بقلم: مهدي خلجي – معهد واشنطن
الشرق اليوم- بدأ الوباء فعلاً في تغيير طبيعة النظام السياسي في إيران، ومن المرجح أن تشكّل مقاومة رجال الدين الواضحة لمهام الدولة في مكافحة الفيروس نهاية ثقة الشعب برجال الدين إلى الأبد والشك في قدرتهم على العمل كرجال سلطة عقلانيين في المجال السياسي أو الاجتماعي.
وصل فيروس كورونا إلى إيران في واحدة من أسوأ الفترات التي مرّت على إيران منذ تأسيسها قبل أربعة عقود، فقد تلقى النظام ضربات قوية لشرعيته الأيديولوجية، وشعبيته الثورية، وكفاءته العملية، وبنيته الاقتصادية، وسياسته الخارجية الإسلامية، وتطلعاته للهيمنة الإقليمية، ولكن رغم كل هذه التحديات والتأثيرات الساحقة لمرض “كوفيد-19″، فإن بإمكان إيران أن تتحمل بسهولة (الظروف الصعبة) لسنوات عديدة أخرى، وإن كان ذلك ربما ليس من دون تغيير طبيعتها بشكل كبير.
قوة الدولة الضعيفة
تنطوي الأزمة الصحية العالمية الحالية على مفارقة، إذ ساهمت طبيعتها الوجودية في تمكين الأنظمة المضطربة كما في إيران، فكلما ازدادت الأضرار الناجمة عن وباء كورونا المستجد (كوفيد-١٩) وزاد ذعر الناس، زاد نظر الشعب إلى الحكومة على أنها الأمل الوحيد للمجتمع، لذلك يشكّل المرض عنصراً فعالاً بشكل استثنائي في تقليل المطالب السياسية للشعب، من المطالبة بالحرية وحقوق الإنسان إلى الاحتياجات الأساسية للغاية مثل الأمن البيولوجي، بالإضافة إلى ذلك تخلق التوقعات العامة المتزايدة حول مسؤوليات الحكومة، أرضية خصبة لحدوث توسع كبير في سلطة الدولة.
وما ساعد في تمكين النظام الإيراني أيضاً هو واقع أنه، على عكس المجتمعات الديمقراطية، لم يترك مجالاً كبيراً للكيانات غير الحكومية للمشاركة في احتواء الوباء، وبالتالي لم يبقَ أمام المعارضين ومراكز النفوذ المتنافسة سوى القليل من الوسائل لاستغلال فقدان النظام لشرعيته وعلله الأخرى لإثبات أهليته كخيار بديل للقيادة.
على سبيل المثال، بعد اتهام رجال الدين بإعاقة المبادرات الوقائية التي قامت بها الدولة في المرحلة الأولية لتفشي الوباء، حاول هؤلاء تحسين صورتهم وذلك من خلال تنظيم مجموعات من “المتطوعين” للمساعدة في مكافحة المرض، ولكن ما لبث أن توقف القادة من رجال الدين عن محاولة الفصل بين حملتهم وبين الجهود الأوسع نطاقاً التي يبذلها النظام لاحتواء الوباء. وفي هذا الصدد اعترف علي رضا عرافي، “مدير مركز إدارة المعاهد الدينية”، مؤخراً أن رجال الدين يدعمون ببساطة “الحرس الثوري” الإيراني في المعركة ضد “كوفيد-19″، مشيراً إلى أنهم يُصلّون من أجل عظمة ومجد “الحرس الثوري”.
