الرئيسية / الرئيسية / مترجم: نحن نعيش في دولة فاشلة

مترجم: نحن نعيش في دولة فاشلة

ترجمة: موقع الشرق اليوم

BY: George Baker

الشرق اليوم- عندما وصل الفيروس إلى هذه البلاد، وجد دولة تعاني من ظروف أساسية خطيرة، فاستغلها بلا رحمة. حيث أن العلل المزمنة –من طبقة سياسية فاسدة، وبيروقراطية متصلبة، واقتصاد بلا رحمة، وجمهور منقسم ومشتت- ظلت لسنوات دون علاج. وقد تعلمنا التعايش مع الأعراض، ولو كنا غير مرتاحين بذلك. وقد تطلّب الأمر وباءً شديداً واسع النطاق حتى تنكشف شدّة تلك العلل، لينصدم الأمريكيون بالاعتراف بأننا في الفئة المعرضة لمخاطر عالية.

تطلبت الأزمة رداً سريعاً وعقلانياً وجماعياً. لكن استجابة الولايات المتحدة كانت بدلاً من ذلك مثل استجابة باكستان أو روسيا البيضاء، أي مثل دولة ذات بنية تحتية متهالكة وحكومة مختلة لديها قادة فاسدين أو أغبياء للغاية لدرجة أنه لا يمكنهم تفادي المعاناة الجماعية.

فقد بددت الإدارة شهرين لا يُعوضان، وجاء الرئيس بالتعامي المتعمد، وإلقاء اللوم على الآخرين، والتبجح والكذب. وجاء الناطقون باسمه بنظريات المؤامرة والعلاجات المعجزة. لكن عدداً قليلاً من أعضاء مجلس الشيوخ والمديرين التنفيذيين للشركات تصرفوا بسرعة، ليس لمنع الكارثة القادمة، ولكن للاستفادة منها. وعندما حاول طبيب في الحكومة تحذير الجمهور من الخطر، أخذ البيت الأبيض منه الميكروفون وسيّس الرسالة.

يستيقظ الأمريكيون صباح كل يوم من شهر مارس الذي يبدو أنه لا نهاية له ليجدوا أنفسهم مواطنين في دولة فاشلة. فمع غياب خطة وطنية -وأية تعليمات متماسكة على الإطلاق- تُركت العائلات والمدارس والمكاتب لتقرر بنفسها ما إذا كانت ستُغلق وتحتمي. وعند اكتشاف أن مجموعات الاختبار والأقنعة وأردية الوقاية وأجهزة التنفس الاصطناعي تعاني من نقص شديد في الإمدادات، ناشد المحافظون البيت الأبيض للحصول عليها، لكنه ماطل، ثم دعا الشركات الخاصة التي لم تتمكن من تلبية الطلب. واضطرت الولايات والمدن إلى دخول حروب المزايدات، ما تركها فريسة لارتفاع الأسعار واستغلال الشركات. فأخرج المدنيون آلات الخياطة في محاولة للحفاظ على صحة العاملين في المستشفيات غير المجهّزة تجهيزاً كافياً، وإبقاء المرضى على قيد الحياة. وأرسلت روسيا وتايوان والأمم المتحدة مساعدات إنسانية إلى أغنى قوّة في العالم، بعد أن أصبحت دولة متسولة تعيش حالة من الفوضى المطلقة.

لقد نظر دونالد ترامب إلى الأزمة من ناحية شخصية وسياسية بصورة كاملة تقريباً. وعندما خشي على إعادة انتخابه ، أعلن أن جائحة فيروس كورونا عبارة عن حرب، وأنه رئيسٌ في زمن الحرب. لكن القائد الذي يستحضره إلى الأذهان هو المارشال فيليب بيتان، الضابط الفرنسي الذي وقّع عام 1940 الهدنة مع ألمانيا بعد هزيمة الدفاعات الفرنسية، ثم شكل نظام فيشي الموالي للنازية. ومثل بيتان، تعاون ترامب مع الغازي وتخلى عن بلاده لصالح كارثة طويلة الأمد. ومثل فرنسا عام 1940، فاجأت أمريكا عام 2020 نفسها بانهيار أكبر وأعمق تسبب به زعيم بائس. وربما بعض تحليلات الجائحة اتلي ستجري في المستقبل ستطلق عليها لقب “الهزيمة الغريبة”، على اسم الدراسة التي وضعها المؤرخ والمقاوم مارك بلوخ الذي عاصر سقوط فرنسا. فعلى الرغم من وجود أمثلة لا حصر لها حول الشجاعة والتضحيات الفردية في الولايات المتحدة، إلا أن الفشل كان على صعيد وطني، ويجب أن يفرض سؤالاً لم يضطر معظم الأمريكيين إلى طرحه من قبل: هل نثق في قادتنا وفي بعضنا البعض بما يكفي لاستدعاء استجابة جماعية على تهديد مُميت؟ وهل ما زلنا قادرين على الحكم الذاتي؟

