بقلم: د. سعد ناجي جواد
الشرق اليوم– في عددها الصادر في 24 نيسان/أبريل الجاري، نشرت مجلة السياسة الخارجية الأمريكية (Foreign Policy) المهمة والتي تعتبر قريبة من صانعي القرار، مقالا دالا يجب أن يقراءه كل من لا يزال يعتقد أن الولايات المتحدة هي الحل. ويكفي قراءة عنوان المقال (لا أحد يستطيع مساعدة العراق بعد الان)، هكذا وبكل وضوح، ليشعر القاريء بمدى اهتمام الإدارة الأمريكية ومفكريها بالعراق وبمعاناة ابناءه. ومن وجهة نظر كاتب المقال فان الحل الأمثل هو الانسحاب من العراق، وتركه لانه لا يوجد اي حل لمشاكله خاصة بعد انهيار أسعار النفط واقتراب الدولة من الإفلاس الحتمي. أما الخلاصة النهائية التي توصل لها الكاتب فهي: (ان النظام السياسي [العراقي] فاسد للغاية، والاميركيون مشتتون للغاية وإيران تريد العراق كما هو). لكن المقال لا يذكر من جاء بهذا النظام السياسي الفاشل ومن يحمي الفاسدين وهذا الفساد الكبير، وكيف وصل العراق إلى هذا المنحدر الخطير، بحيث اصبح ضعفه وتشتته يمثل ما تبتغيه دولا إقليمية عديدة مثل ايران وإسرائيل وبعض دول الخليج. حتى الساسة الأميركان الذين دفعوا باتجاه غزو وإحتلال العراق لا يتطرقون الى ذلك. وإذا ما حدث وتكلم هؤلاء فانهم يتغافلون عن الجرائم التي تسببت فيها السياسة الأمريكية في العراق منذ عام 2003، بل وقبل ذلك، وإنما يقولون (ان الاحتلال وفر للعراق فرصة ذهبية لبداية جديدة الا ان العراقيين افسدوا هذه الفرصة [كذا]). وهكذا فان اللوم من وجهة نظر هولاء يقع على العراقيين وليس على الإحتلال والنماذج التي أتى بها وسلطها على رقابهم.
والأمثلة على ذلك كثيرة: حملات تصفيات العلماء وتدمير البنية التحتية وحل القوات المسلحة وتدمير اسلحتها او بيعها بثمن بخس من قبل أطراف جاءت مع الاحتلال لدول مجاورة او في أسواق الخردة، وجرائم وفظائع سجن ابو غريب والمعتقلات الأمريكية الأخرى، ووضع دستور يشجع على شرذمة البلاد ونشر الطائفية والمحاصصة، والأخطر هو تنصيب وحماية كل النماذج التي اعتبرت (عراقية) ونفذت هذه السياسات والأجندات والتستر على فسادها وجرائمها. حتى اصبح العراق، الذي انجب سياسين من طراز رفيع كانوا نموذجا ومنارات في السياسة العربية، يبدو لمن ينظر اليه من الخارج وكأنه بلد عقيم لا يستطيع ان يلد ساسة اكفاء قادرين على انتشاله من هذا الوضع المزري. وان من أتى مع الاحتلال من فاسدين وفاشلين هم الوحيدون الذين يحق لهم ان يحكموا هذا البلد العريق.
بالتأكيد ان الاحتلال يبقى المسؤول الأول عما جرى ويجري، الا ان ذلك لا يعفي بعض العراقيين، وخاصة قيادات واتباع الأحزاب التي أتت مع الاحتلال، من المسؤولية وعن دورهم في اعادة تدوير نفس الوجوه عن طريق تكرار انتخابها وغالبا بالتزوير. وليس هذا فقط ما يحزُ في النفس ولكن ما يؤلم اكثر ان يظهر علينا الإعلام العراقي والإقليمي والعالمي مادحا ومروجا لوجوه فاشلة وفاسدة وطائفية وعنصرية ولا يوجد في سيرتها الذاتية ما يشير الى اي نجاح، اللهم الا في خدمة الاحتلال ودولا إقليمية اخرى مثل ايران وإسرائيل، معتبرا هذه الوجوه هي المنقذ. ومن يرجع الى التصريحات التي تسبق او ترافق اختيار اي رئيس وزراء وحكومة جديدة يستطيع ان يعي هذه الحقيقة. فالفاشل دراسيا اصبح يحمل شهادة دكتوراه وسياسي محنك، والسارق اصبح مخططا اقتصاديا كبيرا والقاتل والمجرم اصبح خبيرا امنيا قادرا على فرض الأمن وهكذا.