ويساعد الوباء أيضاً في تطبيع الدور الاستبدادي الذي يمارسه النظام في عالم الإنترنت، إذ يمكنه الآن تغيير وظيفة الأسلحة نفسها التي يستخدمها منذ فترة طويلة للتحكم في خدمة الإنترنت، ومراقبة النشاط السيبراني، وفرض رقابة على المعارضة، لاستخدامها كأدوات أساسية لتعقب المرض وحماية الصحة العامة، وفي السنوات الأخيرة، أصبح تطوير قدرات جديدة للمراقبة والحرب الرقمية أحد أبرز الأولويات للجمهورية الإسلامية، ويصف المرشد الأعلى، علي خامنئي، الفضاء الإلكتروني بأنه ساحة معركة أساسية ويوجه بدقة سياسات النظام وعملياته في ذلك المجال، ولن تؤدي حالات الطوارئ لفيروس كورونا هذه سوى إلى توسيع الأنشطة وتقويتها، مع احتمال أن يصبح “الجهاد السيبراني” المعلن من قبل خامنئي أكثر أهمية بالنسبة لسياسات النظام في أعقاب الأزمة.
وبالمثل، يبدو أن النظام يعتقد أن التلاعب بالرأي العام من خلال وسائل الإعلام أصبح اليوم أكثر ضرورية لبقائه، خاصة مع انزلاق الاقتصاد بصورة أكثر نحو الانهيار، وقد أصبحت مؤخراً التغطية التلفزيونية والإذاعية، التي تسيطر عليها الدولة بالكامل، دعاية أكثر علانية، تقوم بلا خجل بتمجيد «الحرس الثوري» لدوره المحوري في “الحرب البيولوجية”.
صعود “الحرس الثوري” بثبات
ساعد الوباء في تمكين “الحرس الثوري الإسلامي” أكثر من أي مؤسسة أخرى، خصوصا في الوقت الحالي بعد أن علّق النظام القانون الوطني وأعلن حالة الطوارئ إلى أجل غير مسمى، ومُنحت قوات “الحرس الثوري” سيطرة غير مسبوقة على البلاد بعد أن قررت الحكومة أن تصبح أكثر صرامة بشأن فرض الحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، وما شابه ذلك من تدابير، وقد توسّع النظام الصحي والبنية التحتية الطبية التي يديرها “الحرس الثوري” والجماعات التابعة له توسعاً هائلاً ويعمل كل منهما حالياً بصورة أو بأخرى بشكل مستقل عن نظام الرعاية الصحية الوطني، مع الإشارة إلى أنهما قد أُنشئا خلال فترة الحرب بين إيران والعراق وتم تطويرهما بلا توقف منذ ذلك الحين.
ولسوء الحظ، فإن منح “الحرس الثوري” دوراً أكبر في الأزمة ليس من الحكمة بالضرورة من وجهة نظر طبية، ففي 13 أبريل، بعث وزير الصحة، سعيد نمكي، رسالة إلى الرئيس حسن روحاني حذر فيها من العواقب الوخيمة لهذه المقاربة، وكتب نمكي مستخدماً إحدى المواصفات التي منحها خامنئي لـ”الحرس الثوري” وميليشيا “الباسيج” التي تم تفويضها مسبقاً للتدخل في الأزمات المحلية غير المتوقعة: “أي قرار غير مصرح به تتخذه القوى “المتأهبة”… سيعرّض النظام الصحي واقتصاد البلاد إلى الخطر في النهاية”.
ومع ذلك، لم يُترَك للوزراء، مثل نمكي، والحكومة المنتخبة بشكل عام سوى دور ثانوي خلال تفشي الوباء، فروحاني ليس له دور يُذكر في حالة الطوارئ، ومن المرجح أن تستمر إجراءات الأمن البيولوجي الخارجة عن نطاق القانون التي ينفذها “الحرس الثوري” قائمة لمدة طويلة بعد رفعها. كما أن تصوير الدولة للوباء على أنه هجوم أجنبي يساعد على تبرير هذه الإجراءات الأمنية الشاملة، في حين يوسع “الحرس الثوري” نطاق مهمته ليشمل ساحات معارك جديدة، وهي أجساد الناس، ومن جانبهم، قد يبدأ العديد من المواطنين في اعتبار مثل هذه الانتهاكات طبيعية بسبب مخاوفهم من المرض، وافتقارهم إلى السلطات البديلة، وارتفاع تكلفة الحفاظ على مجال عام مستقل وسط تصاعد الإجراءات الصارمة التي يتخذها النظام.
وفيما يتعلق بالتداعيات العسكرية لهذه الاتجاهات، من المحتمل أن يواصل “الحرس الثوري” تخطيط هجمات محتملة ضد القوات الأميركية في المنطقة، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائه من الميليشيات في العراق ودول أخرى، ويمكن أن تساعد مثل هذه العمليات في مواجهة الضرر الذي لحق بالسمعة المحلية التي طالت “الحرس الثوري” بسبب فضائح متعددة حديثة، ومع ذلك فإن فعالية التكلفة لأي من هذه الهجمات ستعتمد بشكل كبير على ما إذا كان الوباء يثني الولايات المتحدة عن الانتقام الشديد.
ما الذي سيسّرع عملية الانتقال في إيران؟
في ضوء كل هذه العوامل، بدأ الوباء فعلاً في تغيير طبيعة النظام السياسي في إيران، ومن المرجح أن تشكّل مقاومة رجال الدين الواضحة لمهام الدولة في مكافحة الفيروس نهاية ثقة الشعب برجال الدين إلى الأبد والشك في قدرتهم على العمل كرجال سلطة عقلانيين في المجال السياسي أو الاجتماعي، فقد أدّى فشلهم الذريع بالامتثال للحس السليم والضمير الحيّ إلى تهيئة الظروف التي قد تؤدي إلى علمنة القيادات المستقبلية في البلاد. إن الهوة الآخذة في الاتساع بين السلطات الشيعية من جهة، والطبقة الوسطى العصرية للغاية والشباب المثقف في إيران من جهة أخرى، ستجعل الجهات الفاعلة في السلطة أقل اهتماماً بالسعي للحصول على دعم أيديولوجي أو سياسي من رجال الدين في مرحلة ما بعد خامنئي، وبما أن دور رجال الدين آخذ في التضاؤل، فإن المجتمع المدني ليس في وضع يسمح له بالتقدم إلى الأمام.
ونتيجةً لذلك، قد تكون إيران في خضم تغيير تطوّري، فالنموذج القديم قد شكّل نظاماً ثورياً إسلامياً تم إدراجه بموجب مبدأ “ولاية الفقيه”، ولكنّ ذلك يمكن أن يفسح المجال أمام قيام نظام أمني وعسكري خاضع إلى حد كبير لسيطرة تحالف من الفصائل الرئيسة في “الحرس الثوري” من جهة وحلفاء الحرس المحددين حديثاً والمستفيدين منه وعملائه من جهة أخرى.
وستأخذ هذه العملية قفزة كبيرة إلى الأمام إذا أصبح الانتقال على مستوى المرشد الأعلى ضرورياً على المدى القريب، فخامنئي هو في الثمانين من عمره، لذلك فإن احتمال وفاته أو عجزه عن تأدية مهام منصبه كبير، وحتى لو بقي في السلطة لبعض الوقت، فقد يجد نفسه مهمشاً في البيئة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن يكون أي انتقال إلى زعيم جديد أو نظام قيادة جديد سريعاً وتوافقياً على غرار ذلك الذي أعقب وفاة روح الله الخميني في عام 1989.
ومهما كانت الحالة، فإن الوباء جعل إمكانية قيام سيناريو الخلافة الأكثر احتمالاً حتى الآن، ذلك الذي يلعبه “الحرس الثوري” الذي سيؤدي الدور الرئيس في إيران في مرحلة بعد خامنئي، وحتى ذلك الحين، لا شك أن القيادة العسكرية الإيرانية تأمل في أن يؤدي الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن الفيروس إلى ثني الولايات المتحدة وغيرها من “الأعداء” الأجانب عن المجازفة مع إيران، سواء عن طريق زعزعة استقرارها بالوسائل العسكرية أو تحويلها إلى دولة فاشلة من خلال سياسة “الضغط الأقصى”.