هذه ثالث أزمة كبيرة تحدث خلال مدة قصيرة من القرن الحادي والعشرين. حيث وقعت الأزمة الأولى في 11 سبتمبر 2001، عندما كان الأمريكيون لا يزالون يعيشون عقلياً في القرن الماضي، وحين كانت ذكريات الاكتئاب والحرب العالمية والحرب الباردة لا تزال قوية. وفي ذلك اليوم، لم يكن الناس في الريف يرون في مدينة نيويورك مزيجاً غريباً من المهاجرين والليبراليين الذين يستحقون مصيرهم، ولكن يرونها مدينة أمريكية عظيمة تلقت ضربة عن البلاد كلها. فقاد رجال الإطفاء سياراتهم لمسافة 800 ميل من ولاية إنديانا من أجل المساعدة في جهود الإنقاذ في مكان الحادث. وكان رد فعلنا المدني هو الحداد والتعبئة في آن معاً.

لكن السياسات الحزبية المُريعة، لا سيما حرب العراق، محت الشعور بالوحدة الوطنية وغذّت مرارة لم تتلاشى أبداً تجاه الطبقة السياسية. ثم جاءت الأزمة الثانية في عام 2008 وفاقمتها. ولكن على مستوى القمة، يمكن تقريباً اعتبار الانهيار المالي نجاحاً، حيث أقرّ الكونغرس مشروع قانون من الحزبين لإنقاذ النظام المالي، وتعاون مسؤولو إدارة بوش المنتهية ولايته مع مسؤولي إدارة أوباما الجدد. واستخدم الخبراء في مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة السياسة النقدية والمالية لمنع وقوع كسادٍ كبيرٍ ثانٍ. وفُضح المصرفيون الكبار، ولكنهم لم يُحاكموا، واحتفظ معظمهم بثرواتهم، بل وبعضهم احتفظوا بعملهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى عادوا إلى العمل. وقد أخبرني أحد المضاربين في وول ستريت أن الأزمة المالية كانت بمثابة “مطب على الطريق”.

ولم يشعر بالألم الدائم سوى الطبقات الوسطى والدنيا، أي الأمريكيين الذين أخذوا القروض وخسروا وظائفهم ومنازلهم ومدخراتهم التقاعدية. والكثيرون منهم لم يتعافوا أبداً، والشباب الذين بلغوا سن الرشد في الكساد العظيم محكوم عليهم بأن يكونوا أفقر من آبائهم. كما ازداد عدم المساواة سوءاً، وهي القوة الأساسية التي لا هوادة فيها في الحياة الأمريكية منذ أواخر السبعينيات.

وأدت هذه الأزمة الثانية إلى حدوث شرخ عميق بين الأمريكيين: بين الطبقات العليا والدنيا، والجمهوريين والديمقراطيين، وسكان المدن وسكان الريف، والمواليد الأصليين والمهاجرين، والأمريكيين العاديين وقادتهم. فقد كانت الروابط الاجتماعية ترزح تحت ضغط متزايد منذ عقود عديدة، وقد بدأت الآن في التمزق. والإصلاحات التي جرت في عهد أوباما في مجال الرعاية الصحية والتنظيم المالي والطاقة الخضراء -رغم أهميتها- كان لها تأثيرات مخفّفة فقط. حيث أن الانتعاش الطويل خلال العقد الماضي أدى إلى إثراء الشركات والمستثمرين والمتخصصين المدللين، وجعل الفارق بينهم وبين الطبقة العاملة كبيراً. أما التأثير الدائم للتدهور فكان زيادة الاستقطاب ونزع مصداقية السلطة، لا سيما مصداقية الحكومة.