طبعًا الحديث عن انسحاب أمريكي كامل من العراق يبقى حديث مضلل. فالخطوات التي إتُخِذَت من قبل الإدارة الأمريكية، والمتمثلة بالانسحاب من بعض القواعد العسكرية لا تعني نية للانسحاب الكامل، وإنما تأتي في إطار عملية تخفيف الخسائر التي قد يتعرض لها الوجود الأمريكي في مناطق مختلفة وتركيز وجودها في قواعد اكثر أمناً أمانًا داخل العراق مثل قاعدة عين الأسد وقاعدة حرير في كردستان العراق، بدليل تغطية هذه القواعد بمنظومة باتريوت ضد أية هجمات صاروخية. والدليل الآخر هو اصرار الولايات المتحدة على تنصيب رئيس وزراء يمثل مصالحها، وبغض النظر عن مدى كفاءة ونزاهة وقدرة هكذا مرشح على إصلاح الأمور .
هناك تسريبات تقول ان الولايات المتحدة اذا ما فشلت في تنصيب رئيس وزراء جديد تابع لها فانها ستفرض عقوبات جديدة على قيادات عراقية موالية لإيران، على اساس ان هذه الإجراءت ستشل من قدرات التنظميات التي يقودونَهَا. الا ان هذه السياسة لم تثبت نجاحها في السابق اولا، ولم يظهر اي مردود إيجابي لها ثانيا. لقد كان الأجدر بالإدارة الأمريكية، والتي لديها معلومات كافية وتقارير لجان متخصصة عن حجم الفساد واسماء الفاسدين وحساباتهم، ان تبادر الى مصادرة الأموال التي سرقوها وإعادتها لخزينة العراق، خاصة وأن العراق يواجه الآن شبح الإفلاس ويعيش شعبه مخاوف المجاعة.
وأخيرا فان اخطر ما يواجه العراق اليوم، بالإضافة الى الانهيار الاقتصادي المحتمل جدا في ظل تهاوي أسعار النفط العالمية، هو محاولة الولايات المتحدة وإيران محاربة نفوذ بعضهما البعض باستخدام فصائل عراقية مسلحة منتشرة داخل العراق، وكل طرف يعتقد انه يستطيع ان يكسر شوكة الطرف الثاني بدون ان يضحي باي فرد من أفراد قواته المسلحة. وهذه السياسة هي التي قد تقود العراق الى حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر، خاصة وان هناك أطرافا عراقية داخلية مستعدة كامل الاستعداد لتنفيذ اجندات الطرفين بدون اي وضع أي إعتبار للمصلحة الوطنية. كما ان بوادر استعادة تنظيم داعش الإرهابي لانفاسه وشنه هجمات في مناطق مختلفة من العراق يبقى تهديدا اخر للبلاد، وليس من المستبعد ان تلجأ الولايات المتحدة الى غض الطرف عن هذا التنظيم بل وحتى دعمه، (كما استأنفت مؤخرا هكذا نشاط في سوريا مع مليشيات مسلحة، وبعد ان فشلت في إسقاط النظام هناك)، بدعوى ان هذا التنظيم كفيل بمحاربة النفوذ الإيراني في العراق.
ان اخراج العراق من مآزِقهِ الكثيرة والمتراكمة منذ بداية الاحتلال ليس بالأمر الهين او الذي يمكن ان يتحقق بسرعة، خاصة وان معالجة هذه الأزمات لا يمكن ان يتم بوجود هذه التركيبة الفاشلة والفاسدة، وبوجود التدخل الخارجي الفظ. فالمشكلة الاقتصادية تحتاج الى ازاحة هذه التركيبة واستبدالها بعقول عراقية كفوءة لكي تعيد بناء الاقتصاد بطريقة علمية تبدا من اعادة النظر بالإنفاق والتبذير الحكومي ورواتب الدرجات الخاصة والحمايات، والرواتب الفلكية للمجاميع التي اعتبرت متضررة من النظام السابق، وتشكيل حكومة طوارىء وحل مجلس النواب وإلغاء المخصصات المالية الكبيرة التي يتقاضاها أفراده وحماياتهم، ووقف تهريب النفط لصالح احزاب وكتل سياسية متنفذة وإلغاء الرواتب التي تدفع الى الموظفين الوهميين الى غير ذلك من الامور التي أرهقت ولا تزال ترهق ميزانية الدولة. كما إن الوضع الأمني يحتم على من يريد إصلاح الامور ان يعمل على حصر السلاح بيد الدولة وتقوية القوات العراقية الرسمية، الجيش والشرطة، وملاحقة المليشيات التي تعبث بأمن الوطن والمواطن. وكل هذه الامور لا يمكن ان يقوم بها شخص واحد وإنما تحتاج الى قوة تدعم هذه الإصلاحات.
في غياب مثل هذه المناهج والسياسات، واصرار الكتل والأحزاب الحاكمة على التمسك بمواقعها وحصصها، والأصرار المتواصل للولايات المتحدة وإيران على التدخل في الشأن العراقي ودعم الفاشلين والفاسدين فان النتيجة الحتمية ستكون لا سامح الله نهاية العراق كدولة وككيان. فهل سيتدارك من يمسك بالسلطة في العراق الأمر ويعترفوا بفشلهم ويتركوا للعراقيين الاكفاء مسالة إنتشال بلدهم من هذه الهاوية؟