أرادت روسيا أن يكون لها نفوذ أكبر على رجل ليبيا الطموح وحين وافق البيت الأبيض على الحرب الأهلية الكارثية، قدم لها فرصة كسب هذا النفوذ
الشرق اليوم- نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تقريراً للكاتب ديفيد د. كيركباتريك، يقول فيه: في بداية الربيع الماضي، وقُبيل مؤتمر السلام المخطط له بدعم من الولايات المتحدة بين الفصائل المتحاربة في ليبيا، رتب الرجل القوي الليبي الطموح خليفة حفتر إجراء مكالمة هاتفية مع جون بولتون، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض آنذاك.
لم يكن حفتر يرغب بالحديث عن السلام. بل كان الجنرال السابق في الجيش الليبي، والعميل السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يريد الحصول على مباركة البيت الأبيض لشن هجومٍ مفاجئ للاستيلاء على العاصمة طرابلس، قبل بدء محادثات السلام.
ولم يرفض بولتون طلب حفتر. لكن الهجوم، الذي بدأ في الرابع من أبريل الماضي، كانت له نتائج عكسية، إذ فشل حفتر في الاستيلاء على طرابلس، وأرهق قواته بنشرها على نطاق واسع، وأعاد إشعال نيران الحرب الأهلية التي أسفرت عن مقتل الآلاف، وتشريد مئات الآلاف. وأسفر القتال أيضاً عن وقف تدفق النفط الليبي، وأثار تقلبات جديدة في المنطقة، وقلل بشدة من نفوذ واشنطن.
ولكن ظهر فائز واحد: إنه الكرملين. فقد عملت روسيا بسخرية بليغة، إذ استغلت الرسائل المشوشة التي ظلت تصدر عن إدارة ترامب طيلة ثلاث سنوات، حتى أصبحت موسكو صانعاً مهمًّا للملوك في ليبيا، تلك الدولة التي تعد جائزة جيوسياسية، وتتمتع باحتياطيات هائلة من الطاقة، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي على البحر المتوسط.
وهكذا تبين أن مكالمة بولتون وحفتر صبَّت في صالح المكائد الروسية؛ على حد وصف مسؤول رفيع سابق في الإدارة الأمريكية، وثلاثة دبلوماسيين غربيين أطلعهم حفتر ومسؤولون أمريكيون على الملابسات.
وتكمل الصحيفة أنه وقبل أيام من المكالمة، كان عملاء روس خاصون يعملون في ليبيا قد أبلغوا موسكو بعيوب حفتر ونقاط ضعفه كقائدٍ عسكري، وأكدوا أنه سيفشل إذا أقدم على أي محاولةٍ لغزو العاصمة، وذلك وفقاً لوثائق روسية سرية عُثِر عليها في طرابلس، واطلعت عليها صحيفة نيويورك تايمز. ورأى العملاء في هذا الضعف فرصة سانحة لموسكو، واقترحوا أن بإمكان روسيا كسب المزيد من النفوذ على حفتر إذا أرسلت مرتزقة لدعم ما يسمى بالجيش الوطني الليبي.
وجادل العملاء بأن “روسيا ستحافظ بذلك على حليفٍ مخلص وقوي في هيكل الجيش الوطني الليبي، وهو ما سيتعين على حفتر أن يتعامل معه”.
وقد أدت مواقف واشنطن المتناقضة بشأن ليبيا –الدعم الرسمي لعملية السلام حتى عندما أشار البيت الأبيض إلى أن الرئيس ترامب يفضل حفتر– دوراً رئيسيًّا في إطالة أمد الفوضى.
ومع ذلك، أصبحت روسيا الآن الطرف الذي يتمتع بأفضل وضعٍ يؤهله للهيمنة على ليبيا. إذ يمتلك الكرملين ذراعاً تتحكم في عشرات حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تروِّج لحفتر وعملاء آخرين مفضلين لدى روسيا، من بينهم الابن الأكبر للعقيد معمر القذافي، الديكتاتور الليبي السابق، وفقاً لتقرير العملاء، الذين ذكروا أيضاً أن عملية الكرملين نفسها استحوذت على حصة في ملكية شبكة فضائية ليبية موالية للقذافي، وقدمت المشورة بخصوص شبكة موالية لحفتر أيضاً.
ويضيف كيركباتريك، أنه وفي الوقت نفسه، عمل الجيش الروسي خلف الكواليس لإحاطة حفتر بالعديد من شركاء موسكو القدامى من قوات الأمن في عهد القذافي، وشجع الموالين للقذافي على العودة من المنفى. وتظهر الوثائق أن الكرملين أقام علاقات مع حزب حاكم منتظر، واستجاب أيضاً لهذه النصيحة الحكيمة التي أسداها له العملاء. وعندما توقفت هجوم حفتر، تدخلت موسكو لإنقاذه من التراجع، ودعمت تقدمه بآلاف المرتزقة المدربين الذين يواصلون العمل في ليبيا.
وقد رفض ممثلو البيت الأبيض وبولتون التعليق، لكن المشرعين الأمريكيين القلقين بدؤوا يتساءلون: كيف انتهى المطاف بالبيت الأبيض على ما يبدو إلى دعم الجانب نفسه الذي تدعمه موسكو.
خلال جلسة استماع عقدها مجلس الشيوخ مؤخراً حول ليبيا، تساءل المشرعون: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تلوم روسيا على دعمها لعميلٍ يبدو أن البيت الأبيض معجب به أيضاً. وقال السيناتور الجمهوري عن ولاية يوتاه، ميت رومني إن الرئيس يبدو أنه “يميل إلى دعم حفتر”، حتى عندما بدا أن وزارة الخارجية تعارضه، وتساءل “هل هناك تناسق في هذا؟”
لكن مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، أصرَّ بغضب “يمكنني القول بشكل صريح: نحن لا ندعم هجوم حفتر”.