وكان كلا الحزبين بطيئاً في فهم مقدار المصداقية التي فقدوها، وكانت السياسة القادمة سياسة شعبوية. ولم يكن نذيرها باراك أوباما ولكن سارة بالين، المرشحة غير المهيأة إلى حد بعيد لمنصب نائب الرئيس التي استهزأت بالخبرة وانغمست بنزوات الشهرة.

وقد وصل دونالد ترامب إلى السلطة بصفته انسلاخاً عن مؤسسة الحزب الجمهوري، ولكن سرعان ما توصّلت الطبقة السياسية المحافظة إلى تفاهم مع الزعيم الجديد. فمهما كانت خلافاتهم حول قضايا مثل التجارة والهجرة، إلا أنهم اشتركوا في هدف أساسي: ألا وهو تجريد الأصول العامة لصالح المصالح الخاصة. حيث يمكن للسياسيين والمتبرعين الجمهوريين الذين أرادوا من الحكومة أن تفعل أقل ما يمكن من أجل الصالح العام أن يعيشوا بسعادة مع نظام بالكاد يعرف كيف يحكم على الإطلاق، فجعلوا من أنفسهم خدماً لترامب.

ومثل صبيٍّ طائش يرمي أعواد الثقاب في حقل يابس، بدأ ترامب يحرق ما تبقى من الحياة المدنية الوطنية. ولم يتظاهر أبداً بأنه رئيس للبلاد كلها، لكنه وضعنا في مواجهة بعضنا البعض على أساس العرق، والجنس، والدين، والمواطنة، والتعليم، والمنطقة، والحزب السياسي، في كل يوم من أيام رئاسته. وكانت أداته الرئيسية في الحكم هي الكذب، فانغلق ثلث البلاد على نفسه في قاعة من المرايا التي كانوا يعتقدون أنها الحقيقة؛ ودفع ثلثٌ آخر نفسه إلى الجنون من خلال التمسك بفكرة الحقيقة التي يمكن معرفتها، أما الثلث الأخير فتخلى حتى عن المحاولة.

وحصل ترامب على حكومة اتحادية مشلولة بسبب سنوات من الهجوم الإيديولوجي اليميني والتسييس من كلا الحزبين وإيقاف التمويل المتواصل، وشرع في إنهاء العمل وتدمير الخدمة المدنية المهنية. فطرد بعض أكثر المسؤولين المهنيين خبرةً وموهبةً، وترك المناصب الأساسية شاغرة، وعيّن الموالين له كمفوّضين على الناجين الذين أُجبروا على الإذعان، وكلّ ذلك لخدمة غرض واحد: مصالحه الخاصة. وكان أكبر إنجازاته التشريعية هو سن أحد أكبر التخفيضات الضريبية في التاريخ، فأرسل بذلك مئات مليارات الدولارات إلى أرصدة الشركات وجيوب الأثرياء، فتوافد المستفيدون لرعاية منتجعاته وملء جيوب حملة إعادة انتخابه. وإذا كان الكذب هو وسيلته في استخدام السلطة، فإن الفساد كان غايته.

فكان المشهد الأمريكي المفتوح أمام الفيروس على النحو التالي: في المدن المزدهرة، فئة من العاملين المكتبيين المتصلين عالمياً تعتمد على فئة من عمال الخدمة غير المستقرة غير المرئيين؛ وفي الريف، المجتمعات المضمحلة في ثورة ضد العالم الحديث؛ وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، الكراهية المتبادلة والمهاترات اللانهائية بين المعسكرات المختلفة؛ وفي الاقتصاد، فجوة كبيرة ومتنامية بين رأس المال المنتصر والعمالة المحاصرة، حتى مع التوظيف الكامل؛ وفي واشنطن، حكومة فارغة يقودها محتال وحزبه المفلس فكرياً؛ وفي جميع أنحاء البلاد، مزاج الإرهاق الساخر، دون رؤية لهوية أو مستقبل مشتركين.

وإذا كانت الجائحة نوعاً من الحرب فعلاً، فإنها أول حرب تجري على تراب هذه البلاد منذ قرن ونصف. إذ يكشف الغزو والاحتلال عن عيوب المجتمع، ويضخّم ما لا يمكن ملاحظته أو الاعتراف به في أوقات السلم، ويوضح الحقائق الأساسية، ويثير رائحة العفن الدفينة.

