بقلم: إيمي م. جافي
الشرق اليوم– يبدو أن إدارة دونالد ترامب كانت ترسل في الأيام الأخيرة رسائل مختلطة حول النفط. ففي العادة، يمكن أن تكون أسعار النفط المنخفضة حافزاً للاقتصاد الأمريكي، ولكن هذا في المواقف التي يمكن أن يستفيد فيها المستهلكون الأمريكيون من تقليل عبء تكاليف استخدامهم للبنزين. ولكن عند الاتجاه المتزايد نحو الإغلاق التام على الصعيد الوطني لوقف حدة كوفيد، فإن انخفاض أسعار البنزين ليس له تأثير كبير بالنسبة للعديد من الأمريكيين، الذين يجلسون في منازلهم بدون عمل، وبقية الأمريكيين الذين على رأس عملهم الذين لا يعتمد دخلهم على التنقل بالسيارة، ولكن على السلع المنزلية الضرورية: الطعام والأدوية ومستلزمات التنظيف وصيانة المنزل. ومن أجل الحفاظ على حركة إمدادات السلع الحيوية، فإن جيشاً من الأمريكيين الشجعان – سائقي الشاحنات، وعمال البريد، وعمال المستودعات، وقادة طائرات الشحن وغيرهم- يخدمون أمتنا. وتحتاج صناعة النفط الأمريكية إلى التأكد من أن هؤلاء العمال الشجعان لديهم الوقود الذي يحتاجونه. وفي حالة نقل البضائع، فإن هذا الوقود هو الديزل للشاحنات والغاز الطبيعي لمركبات التسليم المحلية.
ويوجد حالياً ما يقرب من 140 مليون برميل من وقود الديزل المتراكم في صهاريج التخزين داخل الولايات المتحدة، وهي تكفي لدعم صناعات السلع في الولايات المتحدة لبضعة أشهر. لكن خزانات منتجات النفط الأخرى، مثل وقود الطائرات والنفط الخام، تمتلئ بسرعة ويمكن أن تتحول إلى مشكلة لوجستية كبيرة، حتى داخل الولايات المتحدة، إذا لم تجرِ إدارتها في نهاية المطاف. حيث بلغ إجمالي مخزون وقود الطائرات النفاثة الموجود على الأرض حوالي 40 مليون برميل، مع بقاء حوالي 10 ملايين برميل فقط في الخزانات. ونتيجة لذلك، بدأت الشركات التفكير في تخزين وقود الطائرات على السفن إلى أن يعاود الطلب الارتفاع من جديد. أما على الصعيد العالمي، فتقترب خزانات وقود الطائرات أيضاً من الحدود الفيزيائية، ولكن مرونة النقل الجوي والتكرير في بعض الأماكن ستكون أعلى من غيرها. وهذه المشكلة المتزايدة في تخزين النفط هي سبب آخر لتركيز إدارة ترامب على الدبلوماسية لإنهاء حرب الأسعار. وللوقت أهمية جوهرة لأن نفاد أماكن تخزين النفط عالمياً ليس في مصلحة أحد.
وقد حاولت إدارة ترامب دفع أعضاء مجموعة العشرين، مثل السعودية وروسيا، للتركيز على مشكلة أسواق الائتمان السيادية إذا استمرت أسعار النفط المنخفضة. ويتعين على واضعي السياسات الآن أن يعالجوا مشكلة من الدرجة الثانية، حيث سيؤدي انعدام إمكانية الوصول إلى مخازن النفط إلى إغلاق جزء من عمليات النفط في جميع أنحاء العالم، سواء من المصافي أو إنتاج النفط الخام من الآبار، وسيترتب على ذلك في بعض الحالات عواقب وخيمة. وقد وضعت السعودية نفسها بذكاء في موضع يمكنها من تحقيق أقصى قدر من الوصول إلى تخزين النفط، على عكس روسيا التي تُعد أقل تمتعاً بمرونة التخزين في عملياتها النفطية. ولا يزال لدى الصين أكثر من 200 مليون برميل من إمكانية التخزين الاستراتيجي الذي يمكن أن تقدمه لمصدري النفط اليائسين. أما الولايات المتحدة فقد اختارت إبقاء 77 مليون برميل في المجال النفطي الاستراتيجي لمنتجي النفط المحليين في البلاد.
في أواخر الأسبوع الماضي، حسب محللو شركة “سيتي” أن هناك حاجة فورية إلى خفض إنتاج النفط العالمي بمقدار 10 ملايين برميل في اليوم لمنع مخزونات النفط العالمية من الوصول إلى طاقتها القصوى. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، أعلنت السعودية وروسيا أنهما تحرزان تقدماً نحو التوصل إلى صفقة من شأنها تحقيق ذلك. وتضمنت المقترحات الأولية تخفيضاً قدره مليوني برميل في اليوم من كل من موسكو والرياض، و4 ملايين برميل في اليوم من المنتجين الآخرين. وتسعى مجموعة تضم منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) إلى تخفيض قدره مليوني برميل يومياً من الولايات المتحدة. بينما تسعى إدارة ترامب إلى تخفيض لا يقل عن 10 ملايين برميل في اليوم من مجموعة أوبك بلس، التي تضم روسيا، واقترحت أن تساهم السعودية بأكثر من مليوني برميل في جهود التخفيض. وربما تحتاج الولايات المتحدة إلى بعض الوقت لمعرفة كيف ستشارك في أي برنامج لاستقرار النفط على غرار اتفاق بلازا سيأتي تحت رعاية مجموعة العشرين. ولقد أعلنت كندا بالفعل أنها منفتحة على المشاركة. كما تعهدت إدارة ترامب بإخراج النفط الأمريكي من السوق عن طريق تأجير التخزين في احتياطي النفط الاستراتيجي، وربما في مكان آخر. لكن العقبات القانونية والسياسية وغيرها من العوائق الفنية أمام التدخل الفيدرالي في عملية اتخاذ القرار الجارية في شركات النفط الخاصة تعني أن أي تخفيضات إضافية سيستغرق تنظيمها وقتاً. حيث لا يوجد تقريباً إنتاج نفطي مملوك للاتحاد في الولايات المتحدة منذ بيع احتياطي البترول البحري الأمريكي في منتصف تسعينيات القرن العشرين.
وإذا لم تتصرف منظمة أوبك، فإن نقص التخزين سيفرض إيقاف إنتاج النفط الخام في جميع الأحوال، حيث أنه من غير المرجح أن يتعافى الطلب على النفط إلى حد كبير في الأسابيع المقبلة. وتوزيع التخزين المتبقي للنفط الخام غير موزع بالتساوي في العالم. ووفقاً لشركة كورنرستون ماكرو، فإن معظم سعات التخزين الكبيرة المتاحة للنفط الخام تقع في خمسة أماكن فقط: الولايات المتحدة والصين وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية. ولا يزال لدى الولايات المتحدة وكندا مجتمعتين، 380 مليون برميل من الخزانات المتاحة لتخزين النفط.
وقد أعلن بعض منتجي النفط بالفعل عن إيقاف الإنتاج بناء على انخفاض أسعار النفط، بما في ذلك البرازيل (التي تنتج 200 ألف برميل في اليوم)، وتشاد، وشركة سنكور الكندية لإنتاج النفط الرملي التي أغلقت بالفعل جزءاً من عمليات استخراج النفط الرملي في فورت هيلز. ومن شبه المؤكد أن انخفاض مبيعات الغاز الطبيعي الروسي إلى الاقتصاد الأوروبي المتعثر يعني انخفاضاً في إنتاج المكثفات المرتفع، الذي كان محل اهتمام في اجتماع أوبك في ديسمبر. ومن المرجح أن تؤدي محدودية التخزين، إلى جانب بعض مسارات التصدير الروسية، إلى تقليص إنتاج النفط عما قريب إذا لم تتمكن من الوصول إلى التخزين من أماكن أخرى. كما يُحذر بعض مشغلي أنابيب النفط في تكساس شركات التكسير الأمريكية الصغيرة من أنها قد تضطر إلى عدم قبول النفط بحلول نهاية شهر مايو من الشركات التي ليس لديها حالياً عقود طويلة الأجل.
وتعني جميع التطورات المذكورة أعلاه أنه عما قريب يمكن أن يصبح العامل المحدد لمن سيُقلّص إنتاجه هو إمكانية الوصول إلى التخزين، وليس أسعار النفط أو تكلفة الإنتاج، إذا فشل تحقيق الاستقرار في السوق. ويثير ذلك بعض الأسئلة الصعبة، لأنه ليس كل حقول النفط متشابهة جيولوجياً، فبعضها من السهل إغلاقه وترميمه في وقت لاحق أكثر من بعضها الآخر. وطبيعة الكيفية التي يدفع بها الضغط الطبيعي أو الاصطناعي النفط إلى سطح الأرض ستكون أساسية في تحديد ما إذا كان إغلاق حقل النفط يعني حدوث ضرر دائم يمكن أن يؤدي إلى فقدان الاحتياطيات الإنتاجية أم لا. وتتمتع السعودية بعقود من الخبرة في إيقاف إنتاج النفط واستعادة قدرة الحقول، على الرغم من مواجهتها أحياناً بعض الصعوبات. كما يتسم الصخر الزيتي في الولايات المتحدة بمرونة فريدة، حيث يأتي ضغط الإنتاج من الوسائل الاصطناعية للتكسير الهيدروليكي الذي يمكن إيقاف تشغيله وإعادته بسهولة. لذلك من المستحيل تدمير احتياطيات الصخر الزيتي الأمريكية، حيث لا يوجد ضغط طبيعي يجب الحفاظ عليه بعناية. وفي أي وقت يوجد فيه رأس المال والمعدات والعمال لإنتاجه، يمكن استعادته بسرعة في غضون أيام أو شهور.
لكن الأزمة المستمرة في فنزويلا أدت بالفعل إلى تلف بعض حقول النفط صغيرة الحجم بحيث أصبح من المحتمل فقدان الاحتياطيات المتبقية فيها إلى الأبد. ويمكن أن يحدث هذا النوع من الضرر الدائم وفقدان الاحتياطيات في أماكن أخرى أيضاً. حيث تتطلب العديد من أكبر حقول النفط في إيران حقن الغاز الطبيعي لإنتاج النفط، وستكون معرضة للخطر إذا لم تتمكن من الحفاظ على حد أدنى معين من الإنتاج في جميع أنحاء البلاد. كما أن بعض منصات إنتاج النفط البحرية في المياه العميقة قد يكون من الصعب إعادة تشغيلها إذا تعيّن إغلاقها بالكامل لمدة طويلة من الزمن. وتعني الصعوبات التقنية لوقف الإنتاج البحري بأن الاقتراح بأن تستخدم إدارة ترامب صلاحيتها لإيقاف إنتاج النفط البحري على الأراضي الفيدرالية يعني بصورة أساسية أن تدمر حكومة الولايات المتحدة نسبة مئوية من هذا المورد إلى الأبد. ويمكن أن يكون إيجاد طريقة قانونية لفرض تخفيضات محدودة ومتناسبة من منتجين متعددين، -ر غم صعوبته- أفضل طريقة تتبعها الولايات المتحدة للمشاركة في جهود استقرار النفط في مجموعة العشرين، مع الحفاظ على قدرة الشركات الأمريكية على استعادة الطاقة الإنتاجية في وقت لاحق.
ويعني النقص اللائح في الأفق في التخزين المتبقي أن الرهانات عالية على اتفاقية كبرى بين أكبر منتجي النفط في العالم لتضييق الخناق من أجل منع امتلاء التخزين العالمي إلى حد الفيضان. ويعني أيضاً أن تخفيضات إنتاج النفط أمر لا مفر منه، وذلك فقط لأن بعض المنتجين لن يثبطهم إلا عدم وجود أماكن لتخزين النفط الذي ينتجونه.
ويدعو بعض السياسيين الأمريكيين الولايات المتحدة إلى فرض رسوم جمركية على النفط المستورد. لكن تنفيذ هذا الاقتراح سيكون غير فعال، لأن نقص التخزين يعني أن أي منتج أجنبي للنفط لديه مخاوف من أن إغلاق الإنتاج سيضر بخزاناته، سيبيع نفطه بخسارة من أجل التخلص منه. وهذا يعني أنهم سيواصلون إلقاء النفط في السوق الأمريكية بهدف الوصول إلى المشترين و / أو تخزينهم حتى مع وجود تعريفات تقلل ربحية القيام بذلك. إذ يُتداول بعض النفط بالفعل في العالم بقيمة سلبية، أي بأسعار أقل من تكلفة إنتاج النفط وشحنه، دون أن تعود أي نسبة مئوية من الأموال المتحصلة إلى البائع.
وهناك خلاف حول المدة التي ستستغرقها صناعة النفط العالمية في التخلص من التراكم التاريخي للمخزون، حيث سيصل الفائض إلى ما بين 900 مليون ومليار برميل حسب ما يقدره المحللون في أسوأ السيناريوهات. فعندما كانت أسعار النفط تتدهور في عام 2015، توقف فائض المخزون في ذلك العام عند 593 مليون برميل، واستغرق الأمر عامين من التخفيضات المنسقة لدى المنتجين -بقيادة السعودية- حتى تراجع. ولكن كان ذلك عندما كان الاقتصاد العالمي يشهد ارتفاعاً بنسبة 3.5 في المئة سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي، ويُعتقد أنه يمكن أن يستغرق وقتاً أطول هذه المرة.
وأخيراً، مثلما سيكون لدى بعض مصدري النفط الخام سهولة أكبر في التكيف مع مشكلات التخزين أكثر من البعض الآخر، فإن القيود المحلية على تخزين وقود الطائرات يمكن أن يؤدي إلى درجات متفاوتة من المرونة التشغيلية للمصافي. وقد يمثل ذلك مشكلة خطيرة إذا كان التأثير السلبي للجائحة على النقل الجوي طويل الأمد نظراً لتكوين صناعة التكرير، حيث يصعب إنتاج وقود الديزل اللازم لحركة البضائع والاستخدام الصناعي دون تكديس كمية معينة من وقود الطائرات غير المرغوب فيه الذي لا يمكن التخلص منه. وربما سيكون هذا المشكلة الكبيرة المقبلة لقطاع تكرير النفط بمجرد أن يتعافى من صدمة الفقدان المفاجئ للطلب على منتجاته بصورة عامة.