التحوط الروسي
حتى قبل بدء الهجوم على طرابلس، استنتج الروس أنها ستكون خطوة كارثية بالنسبة لحفتر. فقد كان العملاء الروس في ليبيا يعملون لصالح مركز أبحاث غامض مرتبط بيفغيني بريغوجين، الحليف المقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يصفه المسؤولون الأمريكيون بأنه رئيس شركة الأمن الخاصة المرتبطة بالكرملين، المعروفة باسم مجموعة فاغنر.
وكانت تقارير إخبارية نُشرت في عام 2018 قد سلطت الأضواء على قائد الفريق الليبي، مكسيم شوغالي، لمحاولته دفع رشاوى ونشر معلومات مضللة للتأثير في الانتخابات في مدغشقر. وفي نهاية المطاف، اعتقلت ميليشيا متحالفة مع حكومة طرابلس المؤقتة شوغالي ومترجمه، بدعم معلوماتي من المخابرات الأمريكية، حسبما أفاد شخص ذو صلة. وقال مسؤولون ليبيون إن عميلاً ثالثاً تجنّب الاعتقال.
وبعد اعتقال شوغالي، عثر عملاء الأمن على تقرير في غرفته بالفندق، كان فريقه قد أرسله إلى موسكو في شهر مارس من العام الماضي، قبل وقت قصير من الاتصال الهاتفي بين حفتر وبولتون. حصل مركز أبحاث دوسيير اللندني، المعروف بانتقاده لبوتين، على نسخة من التقرير الذي صادره الأمن، وقدم أجزاء منه إلى نيويورك تايمز، وصدَّق كبار المسؤولين الليبيين على صحة النص بشكل مستقل.
واستنتج العملاء أن أي تقدم صوب طرابلس كان من شبه المؤكد أن يفشل، مثلما حدث في هجوم عام 2014، بل وحذروا أيضاً من أن حفتر كان عنيداً، وأنه أصبح “صعب المراس” على نحو متزايد تجاه مستشاريه الروس.
وكتب العملاء “يستخدم حفتر المساعدة الروسية لزيادة أهميته، ولكن “هناك أسساً جادة تشير إلى أنه في حال فوزه عسكرياً، فلن يكون مخلصاً للمصالح الروسية”.
ورفع العملاء توصية إلى الكرملين بتأمين رهاناتهم على حفتر، عن طريق التحالف مع سيف الإسلام القذافي، الابن الأكبر للرئيس الليبي السابق. وقال العملاء إن “شركتهم” استحوذت على حصة في شبكة فضائية مؤيدة للقذافي وأعادت تنشيط بثها.
وكان سيف الإسلام، البالغ من العمر 47 عاماً، والذي كان شريكاً قديماً لروسيا في عهد والده، سُجن في ليبيا عام 2011 قبل أن يستعيد حريته بطريقة ما. وهو الآن حر طليق ويخطط للعودة، بحسب ليبيين مقربين منه، ودبلوماسيين غربيين على دراية بتقارير استخباراتية حول تحركاته.
لكن الروس وجدوا أيضاً مدخلاً جديداً للتعاون مع حفتر: يجب على الكرملين إدخال مرتزقة مدفوعين موالين لروسيا إلى صفوف جيشه المتعثر. وأصر العملاء على أن القوات شبه العسكرية السودانية كانت مستعدة لأداء هذه المهمة، ويمكن أن تمنح موسكو نفوذاً حاسماً.
تغيير قواعد اللعبة
بدأت قوات المرتزقة التابعة لمجموعة فاغنر تصل عبر السودان في سبتمبر الماضي، وذلك وفقاً لدبلوماسيين غربيين يتابعون تحركاتهم.
وقال المبعوث الأمريكي إلى ليبيا، السفير ريتشارد نورلاند، في إفادة موجزة قدمها مؤخراً “كان هذا هو العامل الأكبر الذي غيّر قواعد اللعبة. ومن الواضح أن الروس يرون ميزة استراتيجية الآن في ليبيا، أي مخاطر قليلة ومكاسب كبيرة”.
ووفقاً لدبلوماسيين غربيين ومحللين آخرين، فإنه لتعميق النفوذ الروسي، نظم الكرملين أيضاً اجتماعات سرية في موسكو بين أنصار حفتر والضباط السابقين الذين كانوا ينتمون إلى القوات العسكرية والأمنية في عهد القذافي.
ورفض المتحدث السابق باسم القذافي، موسى إبراهيم، التعليق على اجتماعات محددة في موسكو، لكنه أقر بأن روسيا “تجمع” بين ضباط حفتر والقذافي، خاصة منذ الهجوم على طرابلس.
ويوافق الشهر الجاري مرور سنة على هجوم حفتر، وبهذه المناسبة حثت الأمم المتحدة على وقف القتال والتفرغ لمواجهة جائحة فيروس كورونا المنتشرة الآن في ليبيا.
لكن حفتر استمر في قصف طرابلس، حتى إنه استهدف أحد المستشفيات الكبيرة. وفي المقابل، منح المرتزقة الروس موسكو حق النقض بحكم الأمر الواقع على أي نهاية للصراع.
وقال وزير الداخلية في حكومة طرابلس، فتحي باشاغا “كان هذا هو حلم روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، أن تضع أقدامها على الأراضي الليبية”، مقتبساً قول وينستون تشرشل في بيانٍ أدلى به أثناء الحرب بأن موسكو تعتبر ليبيا “خاصرة أوروبا الرخوة”.