BY: Foreign Policy
ستغَير الجائحة النظام الاقتصادي والمالي إلى الأبد
الشرق اليوم- بعد عدة أسابيع من الإغلاق، والخسائر المأساوية في الأرواح، وإغلاق جزء كبير من الاقتصاد العالمي، ما يزال أفضل وصفٍ مناسبًا لهذه اللحظة التاريخية هو: انعدام اليقين الجذريِّ. فهل ستعيد الأعمال التجارية فتح أبوابها مرة أخرى، وتعود الوظائف إلى سابق عهدها؟ هل سنسافر مرة أخرى كما اعتدنا دائمًا؟ هل سيكون تدفق الأموال من البنوك المركزية والحكومات كافيًا لمنع حدوث ركود عميق ودائم، أو وقوع ما هو أسوأ؟
لا أحد يعرف الإجابة على وجه اليقين، والشيء الوحيد المؤكد حتى الآن هو: أن الجائحة ستؤدي إلى تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية بطرق لن تظهر للعيان إلا لاحقًا.
لمساعدتنا على فهم طبيعة التحوُّل الذي يحدث الآن تحت سمعنا وأبصارنا، دون أن نستوعب ملامحه تمامًا، طلبنا من تسعة مفكرين بارزين، من بينهم اقتصاديان حائزان جائزة نوبل، بسط توقعاتهم على طاولة النقاش، لتحديد كيف سيكون شكل النظام الاقتصادي والمالي بعدما تضع جائحة فيروس كورونا أوزارها.
جوزيف ستيليتز: نحن بحاجة إلى تحقيق توازن أفضل بين العولمة والاعتماد على الذات
قدم أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، جوزيف ستيجليتز، الإجابة الأولى مستهلًّا حديثه بالإشارة إلى السخرية التي اعتاد الاقتصاديون أن يردوا بها على الدعوات الموجهة للحكومات؛ لكي تتبنى سياسات لتأمين الغذاء والطاقة.
كانت الحجة التي استند إليها هؤلاء العلماء هي: أننا في عالم العولمة، الذي لا يأبه بالحدود، يمكننا دائمًا اللجوء إلى بلدان أخرى (لتأمين احتياجاتنا من الغذاء والطاقة)، إذا واجهت بلادنا أي مشكلة.
لكن الحدود أصبحت فجأة مهمة؛ مع انكباب الدول على تأمين الكمامات والمعدات الطبية، ومكافحتها لتأمين الإمدادات التي تشتد الحاجة إليها. على هذا النحو، كانت أزمة فيروس كورونا بمثابة تذكيرٍ قوي بأن المُكَوِّن السياسي والاقتصادي الأساسي ما يزال هو: الدولة القومية.
يشرح ستيجليتز، الحاصل على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية لعام 2001، كيف وصلنا إلى هذه الحالة قائلًا: لبناء سلاسل التوريد التي تبدو فعالة، بحثنا في جميع أنحاء العالم عن المنتج الأقل تكلفة لكل حلقة في هذه السلسلة. لكننا كنا قصيري النظر؛ حين بنينا نظامًا يفتقر بوضوح إلى المرونة، ولا يتمتع بالتنوع الكافي، وعرضة للتعطُّل.
صحيحٌ أن الإنتاج والتوزيع في الوقت المناسب، مع وجود مخزونات منخفضة أو حتى بدون مخزون، قد يكون كافيًا لاستيعاب المشكلات الصغيرة، لكننا رأينا الآن رأي العين، كيف انسحق النظام تحت وطأة الاضطراب غير المتوقع.
كان يجب أن نتعلم درس المرونة من الأزمة المالية لعام 2008. ذلك أننا بنينا نظامًا ماليًّا مترابطًا، بدا فعالًا، وربما كان جيدًا في امتصاص الصدمات الصغيرة، لكنه كان نظامًا هشًّا في جوهره. ولولا عمليات الإنقاذ الحكومية الضخمة، لكان النظام قد انهار مع انفجار الفقاعة العقارية. هذا هو الدرس الذي من الواضح أننا لم نستوعبه.
يختم ستيجليتز تحليله بالقول: يجب أن يكون النظام الاقتصادي الذي سنبنيه بعدما تضع الجائحة أوزارها أبعد نظرًا، وأكثر مرونة، وأقوى إدراكًا لحقيقة أن العولمة الاقتصادية تجاوزت العولمة السياسية بكثير. وطالما كان الأمر كذلك، سيتعين على الدول أن تسعى لتحقيق توازن أفضل بين الاستفادة من العولمة والتأكد من توفُّر مستوى ضروري من الاعتماد على الذات.
روبرت شيلر: هذا المناخ الذي يشبه حالة الحرب يفتح لنا بابًا للتغيير
تنتقل دفة التحليل إلى أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل، روبرت شيللر، فيقول: هناك تغييرات أساسية تحدث من وقت لآخر، غالبًا في أوقات الحرب. وعلى الرغم من أن العدو الذي نواجهه الآن ليس قوة خارجية بل فيروسًا، فإن جائحة “كوفيد-19” خلقت مناخًا يشبه زمن الحرب، حيث تبدو مثل هذه التغييرات الجوهرية فجأة ممكنة.
هذا المناخ، الذي تحتشد فيه سرديات المعاناة والبطولة، ينتشر مع تفشي المرض. وفي زمن الحرب يجتمع الناس معًا، ليس فقط داخل البلد، ولكن أيضًا عبر الدول، بينما يواجهون عدوًّا مشتركًا مثل الفيروس.
يمكن لمن يعيشون في البلدان المتقدمة أن يشعروا بمزيد من التعاطف مع من يعانون في البلدان الفقيرة؛ لأنهم يخوضون تجربة مماثلة. هذه الجائحة تجمعنا أيضًا في لقاءاتٍ لا حصر لها عبر تطبيق زوم. وهكذا يبدو العالم فجأة أصغر وأكثر حميمية.
يضيف شيللر، الحاصل على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية لعام 2013: هناك أيضًا سبب للأمل في أن تفتح الجائحة بابا لإيجاد طرق ومؤسسات جديدة للتعامل مع المعاناة، بما في ذلك اتخاذ تدابير أكثر فاعلية لوقف التدهور نحو مزيد من عدم المساواة.
ربما تكون الأموال الطارئة التي دفعتها العديد من الحكومات للأفراد، هي خطوة على طريق توفير دخل أساسي شامل للمواطنين. في الولايات المتحدة، ربما يمنح هذا المناخ دفعة جديدة لتوفير تأمين صحي أفضل وأكثر شمولًا. وبما أننا جميعًا نواجه عدوًّا مشتركًا في هذه الحرب؛ فقد نجد الآن الدافع لبناء مؤسسات دولية جديدة تسمح بمشاركة أفضل للمخاطر بين البلدان. وحين تتبدد غيوم الحرب، ستبقى هذه المؤسسات الجديدة.
جيتا جوبيناث: الخطر الحقيقي هو استغلال السياسيين لمخاوفنا
خلال بضعة أسابيع فقط، وقعت سلسلة مثيرة من الأحداث: خسائر مأساوية في الأرواح، وشلل في سلاسل التوريد العالمية، وتعطل في شحنات الإمدادات الطبية بين الحلفاء، وأعمق انكماش اقتصادي عالمي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. هذه الأحداث كشفت عن نقاط ضعف الحدود المفتوحة.
وإذا كان دعم الاقتصاد العالمي المتكامل قد شهد انخفاضًا بالفعل قبل ظهور “كوفيد-19″، فمن المحتمل أن تُسَرِّع الجائحة من إعادة تقييم تكاليف العولمة وفوائدها، حسبما تتوقع كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث.
أمَا وقد وجدت الشركات، التي هي جزء من سلاسل التوريد العالمية، نفسها وجهًا لوجه أمام المخاطر الكامنة في ترابطها المتبادل، والخسائر الكبيرة الناجمة عن التعطل الذي أصابها؛ من المرجح أن تولي هذه الشركات اهتماما أكبر مستقبلًا بمخاطر الذيل Tail risk (الأحداث مستبعدة الحدوث، عند طرفي منحنى التوزيع الطبيعي) التي تصبغ سلاسل التوريد بصبغةٍ محلية أكثر قوة، لكنها تنزع عنها الكثير من صبغتها العالمية.
في الأسواق الناشئة، التي يتضمن احتضانها للعولمة انفتاحًا ثابتًا على تدفقات رأس المال، تشير عالمة الاقتصاد، جيتا جوبيناث، إلى أننا نخاطر بإعادة فرض قيود على رأس المال، بينما تتدافع هذه البلدان لحماية نفسها من مخاطر الشلل الاقتصادي المفاجئ المزعزع للاستقرار.
وحتى مع ظهور تدابير الاحتواء تدريجيًّا في جميع أنحاء العالم، فقد يُقدِم الأفراد على تقييم مخاطرهم الفردية ذاتيًّا، ويقرروا الحد من السفر إلى ما لا نهاية، وهو ما يعكس اتجاه نصف قرنٍ من الحراك الدولي المتنامي.
ومع ذلك، فإن الخطر الحقيقي يكمن في أن هذا التحول العضوي والمتمحور حول الذات، الذي يقوم به الأشخاص والشركات بعيدًا عن العولمة، سوف يضاعفه بعض صناع السياسات، الذين يستغلون المخاوف بشأن الحدود المفتوحة. إذ يمكنهم فرض قيود حمائية على التجارة تحت غطاء الاكتفاء الذاتي، وتقييد حركة الأشخاص بحجة الصحة العامة.
وتختم جيتا جوبيناث تحليلها بالقول: الأمر الآن في أيدي قادة العالم لتفادي هذه النتيجة، والحفاظ على روح الوحدة الدولية التي دعمتنا جماعيًّا لأكثر من 50 عامًا.
كارمن رينهارت: مسمار آخر في نعش العولمة
كانت الحرب العالمية الأولى، والكساد الاقتصادي العالمي في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، إيذانًا بزوال حقبة سابقة من العولمة. وبصرف النظر عن عودة الحواجز التجارية وقيود رأس المال، هناك تفسير مهم لهذا الزوال، تطرحه أستاذة التمويل الدولي في مدرسة هارفارد كينيدي، كارمن رينهارت، هو: حقيقة أن أكثر من 40% من جميع البلدان في ذلك الوقت دخلت في حالة تخلف عن السداد، مما أدى إلى عزل العديد منها عن أسواق رأس المال العالمية حتى الخمسينيات أو بعد ذلك بكثير.
وبحلول وقت انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان نظام بريتون وودز الجديد يجمع بين القمع المالي المحلي، والقيود واسعة النطاق على تدفقات رأس المال، مع تشابه ضئيل مع الحقبة السابقة للتجارة والتمويل العالميين.
ومنذ الأزمة المالية 2008-2009، تلقت دورة العولمة الحديثة سلسلة من الضربات: أزمة الديون الأوروبية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى صعود الشعبوية في العديد من البلدان، وهو الاتجاه الذي جعل كفة الميزان تميل أكثر نحو التحيز للوطن، والانكباب على الداخل.
وتلفت كارمن رينهارت، إلى أن جائحة فيروس كورونا هي أول أزمة منذ ثلاثينيات القرن الماضي تجتاح الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء. وقد تكون فترات الركود الناتجة منها عميقة وطويلة. وكما حصل في ثلاثينيات القرن الماضي، من المرجح أن تزيد حالات التخلف عن دفع الديون السيادية. والدعوات لتقييد التجارة وتدفقات رأس المال، تجد تربة خصبة في مثل هذه الأوقات العصيبة.
ومن المحتمل أن تستمر الشكوك التي كانت تخيِّم على سلاسل التوريد العالمية، حتى قبل ظهور فيروس كورونا، وكذلك على سلامة السفر الدولي، وتمتد أيضًا على المستوى الوطني لتشمل المخاوف بشأن الاكتفاء الذاتي من الضروريات ومستوى المرونة، حتى بعد السيطرة على الجائحة، وهو ما قد تثبت الأيام أنه سيستغرق وقتًا طويلًا.
وتختم كارمن رينهارت تحليلها، بالقول: البنية المالية التي ستنشأ بعد فيروس كورونا قد لا تعيدنا جميعًا إلى عهد بريتون وودز ما قبل العولمة، ولكن من المحتمل أن يكون الضرر الذي لحق بالتجارة والتمويل الدوليين واسعًا ودائمًا.
آدم بوسين: المشكلات الاقتصادية التي كانت موجودة مسبقًا أصبحت أسوأ بسبب الجائحة
يتوقع رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، آدم بوسين، أن تؤدي الجائحة إلى تفاقم أربع مشكلات كانت موجودة مسبقًا في الاقتصاد العالمي، قبل ظهور فيروس كورونا. صحيحٌ أن هذه المشكلات يمكن عكس مسارها من خلال إجراء تدخل جراحي كبير، ولكنها ستتحول إلى أزمات مزمنة ومدمرة في غياب مثل هذه التدخلات.
المشكلة الأولى؛ الركود المزمن، الناتج من مزيج من انخفاض نمو الإنتاجية، ونقص عوائد الاستثمار الخاص، وشبه الانكماش. وسيتعمق ذلك مع استمرار عزوف الناس عن المخاطرة وادخار المزيد بعدما تنتهي الجائحة، مما سيضعف الطلب والابتكار على الدوام.
المشكلة الثانية؛ سوف تتسع الفجوة أكثر بين الدول الغنية (إلى جانب عدد قليل من الأسواق الناشئة) وبقية العالم، فيما يتعلق بالقدرة على الصمود في مواجهة الأزمات.
المشكلة الثالثة؛ سيظل العالم يعتمد اعتمادًا مفرطًا على الدولار الأمريكي في التمويل والتجارة؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى السعي وراء الأمان، والمخاطر الواضحة التي تنطوي عليها الاقتصادات النامية. حتى عندما تصبح الولايات المتحدة أقل جاذبية للاستثمار، ستزداد جاذبيتها بالنسبة لمعظم الأجزاء الأخرى من العالم. وسيؤدي هذا إلى حالة متجددة من عدم الرضا.
المشكلة الأخيرة؛ ستدفع القومية الاقتصادية الحكومات على نحوٍ متزايد إلى عزل اقتصاداتها عن بقية العالم. ولن يؤدي هذا على الإطلاق إلى الاكتفاء الذاتي الكامل، أو حتى شبه الكامل، ولكنه سيفاقم المشكلتين الأوليين المذكورتين آنفًا، ويزيد من الاستياء الناتج من المشكلة الثالثة.
إسوار براساد: يتطلع العالم أكثر من أي وقت مضى إلى محافظي البنوك المركزية من أجل الإنقاذ
يؤكد أستاذ السياسة التجارية في جامعة كورنيل، إسوار براساد، أن “المذبحة الاقتصادية والمالية التي أحدثتها الجائحة يمكن أن تترك ندوبًا عميقة على جسد الاقتصاد العالمي”. ويرى أن البنوك المركزية ارتقت إلى مستوى مواجهة التحدي، حين أقدمت على إجراءات غير تقليدية.
ويستدل براساد، الزميل البارز في معهد بروكينجز، على ذلك بتعزيز مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسواق المالية، عن طريق شراء الأصول، وتقديم سيولة دولارية إلى البنوك المركزية الأخرى. وتعهُّد البنك المركزي الأوروبي بدعمٍ “غير محدود” لليورو، وإعلانه مشتريات ضخمة لسندات الحكومة والشركات والأصول الأخرى. وتمويل بنك إنجلترا الإنفاق الحكومي مباشرة. حتى بعض البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، مثل بنك الاحتياطي الهندي (البنك المركزي)، يفكر في اتخاذ إجراءات استثنائية، لمواجهة كل المخاطر مهما كانت.
من ناحية أخرى، أثبتت إجراءات التحفيز المالي التي اتخذتها الحكومات، أنها معقدة من الناحية السياسية، ومرهقة في التنفيذ، وغالبًا ما يصعب استهدافها حينما تكون الحاجة في أقصى مستوياتها.
يضيف إسوار براساد: أظهر المصرفيون المركزيون، الذين كانوا سابقًا يُنظَر إليهم بوصفهم حذرين ومحافظين، أنهم يستطيعون التصرف برشاقة وجرأة وإبداع في الأوقات العصيبة. حتى عندما يكون القادة السياسيون غير مستعدين لتنسيق السياسات عبر الحدود، يمكن لمحافظي البنوك المركزية التضافر سويًّا لاتخاذ إجراءات منسقة.
وهكذا رسخت البنوك المركزية مكانتها – الآن ولفترة طويلة قادمة – كخط الدفاع الأول والأساسي ضد الأزمات الاقتصادية والمالية. لكنها قد تندم على اضطلاعها بهذا الدور الجديد الهائل، وتصديها لهذه الأعباء والتوقعات غير الواقعية التي ستفرض عليها.
آدم توز: الاقتصاد لن يعود إلى طبيعته أبدًا
مع بدء عمليات الإغلاق، كان الدافع الأول هو: البحث عن المقارنات التاريخية بين أعوام 1914 و1929 و1941. ومنذ ذلك الحين، ما برز في المقدمة أكثر من أي وقت مضى هو: الحداثة التاريخية للصدمة التي نعيشها. هناك شيء جديد تحت الشمس. وهذا مروع، على حد وصف أستاذ التاريخ ومدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا، آدم توز.
التداعيات الاقتصادية تتحدى التقديرات. والعديد من البلدان تواجه صدمة اقتصادية أكثر عمقًا ووحشية مما شهدته في أي وقت آخر على الإطلاق. وفي قطاعات مثل البيع بالتجزئة، الذي يتعرض بالفعل لضغوط شديدة من المنافسة عبر الإنترنت، قد يكون الإغلاق المؤقت نهائيًّا. ولن يعاد فتح العديد من المتاجر، وسيفقد العاملون فيها وظائفهم للأبد. ويواجه ملايين العمال وأصحاب الأعمال الصغيرة وأسرهم كارثة. وكلما طالت مدة الإغلاق، كانت الندوب الاقتصادية أعمق، وكان الانتعاش أبطأ.
يعترف أستاذ التاريخ بأن “ما اعتقدنا أننا نعرفه عن الاقتصاد والتمويل أصيب باختلالٍ جذري”. مضيفًا: منذ صدمة الأزمة المالية لعام 2008، كَثُرَ الحديث عن الحاجة إلى التعامل مع عدم اليقين الجذري. وها نحن الآن نرى بأعيننا كيف تبدو حالة عدم اليقين الجذري حقًّا.
يضيف آدم توز: نحن نشهد أكبر جهدٍ ماليٍّ مشترك منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن من الواضح بالفعل أن الجولة الأولى قد لا تكون كافية. والجهود المضنية غير المسبوقة التي تبذلها البنوك المركزية لا تخفى على أحد. وللتعامل مع الالتزامات المتراكمة، يشير التاريخ إلى بعض البدائل الراديكالية، بما في ذلك انفجار التضخم، أو التخلف العام والمنظم عن السداد (والذي لن يكون حادًا كما يبدو، إذا كان يؤثر في الديون الحكومية التي تحتفظ بها البنوك المركزية).
وإذا استجابت الشركات والأسر بتجنب المخاطرة، والفرار إلى مظلة الأمان؛ فسيؤدي ذلك إلى تفاقم الركود. وإذا اختار الجمهور التقشف لمواجهة الديون المتراكمة، فإن ذلك سيجعل الأمور أسوأ. ومن المنطقي أن ندعو بدلًا من ذلك إلى حكومةٍ أكثر نشاطًا، وأعمق رؤية لقيادة القاطرة للخروج من الأزمة. لكن السؤال بالطبع هو الشكل الذي سيتخذه هذا النهج، والقوى السياسية التي ستسيطر عليه.
لورا داندريا تايسون: العديد من الوظائف المفقودة لن تعود أبدًا
تتوقع الأستاذة في كلية هاس للأعمال بجامعة كاليفورنيا- بيركلي، لورا داندريا تايسون، أن تؤدي هذه الجائحة والتعافي اللاحق منها إلى تسريع اتجاهات الرقمنة والأتمتة التي نشهدها حاليًا في سوق العمل؛ وهي الاتجاهات التي أدت إلى تآكل الوظائف ذات المهارات المتوسطة، مع زيادة الوظائف ذات المهارات العالية، خلال العقدين الماضيين، وساهمت في ركود الأجور المتوسطة وزيادة التفاوت في الدخل.
كما أن التغيرات في الطلب، والتي تسارَع الكثير منها بسبب الاضطراب الاقتصادي الذي أحدثته الجائحة، ستغير التكوين المستقبلي للناتج المحلي الإجمالي. إذ سترتفع حصة الخدمات في الاقتصاد باطراد. لكن حصة الخدمات الشخصية ستتراجع في تجارة التجزئة، والضيافة، والسفر، والتعليم، والرعاية الصحية، والحكومة، فيما ستؤدي الرقمنة إلى تغييرات في طريقة تنظيم هذه الخدمات وتقديمها.
وتضيف لورا، الرئيسة السابقة لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس كلينتون: العديد من الوظائف ذات الأجور المنخفضة التي تتطلب مهارات متواضعة، ويؤديها العامل بنفسه وجهًا لوجه، خاصة تلك التي تقدمها الشركات الصغيرة، لن تعود مع التعافي النهائي.
ومع ذلك، سيزداد الطلب على العمال الذين يقدمون الخدمات الأساسية، مثل: الشرطة، وإطفاء الحرائق، والرعاية الصحية، والخدمات اللوجستية، والنقل العام، والغذاء؛ مما يخلق فرص عمل جديدة، ويزيد الضغط لزيادة الأجور وتحسين الفوائد في هذه القطاعات ذات الأجور المنخفضة تقليديًّا.
وسوف يُسَرِّع هذا التراجع من نمو العمالة غير القياسية وغير المستقرة – هؤلاء الذين يعملون بدوام جزئي، أو في الأعمال الحرة، أو مع أصحاب عمل متعددين – مما يؤدي إلى ظهور منظومات متنقلة من المنافع الجديدة التي تتحرك مع العمال أينما حلوا أو ارتحلوا، وتوسع تعريف صاحب العمل.
وستكون هناك حاجة إلى برامج تدريب جديدة منخفضة التكلفة، تُقَدَّم من خلال وسائل رقمية، لتوفير المهارات المطلوبة في الوظائف الجديدة. وحين يجد الكثيرون أنفسهم فجأة يعتمدون على العمل عن بُعد، يذكرنا ذلك بأن التوسع الكبير والشامل في شبكة الواي فاي وتقنية النطاق العريض، والبنى التحتية الأخرى، سيكون ضروريًّا لتمكين تسريع رقمنة النشاط الاقتصادي.
كيشور مهبوباني: عولمة تتمحور أكثر حول الصين
في ختام التقرير يُرجح الباحث في معهد آسيا للبحوث، التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، كيشور مهبوباني، أن تسرِّع جائحة “كوفيد-19” من التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال بعيدًا عن العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة، إلى العولمة التي تتمحور حول الصين.
لماذا سيستمر هذا الاتجاه؟ لأن الشعب الأمريكي فقد ثقته في العولمة والتجارة الدولية. واتفاقيات التجارة الحرة لها تأثير سام، سواء في ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو بدونه.
وفي المقابل، لم تفقد الصين إيمانها. لماذا؟ يرجع ذلك لأسباب تاريخية أعمق. إذ بات القادة الصينيون يعرفون جيدًا الآن، أن قرن الإذلال الذي عاشته الصين ما بين عامي 1842 و1949 كان نتيجة لشعورها بالرضا عن النفس والجهود غير المجدية التي بذلها قادتها لعزلها عن العالم.
على النقيض من ذلك، كان الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته العقود القليلة الماضية نتيجة لتفاعلها مع العالم. كما شهد الشعب الصيني دفعة قوية من الثقة الثقافية. وهم يعتقدون أن بمقدورهم المنافسة في أي مكان.
نتيجة لذلك، كما يوثق مهبوباني في كتابه الجديد، المعنون «هل فازت الصين؟»، تجد الولايات الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين:
1. إذا كان هدفها الأساسي هو: الحفاظ على التفوق العالمي؛ فسيتعين عليها الانخراط في منافسة جيوسياسية محصلتها صفر، سياسيًّا واقتصاديًّا، مع الصين.
2. أما إذا كان هدف الولايات المتحدة هو: تحسين رفاهية الشعب الأمريكي – الذي تدهورت حالته الاجتماعية – فعليها أن تتعاون مع الصين.
يختم مهبوباني تحليله قائلًا: النصيحة التي تتسم بقدرٍ وافر من الحكمة سترجح التعاون؛ بوصفه الخيار الأفضل. لكن نظرًا إلى البيئة السياسية الأمريكية السامة تجاه الصين، قد لا تسود تلك النصيحة مهما اتسمت بالحكمة.