بقلم: جبار المشهداني
الشرق اليوم- بعد أن أفطر نواب الشعب الذاكرون الله كثيرا، من صيام يوم الأربعاء الثالث عشر من رمضان الموافق غرة شهر مارس من عام كوفيد (19) الملقب بكورونا الموافق 2020 ميلادية, توجهوا إلى قاعة البرلمان الكبرى ليؤدوا الأمانة التي حملهم الشعب إياها لتقرير مصيره بالتصويت على حكومة السيد الكاظمي المكلف والمخول من جميع التيارات السياسية بتشكيل وزارة إنقاذ وعبور من عنق زجاجة الوباء والبلاء والبطالة والإفلاس التي عمّت البلاد والعباد.
كان السيد الكاظمي رابع الرؤساء بعد المقال عادل عبد المهدي والمخيّب للامال محمد علاوي والذي صال وجال فما نال وماطال عدنان الزرفي. ولابد ان نعترف هنا ان المكلف الرابع بينهم هو الاكثر ذكاء ومرونة ورشاقة سياسية, والذي قضى شهر تكليفه متنقلا بين انصار الشيطان الاكبر واالشيطان الاصغر أملا باقناعهما بايلاج جمله في سم خياط رئاسة الوزراء الذي ناءت به قبله العصبة الشداد من السياسيين اولي القوة والحظوة والولاء وعجز عنه الذين يعلمون والذين لايعلمون.
كانت الاخبار طوال الاسبوعين الأخيرين تتقاذفها امواج الشائعات والتسريبات وكاذبات القوائم المزعومة الاستيزار, وكان المراقبون المحللون المتفيهقون امثالي بين أقصيين في الرأي, احدهما يقول جازما : لن يمر !!! والآخر يبتسم واثقاً مؤكداً انه سيمر !!! وكنت من انصار الرأي الاول الجازم بلا مروره, وصرحت على اكثر من فضائية مراهناً بانه لن يمر, بعد ان رأيت وسمعت وقرأت واستقرأت وتهاتفت مع اكثر من فاعل ومفعول في الحراك السياسي, كبارا وصغارا ماجعل ظني يقيناً وحدسي واقعاً يكاد يكون قاب قوسين او ادنى من كبد الحقيقة. ايقنت انه لن يمر !! ليس كراهة فيه طبعاً , ففي عالم السياسة لامجال ولاموجب لكراهية او حب, فكلاهما يخرب البيوت ويقطع الاواصر, واي تحارب او تصارع او تخالف بين طرفين سرعان ما ينتهي وتنطفي نيرانه مهما بلغت شدتها حين تحضر لغة المصالح والتوافق تحت شعار (حب عمك وحب خالك) كنت اؤكد للقاصي والداني انه لن يمر بسبب فيض المعلومات والاسرار التي كانت تتدفق من اصحاب الحل والعقد في العملية السياسية وجلهم اصدقائي, او هكذا كنت أظن, بل وهكذا استقرأت مما كنت ارى واسمع واراقب.
لكن صوتاً خفيا في قرارة نفسي كان يتمنى ان اكون على خطأ وان يمر الكاظمي حقا, ليكون اول واحد من ابناء مهنتي وفصيلتي من اهل الاعلام والثقافة يتسنم الهرم الاعلى في السلطة ويكسر حاجز احتكار( أصحاب الخدمة الجهادية ) والتضحية والفداء لهذا المنصب, على الاقل لنضمن ان احد الاذكياء صار يقود البلد المسكين الذاهب الى التهلكة من فرط غباء وجهل تكنوقراطية اهل الدكترة وخبراء الاقتصاد والسياسة الذين اهلكوا الحرث والنسل وخربوا البلاد والعباد.
لم يكن الكاظمي من جيل الاقطاع السياسي اصحاب الحق الآلهي في الحكم , الذين تربعوا على صدورنا منذ 2003 حتى الآن, بل كان من جيل المعارضة الثاني الذين غادروا العراق في ثمانينات القرن الماضي والتحقوا بصفوف التيارات والحركات والاحزاب السياسية المعارضة لنظام البعث وصدام حسين.
وكان من حق هؤلاء الشباب (حسب رؤية الحِجّاج) ان يكونوا جنودا ووقودا فقط في قافلة المعارضة المزدحمة, او بمثابة الخطوط الثانية و الثالثة في قائمة ينوء خطها الأول باسماء الصماخات والزعامات التقليدية المتعطشة للسلطة والحكم. ولم يكن في وارد حساباتهم ان (ينطوها) لاحد الا بعد ان تيبس اجسادهم على عروشها الخاوية , حتى لو كان (هذا الأحد) من ابناء جلدتهم ورفاقتهم في الحزب والمغترب والمذهب والولاء. وكنت ارى في قائد الدولة العميقة تربصا وتوثبا واضحاً للانقضاض على كرسي رئاسة الوزراء والتهام كل من يقف في طريقه اليه.
وكانت كل التمثيليات السياسية السخيفة التي تجري على الساحة والتكليفات المتعاقبة المحتومة الفشل محسوبة بدقة للوصول الى نتيجة واحدة تقول ان لا حل الا به ولا خلاص الّا هو , وانه لا بدّ من تسليمه الدفة مرة أخرى, حتى وان عصف بالحاضر واغرق المستقبل !!! , وهكذا كانت الخطة تسير بدقة وخبث هادئ مدعومة بتأييد ومباركة اهل الحل والعقد الذين يرون في حكم (الحجي) عودة لعصرهم الذهبي في المال والاعمال.
ولانني على علاقة وتواصل مع الكثيرين منهم, فقد كنت استقي المعلومات والاخبار حال حدوثها من رأس النبع, وكانت جميعها تقول :لا زرفي ولا كاظمي, الحجي عائد لا ريب ولا شك ولا ظن ولا تأويل !!
تأسيساً على ذلك كنت مصرّاً حتى لحظة دخول النواب الى القاعة الكبرى للتصويت على عدم مرور الكاظمي وكابينته !!! لكن المشهد انقلب في اللحظة الأخيرة فجأةً تأجل الاجتماع ساعة, وانغلقت ابواب بعض الغرف على اجتماعات اللحظة الأخيرة, استجاب فيها المكلف لجميع المطالب وغير لهم بعض الاسماء , وأرجأ اعلان بعض الوزارات الى وقت تحاور وتوافق لاحق, وعملت الشقلبات الحلزونية عملها ليصبح المرفوض مقبولا والمستحيل ممكناً بغضون ساعة التأجيل الخطيرة تلك, او ربما سبقتها اتفاقات سرية اخرى لا يعلم بها الا الله في الليلة التي سبقت ذلك. دخلوا وصوتوا على دولة الرئيس وكابينته رغم انهم حلفوا باغلظ الايمان انهم لن يدعوه يمر ابدا, لكنه مرّ هو وثلاثة ارباع وزرائه (على عناد العاذلين والقافلين ), وزادوه فوق البيع وعدا مؤكدا بان يبقى في ولايته حتى نهاية الدورة البرلمانية في 2022, وليس لسنة واحدة تحضيراً لانتخابات مبكرة كما سبق واعلن !!!.
فاز مصطفى الكاظمي من هنا, وانفتقت عليّ عشرات الاتصالات والرسائل والتعليقات من هنا وهناك وهنالك, متنوعة بين شامت وساخر ومتشف ومراهن, وخيل لي في لحظة انهم تصوروا الامر تبارياً او تسابقا بيني وبين الكاظمي, وانه حين مرّ في البرلمان وتسنم المنصب كأنه انتصر عليّ انا شخصياً, كل هذا لانني قلت انه لن يفوز بالمنصب وانني ساعتذر واعتزل رهانا على ذلك !!!.
تعجب الجميع من لغتي الهادئة وحديثي الواثق الذي يشبه حيث منتصر لا خاسر, وانا اجيب عن سؤالهم اللئيم المتكرر : ماذا ستفعل الآن بعد ان خسرت رهانك وثبت بطلان رؤيتك ؟ قلت: لقد فاز الكاظمي وفاز جبار ايضاً !!! لانني ارى في خسارة هذا الرهان فوزا , حين تأكدت به كل ظنوني وشكوكي واتهاماتي للعملية السياسية في العراق انها عملية كذب ونصب واحتيال على الشعب المسكين الذي ما تزال عيناه متعلقة بامل ان يجد فيها شريفا صادقا قلبه على وطنه واهله بعد 17 سنة من الخيبات والكوارث والنهب والسلب والقتل والتخريب حتى اوصلوه الى حافة هاوية مخيفة يوشك ان يسقط فيها ويعود حقا الى مجاهيل وظلامات القرون الوسطى كما توعده الامريكان ذات يوم.
فوزي الحقيقي انني تعلمت الدرس جيدا جدا, وخلاصته ان العراق لا يمكن ان ينهض من جديد ابدا حين يبقى ( معظم ) هؤلاء الساسة يتداولون شؤونه تداول الكرة, ولايشبعون ابدا من سرقته ودماء وآلام ابنائه, وانهم لن يغادروه حتى يحيلوه الى كوم تراب, وان الكذب والخديعة ووعود الوهم التي يتداولونها ماهي الا (عدّة الشغل) التي لايمكن ان يتخلوا عنها, وانهم سيعيدون كرّة مافعلوه الف مرة اخرى مراوغةً ولعباً على الحبال حاضراً ومستقبلاً مهما فدح الثمن وتكارثت النتائج, وان اهل اللغة المباشرة امثالي لن ينفعوا ولن يعيشوا في مثل هذه الغابة الخبيثة مالم ينزعوا جلودهم ويبدلوها , وهذا لن يكون مني ابدا, اذ لم يعد في باقي العمر متسع لمثل هذه الحماقات.
تهنئتي الخالصة لدولة رئيس الوزراء الفائز السيد مصطفى الكاظمي ودعائي له ان يوفقه الله ويسدد خطاه ويكلل سنوات ولايته بالانجاز والنجاح من اجل وطنه وشعبه اللذين يعقدان عليه الآمال للخروج من السنوات العجاف الثقيلة والعودة الى مساره الانساني والحضاري بعد ان ضيّع بوصلته ووجهته ل17 عام خلت نتمنى ان (تنذكر ولا تنعاد).
واهنئ في الوقت ذاته جنابي الكريم على فوزي بصدق ظني الذي ما خاب يوما بمعظم هؤلاء, واعد جميع من كذب ودلّس وراوغ وتلاعب في هذه القضية انني سافضحه وانشر غسيله القذر الماضي والمضارع والتالي امام الجميع, لعلّي أعتذر لنفسي من رفقة الندامة والخيبة والخسران غير المأسوف عليها, فقد وعيت معهم وبهم الدرس جيدا هذه المرة رغم انني تأخرت كثيرا في ذلك.
الوسومالعراق مصطفى الكاظمي مقال رأي
شاهد أيضاً
أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!
العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …