من سيتبرأ منها نظام طهران وسيكون النصر للعراقيين بوجه الغرباء والبرابرة. وسيصدق الحلم بأن حكم الكاظمي هو آخر أيام الأحزاب الشيعية الفاسدة والمستبدة.