وكان ينبغي أن يوحّد الفيروس الأمريكيين ضد التهديد المشترك، وربما كانا سيفعل ذلك في ظل قيادة أخرى. لكن بدلاً من ذلك، وحتى عندما اكتسح الوباء الولايات الجمهورية والديمقراطية، توزعت المواقف على الأسس الحزبية المعتادة. ورغم أنه كان ينبغي أن يكون الفيروس عامل مساواة مهم أيضاً، حيث ليس من الضروري أن تكون جندياً في الجيش أو مُثقلاً بالديون حتى تُصبح هدفاً، بل يكفي أن تكون إنساناً، إلا أن آثاره انحرفت منذ البداية بسبب عدم المساواة التي تحملناها منذ مدة طويلة. وعندما كان من شبه المستحيل الحصول على اختبارات الفيروس، كان الأثرياء وأصحاب العلاقات -مثل العارضة ومقدمة برامج تلفزيون الواقع هايدي كلوم، وكل أعضاء فريق بروكلين نيتس لكرة السلة، وحلفاء الرئيس المحافظين- قادرين بطريقة ما على الحصول على الاختبار رغم أن معظمهم لم تظهر عليهم أي أعراض، ولم تقدّم النتائج الفردية الصغيرة شيئاً لحماية الصحة العامة. وفي الوقت نفسه، كان على الأشخاص العاديين المصابين بالحمى والقشعريرة الانتظار في طوابير طويلة -وربما مُعدية- لكي يُردّوا على أعقابهم لأنهم لم يكونوا يختنقون بالفعل. فاقترحت نكتة انتشرت على الإنترنت أن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كنت مصاباً بالفيروس هي أن تعطس في وجه شخص غني.

وعندما سُئل ترامب عن هذا الظلم الصارخ، أعرب عن استهجانه، لكنه أضاف “ربما كانت هذه قصة الحياة”. وحتى في الأوقات الطبيعية، كان معظم الأمريكيين يستطيعون بالكاد الحصول على مثل هذه الامتيازات. ولكن هذا أثار الغضب في الأسابيع الأولى من الجائحة، كما لو أنه -خلال النفير العام- سُمح للأغنياء بشراء الإعفاء من الخدمة العسكرية وتكديس أقنعة الغاز. ومع انتشار العدوى، من المرجح أن يكون ضحاياها من الفقراء والسود والسُمر. ويتجلى التفاوت الصارخ في نظام الرعاية الصحية لدينا في مشهد الشاحنات المبردة التي تصطف خارج المستشفيات العامة.

لدينا الآن فئتان من العمل: ضروري وغير ضروري. فمن هم الذي تبيّن أنهم يقومون بالعمل الضروري؟ إنهم معظم الناس الذين يعملون في الوظائف منخفضة الأجر التي تتطلب وجودهم الفعلي وتُعرّض صحتهم للخطر المباشر: عمال المستودعات، وعمال تعبئة الرفوف، والعاملون في متاجر البقالة، وسائقو التوصيل، وموظفو البلدية، والعاملون في المستشفيات، ومساعدو الصحة المنزلية، وسائقو الشاحنات الطويلة. صحيحٌ أن الأطباء والممرضات هم أبطال المعركة مع الجائحة، لكن عاملة الصندوق في السوبرماركت الممسكة بعبوة معقم اليدين، وسائق شاحنة التوصيل بقفازاته المطاطية، هم قوات الإمداد والخدمات اللوجستية التي تحافظ على تماسك قوات الخطوط الأمامية. وفي الاقتصاد المُعتمد على الهواتف الذكية التي تُخفي فئات كاملة من البشر، بدأنا نتعلم من أين يأتي طعامنا وبضائعنا، ومَن هم الذين يبقوننا على قيد الحياة. إذ أن طلب “الجرجير العضوي” باستخدام خدمة “أمازون فريش” زهيد التكلفة ويصل إلينا خلال يوم واحد لأن الأشخاص الذين يزرعونه، ويفرزونه، ويحزمونه، ويسلمونه يجب أن يواصلوا العمل حتى لو كانوا مرضى، فبالنسبة لمعظم عمال الخدمة، تبيّن أن الإجازة المرضية عبارة عن رفاهية مستحيلة. ويجدر بنا أن نتساءل عما إذا كنا سنقبل سعراً أعلى وتسليماً أبطأ حتى يتمكنوا من البقاء في المنزل.

كما أوضحت الجائحة معنى العمال غير الضروريين. ومن الأمثلة على ذلك كيلي لويفلر، السيناتور الجمهوري عن ولاية جورجيا، التي كان مؤهلها الوحيد للمقعد الفارغ الذي حصلت عليه في يناير هو ثروتها الطائلة. فبعد أقل من ثلاثة أسابيع من توليها المنصب، وبعد إحاطة خاصة عن الفيروس، أصبحت أكثر ثراءً من بيع أسهمها، ثم اتهمت الديمقراطيين بالمبالغة في الخطر وأعطت ناخبيها تأكيدات كاذبة ربما تسببت في وفاتهم. فدوافع لويفلر في الخدمة العامة أشبه بغريزة الطفيليات الخطيرة، ولا بد أن الهيئة السياسية التي تضع شخصاً مثلها في منصب عالٍ قد وصلت إلى مرحلة متقدمة جداً من الاضمحلال.

لكن التجسيد الأنقى للعدمية السياسية ليس ترامب نفسه، بل صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر. فخلال فترة حياته القصيرة، رُوّج لكوشنر بصورة احتيالية باعتباره صاحب جدارة وشعبوي. حيث ولد في عائلة ثرية تعمل في مجال العقارات في الشهر نفسه الذي وصل فيه رونالد ريغن إلى المكتب البيضاوي في عام 1981، فكان أميراً في العصر المُذهّب الثاني. وعلى الرغم من سجل جاريد الأكاديمي المتواضع، إلا أنه قُبل في جامعة هارفارد بعد أن تعهد والده تشارلز بالتبرع بمليونين ونصف المليون دولار للجامعة. كما ساعد الأب ابنه في الحصول على قروض بقيمة 10 ملايين دولار لكي يبدأ العمل في مجال العائلة، ثم واصل جاريد تعليمه النخبوي في كليتي القانون والأعمال بجامعة نيويورك، حيث تبرّع والده بمبلغ 3 ملايين دولار. وقد ردّ جاريد دعم والده بولاء شرس عندما حُكم على تشارلز بالسجن لمدة عامين في سجن فيدرالي عام 2005 لمحاولته حل خلاف قانوني عائلي من خلال الإيقاع بزوج أخته مع مومس وتصوير اللقاء.

وقد فشل جاريد كوشنر بصفته مالك ناطحات سحاب وصاحب صحيفة، لكنه وجد دائماً شخصاً ينقذه، فنمت ثقته بنفسه. ويصف أندريا بيرنشتاين في كتابه “الأوليغارشية الأمريكية”، كيف تبنى نظرة رجل الأعمال المُخاطر “صاحب الثورة” في الاقتصاد الجديد. وتحت تأثير معلمه روبرت مردوخ، وجد وسيلة للدمج بين مساعيه المالية والسياسية والصحفي، فجعل من تضارب المصالح نموذج العمل الذي يتبعه.

لذا، عندما أصبح والد زوجته رئيساً، سرعان ما اكتسب كوشنر السلطة في إدارة وضعت الهواة والمحسوبية والفساد ضمن مبادئ الحكم. وعندما كان منشغلاً بالسلام في الشرق الأوسط، فإن تدخّله المتهور لم يكن يهم معظم الأمريكيين، ولكن منذ أن أصبح أحد مستشاري ترامب النافذين في جائحة فيروس كورونا، كانت النتيجة الموت الجماعي.

ففي الأسبوع الأول من توليه العمل في منتصف مارس، شارك كوشنر في وضع أسوأ خطاب للمكتب البيضاوي على الإطلاق، وقاطع العمل الحيوي للمسؤولين الآخرين ، وربما أخلّ ببروتوكولات الأمن ، وغازل تضارب المصالح وانتهاك القانون الفيدرالي، وقدم وعوداً حمقاء سرعان ما تلاشت. حيث قال “إن الحكومة الفيدرالية ليست مصممة لحل جميع مشكلاتنا”، موضحاً كيف سيستخدم علاقات شركته لإنشاء مواقع اختبار عن طريق خدمة السيارات، لكن ذلك لم يتحقق. وقد أقنعه قادة الشركات بأنه يجب على ترامب ألا يستخدم صلاحيته الرئاسية لإجبار المصانع على تصنيع أجهزة التنفس الصناعي. ثم كان هناك أيضاً محاولة كوشنر الفاشلة للتفاوض على صفقة مع شركة جنرال موتورز. وبما أنه لم يفقد الثقة في نفسه، ألقى اللوم في نقص المعدات والتجهيزات الضرورية على حكام الولاية غير الأكفياء.

وعند رؤية هذا الهاوي الشاحب صاحب البدلات الأنيقة يقتحم أزمة قاتلة مستخدماً مصطلحات منمقة لإخفاء الفشل الهائل لإدارة والد زوجته، فإنك نرى انهيار منهجية كاملة في الحكم. فقد تبيّن أن الخبراء العلميين وموظفي الخدمة المدنية الآخرين ليسوا أعضاء خائنين في “دولة عميقة”، بل إنهم عاملون أساسيون، وتهميشهم لصالح الإيديولوجيين والمتملقين يمثّل تهديداً على صحة الأمة. وتبيّن أن الشركات “الذكية” لا يمكنها الاستعداد لكارثة أو توزيع السلع المنقذة للحياة، وأنه فقط الحكومة الفيدرالية التي تتمتع بالكفاءة يمكنها القيام بذلك. وتبيّن أن لكل شيء ثمن، وأن سنوات التهجّم على الحكومة، والضغط عليها واستنزاف معنوياتها، تسبب في تكلفة باهظة يدفعها الناس من أرواحهم. وأن جميع البرامج التي ألغي تمويلها، والمخزونات التي استُنفدت، والخطط التي ألغيت، تعني أننا أصبحنا دولة من الدرجة الثانية. ثم جاء الفيروس وهذه الهزيمة الغريبة.

يجب أن تكون المعركة للتغلب على الجائحة أيضاً معركةً لاستعادة صحة بلادنا وبنائها من جديد، وإلا فلن نعوّض الشقاء والأسى اللذين نعيشهما الآن. ولن يتغير شيء تحت قيادتنا الحالية. وإذا كانت أحداث 11 سبتمبر وأزمة 2008 أدتا إلى تآكل الثقة في المؤسسة السياسية القديمة، فيجب على أزمة 2020 أن تستأصل فكرة أن معاداة السياسة هي خلاصنا. لكن وضع حد لهذا النظام -رغم ضرورته ووجوبه- ما هو إلا البداية.

نحن نواجه خياراً جعلته الأزمة واضحاً وضوحاً لا مفر منه: إما أن نبقى قابعين في عزلة ذاتية، خائفين ونتجنّب بعضنا البعض، تاركين الرابط المشترك بيننا يتلاشى إلى العدم. أو يمكننا استخدام هذا التوقف المؤقت في حياتنا العادية لإيلاء الاهتمام لعمال المشافي الذين يمسكون الهواتف المحمولة حتى يتمكن مرضاهم من وداع أحبائهم؛ والعاملين الطبيين الذي حملتهم الطائرة من أتلانتا من أجل المساعدة في نيويورك؛ والعاملين في مجال الفضاء في ماساتشوستس الذي يطالبون بتحويل مصنعهم إلى إنتاج أجهزة التنفس الصناعي؛ وأهالي فلوريدا الذين يقفون في طوابير طويلة لأنهم لم يتمكنوا من الوصول عبر الهاتف إلى مكتب البطالة؛ وسكان ميلووكي الذين يتحدّون الانتظار الطويل والبرد والمرض من أجل التصويت في انتخابات فرضها عليهم القضاة الحزبيون. ويمكننا أن نتعلم من هذه الأيام الرهيبة أن الغباء والظلم قاتلان؛ وأنه في النظام الديمقراطي، أن تكون مواطناً يُعد عملاً أساسياً؛ وأن بديل التضامن هو الموت. وبعد أن نخرج من مخابئنا وننزع كماماتنا، يجب ألا ننسى كيف كان الحال أن نكون لوحدنا.

شاهد أيضاً

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …