بقلم: نازلي تارزي
الشرق اليوم– إن الرغبة في الاحتفال بتقليص تمركز القوات الأميركية من خمسة مواقع عسكرية إلى قواعد أصغر، وهو الانسحاب الذي طالما انتظره العراق، قد تلاشت بمجرد استكشاف عناوين الأخبار لنوايا واشنطن. ما وصفه المنتقدون في البداية بالانسحاب يبدو الآن وكأنه تراجع مؤقت. ومع اقتراب الممثلين العراقيين لإيران من التوجه نحو إعادة ضبط استراتيجي للعلاقات الأميركية العراقية، فإن محاولتهم لعرقلة مسار واشنطن غير مرجحة دون مواجهة محتملة.
تراجعت العلاقات بعد سلسلة من الهجمات الصاروخية ضد جنود أميركيين من قبل الميليشيات المدعومة من إيران المتحالفة مع قوات الحشد الشعبي. تسبب هذا التصعيد منذ يناير في حدوث تحول ملحوظ في أولويات واشنطن. لم تعد الإدارة الأميركية مصرة فقط على الحفاظ على تفوقها السياسي داخل الساحة العراقية الداخلية فحسب، بل تعيد الآن توجيه طاقاتها ومواردها لمواجهة التهديد الذي تشكله الميليشيات على مصالحها الأمنية.
وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن “الولايات المتحدة لن تنسحب من العراق. نحن ملتزمون بالشراكة والصداقة مع العراق”.
وعلى النقيض من استدامة الفكر في السياسة الأميركية، فإن الممثلين الذين توددت إليهم واشنطن عام 2003 بدّلوا الأمور، وهم عازمون هذه المرة على إنهاء تحالفهم الذي دام 17 عاما.
الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة لإعادة التمركز تشتري لواشنطن الوقت اللازم لتعزيز وجودها ونقل نظام الدفاع الجوي الآلي الخاص بها لاعتراض الصواريخ الإيرانية
تطلق الميليشيات الموالية لإيران الرهانات، حيث تجد بغداد نفسها عالقة في وسط ما وصفه رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، بأنها “سياسات معنا أو ضدنا”، ولكن لا تشير هنا إلى الضغط الذي تمارسه طهران ولكن الضغط من واشنطن.
إن استقالة رئيس الوزراء العراقي المعين عدنان الزرفي -الذي حل محله رئيس المخابرات السابق مصطفى الكاظمي- تفتح نافذة استراتيجية أمام إيران لاختبار حدود التنافس مع منافستها الولايات المتحدة، لتظل الأفضل.
وعلى عكس مرحلة السلام في العلاقة بين واشنطن وبغداد، فإن تضاؤل مجموعة اللاعبين التي يمكن لواشنطن أن تستفيد منهم يشرح مدى تفضيلها للأهداف العسكرية النهائية على دبلوماسية الدفاع. وأكد المسؤولون الأميركيون أنه تم نقل قاذفات صواريخ باتريوت إلى قاعدة عين الأسد الجوية ونظام دفاع صاروخي قصير المدى في معسكر التاجي.
وفي أواخر شهر مارس الماضي، تحدث عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية كريم محمداوي، عن احتمال وقوع هجوم أميركي ضد مواقع الحشد الشعبي، مؤكدا أن “العراقيين جاهزون لكل الخيارات”.
وتجسد مواقف أحدث الميليشيات العراقية “عصبة الثائرين”، موقفها العدائي تجاه الولايات المتحدة، من خلال لقطات الدعاية الأخيرة للطائرة ذاتية القيادة التي تدعي فيها أنها حددت مواقع عسكرية رئيسية وطائرات أميركية في قاعدة عين الأسد الجوية. واختتم أحد مقاطع الفيديو تحذيرا مباشرا للأميركيين “نحن نراقب تحركاتكم”.
ونددت الدوائر الصحافية بعزم الولايات المتحدة على القيام بـ”هجوم عدواني” ضد وكلاء إيران، لكن هذا التنديد يعكس التكتيكات الإيرانية ضد المواقع الأميركية في العراق بعد ما أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، باغتيال اللواء الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في يناير الماضي.
وكانت المحاولات الإيرانية لإثارة الضغط لتسريع رحيل الولايات المتحدة بالوسائل التشريعية على عجل. وكنتيجة لذلك فشلت الاستراتيجية في تحقيق النتيجة المرجوة حتى منذ أن صوت البرلمان العراقي لصالح طرد القوات الأميركية والأجنبية، وهو قرار تفوق قيمته الرمزية قدرته على أن يتحقق على أرض الواقع.
وتهدف هذه الخطوات إلى تقويض التعاون الأمني بين واشنطن وبغداد، الذي لم يعد مصيره منذ عام 2003 قاصرا على الدولتين.
ومنذ أكتوبر 2019، خرجت الجماهير العراقية إلى الشوارع احتجاجا على النظام السياسي والدول التي تستفيد دون مقابل من موارد العراق. كانت معارضة تجاوزات الولايات المتحدة سمة ملحوظة لهذه الانتفاضات ولكن الأكثر وضوحا كان تنديد الناس بالعدوان الإيراني في بلادهم.
ومن الإنصاف القول إن القوتين المتحاربتين عارضتا الأساليب تماما بينما تشتركان في نفس الهدف: التأثير الذي لا جدال فيه على موارد العراق والمؤسسات الرئيسية.
إن الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة لإعادة التمركز تشتري لواشنطن الوقت اللازم لتعزيز وجودها ونقل نظام الدفاع الجوي الآلي الخاص بها لاعتراض الصواريخ الإيرانية. ومع ذلك، لن يأتي استخدام هذا النظام دون عواقب.
وخلافا للتفكير الحالم للمعسكر العراقي المؤيد لإيران، فإن الوجود الأميركي، الذي يمتد عبر 14 موقعا عسكريا في شمال العراق وغربه، لا يمكن القضاء عليه بسرعة الصاعقة. لكن الضغوط ستستمر في التصاعد كما أبلغ الجنرال فرانك ماكنزي قائد القيادة المركزية الأميركية لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ.
ومع ذلك، فإن الهيمنة العسكرية وحدها لا يمكن أن تضمن مكان واشنطن في العراق. يجب إصلاح العلاقات الأمنية الثنائية، الأمر الذي يتطلب حلفاء موثوقين تفتقر إليهم واشنطن حاليا.
ستنتهز الميليشيات فرصة استغلال نقاط الضعف هذه لتهيئة ظروف مواتية تحمي الوضع الراهن في العراق، وستظل مسألة وقت حتى يتم تحديد الوضع في ظل تحالف طهران المثمر مع أحدث حكومة عراقية بقيادة الكاظمي.