بقلم: لي سميث
الشرق اليوم- لا يتجاوز عدد سكان دولة قطر الواقعة في الشرق الأوسط أكثر من 300 ألف مواطن قطري يعيشون على أرض تبلغ مساحتها 11,586 كيلومتر مربع، ومعظمها صحراء جرداء. لذا قد تبدو قطر نقطة ارتكاز غير متوقعة لإعادة تشكيل السياسة والثقافة الغربية من خلال النقاشات السياسية، ومراكز الفكر، والجامعات، والمؤسسات الثقافية ذات الأسماء المرموقة. ولكن خلال العقد الماضي، بذلت قطر أكثر الجهود تعقيداً واستدامة ونجاحاً تقوم بها أي دولة أو مجموعة مصالح أجنبية لتشكيل صناعة السياسة الغربية -لا سيما الرأي الأمريكي- لصالحها.
وحجم الأموال التي ضختها قطر في الحكومات المحلية، والجامعات، والمدارس، والمؤسسات التعليمية، ومراكز الفكر، ووسائل الإعلام في جميع أنحاء أمريكا، فضلاً عن عدد الأدوات والمبادرات، مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل، التي تستخدمها قطر للتأثير على الرأي الأمريكي يكاد يكون ساحقاً. ومن المستحيل فهم كيف تعمل واشنطن اليوم دون فهم طبيعة الحملة التي تقوم بها قطر ونطاقها.
فقد حولت قطر معظم ثروتها من الطاقة إلى محفظة استثمارية تُحسد عليها، وذلك من خلال حيازات كبيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، فإن استراتيجيتها في استخدام صناديق الثروة السيادية ووسائل الاستثمار الأخرى كأدوات سياسية تجعل أدوات التأثير القديمة، مثل جمع مساهمات بقيمة ألف دولار لحملات المرشحين السياسيين، أو نشر مقالات رأي لضباط متقاعدين في الخدمة الخارجية في صحيفة واشنطن بوست، تبدو وكأنها كتابة رسائل جمع التبرعات بخط اليد. ففي العام الماضي وحده، أجرت قطر استثمارات أجنبية مباشرة في الشركات الأمريكية بقيمة 2.8 مليار دولار، استهدف معظمها ولايات مثل كارولينا الجنوبية، حيث احتلت الدوحة مساحة كبيرة في صناعة الطيران والطائرات المُسيرة. ويمارس ممثلو ولاية كارولينا الجنوبية المنتخبون تأثيراً كبيراً على لجان الكونغرس المسؤولة عن الإشراف على العلاقات الخارجية للولايات المتحدة ونفقات الدفاع. حيث دعا السيناتور البارز عن ولاية كارولينا الجنوبية، ليندسي غراهام، إلى حل للأزمة بين قطر وجارتيها السعودية والإمارات، وأثبت أيضاً في كثير من المناسبات أنه منتقد علني لهدف قطر الرئيسي، ألا وهو ولي عهد السعودية وحاكمها الفعلي محمد بن سلمان.
ورغم ذلك، فإن نسبة صغيرة فقط من نفقات قطر المذهلة في أمريكا تذهب إلى التلاعب في ولاءات السياسيين. وبالمعنى الأوسع، فإن استراتيجيات الإمارة لشراء النفوذ تُعدّ مثالاً نموذجياً لكيفية تحويل المال إلى قوة “ناعمة” في عصر استُبدلت فيه المؤسسات الأمريكية التي كانت مستقلة، مثل وسائل الإعلام المرموقة، بمنصات تقنية أكثر انفتاحاً وسهولة بالتلاعب، مدعومة بانحيازات حزبية ممولة بمبالغ طائلة من نقود الشركات والأجانب. وقد تضاعفت جهود قطر الرسمية للضغط على حكومة الولايات المتحدة أربع مرات بين عامي 2016 و2017، من 4.2 مليون دولار إلى 16.3 مليون دولار، ولكن هذا يُعد مبلغاً ضئيلاً مقارنة بتكلفة الاستثمارات غير المباشرة في الثقافة السياسية للولايات المتحدة. فعلى مدى السنوات الثماني من 2009 إلى 2017، منحت مؤسسة قطر 30.6 مليون دولار إلى عشرات المدارس من الروضة وحتى الصف الثاني عشر ومدارس الثانوية العامة -وهو مبلغ زهيد مقارنة بأكثر من مليار دولار قدمتها الدولة للجامعات الأمريكية بين عامي 2011 و2017، ما يجعلها “أكبر ممول أجنبي حتى الآن” في الأوساط الأكاديمية الأمريكية وفقاً لمجموعة المراقبة غير الحزبية المسماة “مشروع مراقبة الحكومة”. بل في الواقع، ووفقاً للمنظمة، كانت قطر “الدولة الوحيدة التي قدمت أكثر من مليار دولار في السنوات السبع التي تغطيها بيانات قانون التعليم العالي” المدرجة في تقرير المجموعة، بينما تلتها إنكلترا -التي تُعدّ ثاني أكبر منفق أجنبي- التي تخلفت عنها بأكثر من 200 مليون دولار. ويشير مثال أخير من تقرير خدمة أبحاث الكونغرس الذي جرى تحديثه في مارس من هذا العام إلى أنه “في يناير 2018، أقرّ الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وقطر بالتزام جهاز قطر للاستثمار بمبلغ 45 مليار دولار من الاستثمارات المستقبلية في الشركات والعقارات الأمريكية.
وبالإضافة إلى كونها أكثر تكلفة بكثير، فإن استراتيجيات القوة الناعمة التي تتبعها قطر تُعدّ أيضاً أكثر تعقيداً بكثير من سابقاتها. ولفهم كيفية عمل نظام التأثير الجديد، ما عليك إلا أن تتخيل قاعة متحف أُفرغت من جميع الأعمال الفنية والقطع الأثرية التي كان جميع الزوار متفقين أنها ذات قيمة كبيرة. وهذه المساحة الفارغة هي المجال العام الأمريكي الذي كان يشغله ذات يوم مؤسسات سمح لها استقلالها المالي ومعاييرها المهنية بدعم بعضها البعض في التحقق من صحة روايات أعداد كبيرة من الناس.
أما الآن، فقد تبنت تلك المؤسسات انحيازات حزبية صريحة، ونظرية مؤامرة مؤذية لتكون مصدر دخلها، ولم تعد قادرة على إيجاد واقع يمكن أن يتفق عليه أعداد كبيرة من الناس. والوسيلة الوحيدة للحصول ولو على اتفاق عابر في مثل هذا النظام المتحلل المرتزق هو شراؤه بالمال في العديد من المواضع في آن واحد -سواء في اليسار، واليمين، والوسط، والأوساط الأكاديمية، ومراكز الفكر، واللاعبين السياسيين، ومكاتب المحاماة، والعلامات التجارية مرموقة، والسياسيين البارزين- بحيث يبدو أن كل قطعة من هذه المرآة المحطمة تعكس حقيقة مشتركة متفق عليها. وتكمن صعوبة هذه المهمة بالطبع في أن الأوهام التي تنشأ عنها ستكون عابرة ومُكلفة. إذ تقدم قطر مثالاً نموذجياً عن كيفية لعب تلك اللعبة لأولئك الذين لديهم جيوب عميقة بما فيه الكفاية.
يقول برنارد هيكل الباحث في شؤون الشرق الأوسط بجامعة برينستون “إنها مكان صغير لديه موارد كبيرة للغاية. ويريد القطريون حماية أنفسهم وأن يصبح لا غنى عنهم، وهم يفعلون ذلك جزئياً من خلال جعل قطر مكاناً للاجتماع. فعلى سبيل المثال، إذا أرادت الولايات المتحدة التعامل مع طالبان، فيجب عليها أن تفعل ذلك عبر الدوحة”.
ففي نهاية الشهر الماضي، وقّع مسؤولون أمريكيون اتفاقاً مع طالبان يسمح للولايات المتحدة القوات بالانسحاب أخيراً من أفغانستان. وسوف تُنهي هذه الصفقة واحدة من أسوأ الورطات العسكرية للولايات المتحدة في التاريخ، بينما تحقق واحدة من أهم تعهدات حملة الرئيس دونالد ترامب في انتخابات عام 2016 بإنهاء الحروب الخارجية التي لا طائل منها. كما يُعدّ هذا الاتفاق أحدث إنجازات الدوحة، ولم يكن ممكناً -حسبما يقول المسؤولون القطريون والمعجبون بالدولة- إلا من خلال شراكة الولايات المتحدة مع دولة تعتبر نفسها صديقة للجميع. لكن بالنسبة لمنتقدي قطر، فإن المشكلة تكمن هنا تماماً.
حيث يقول خبير أمريكي في شؤون الخليج طلب عدم ذكر اسمه “لدى قطر تأثير خطير على مصالح الولايات المتحدة الجوهرية. والمشكلة هي أنهم يعانون من خلل هيكلي، فهم يحاولون دائماً شراء الحماية في كل مكان، ويقدمون الأموال لأعداء الولايات المتحدة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، أو حزب الله، أو حركة حماس، أو جبهة النصرة في سورية. ورغم أنه من المفترض أن يكون القطريون حلفاء للولايات المتحدة، إلا أنهم يمولون مجموعات ودول معادية للمصالح الأمريكية ويتعاملون معها”.
وبحسب رواية السعودية والإمارات، فإنهما فرضتا الحصار على زميلتهما في مجلس التعاون الخليجي في يونيو 2017 بسبب دعم قطر لتلك المجموعات والدول. وأصدرت الرياض وأبو ظبي 13 مطلباً يجب على الدوحة الوفاء بها لرفع الحظر. ومن بين هذه المطالب، قال السعوديون والإماراتيون إنه يجب على قطر إغلاق قناة الجزيرة المشهورة عالمياً، والتوقف عن دعم الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المسلحة، والابتعاد عن إيران، ووقف التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها، أي السعودية والإمارات. ومن المطالب أيضاً أن تصطف قطر في “سياساتها العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى جانب دول الخليج والدول العربية الأخرى”.
ومن وجهة نظر الدوحة، كانت هذه المطالب أشبه بمطالبتها بالتخلي عن سيادتها. ولكن من وجهة نظر الرياض وأبو ظبي، تمثل سياسات جارتهما الصغيرة تهديداً استراتيجياً، لا سيما -حسب ما تقوله شخصيات موالية للسعودية والإمارات- علاقات قطر مع الإسلاميين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، مثل حركة طالبان، وحماس، وحزب الله، والميليشيات الشيعية العراقية، والجماعات الإرهابية السنية.
وقد أدى الصراع بين الكتلتين الخليجيتين إلى تدفق هائل للثروات الخليجية إلى واشنطن، حيث يقوم أعضاء جماعات الضغط والاستشاريون وخبراء مراكز الفكر والصحفيون بتقديم الدعم المالي للمرشحين على الجانبين المتنافسين. وتُعد عضوة الكونغرس السابقة عن ولاية فلوريدا، إليانا روس ليتينن، من بين أحدث الأسماء الكبيرة التي سُجلت من ضمن أعضاء جماعة الضغط الإماراتية، في حين انحاز نائب رئيس هيئة الأركان السابق السيناتور ليندسي غراهام إلى جانب قطر الصيف الماضي.
وبالطبع، ليس سراً أن القوى الأجنبية تنثر الأموال في أرجاء عاصمة الولايات المتحدة. بل في الواقع، كان الغرض من إنفاق هذه الأموال هو إظهار القوة والنفوذ على الملأ. والهدف من أخذ الأموال من قوى أجنبية، عدا عن المال بحد ذاته، هو الانحياز إلى جانب القوة التي تمثلها هذه الأموال. وكل الأمريكيين الذين تحدثتُ إليهم من أجل هذا التقرير كانوا منفتحين، بل وبعضهم كانوا متفاخرين، بعلاقتهم مع أحد جانبي النزاع في دول مجلس التعاون الخليجي.
وبالنسبة لدونالد ترامب، فإن الحرب الباردة لدول مجلس التعاون الخليجي مفيدة لأمريكا. حيث يقول البيت الأبيض صراحة أنه يريد من الجانبين -وكلاهم حليف للولايات المتحدة- حل خلافاتهما، ولكن ليس قبل أن تقتحم وول ستريت المعركة التي بلغت تكلفتها مليارات الدولارات لتغذي القوى العاملة الأمريكية. فمن خلال التنافس للحصول على إيثار ترامب، أنفق طرفا النزاع ببذخ على شراء الأسلحة، والطائرات العسكرية والمدنية، والاستثمار في العقارات والتصنيع في جميع أنحاء البلاد من نيويورك إلى تكساس. وكانت الوظائف التي أوجدها الإنفاق الخليجي جزءاً مهماً من السبب وراء تمتع الولايات المتحدة في أبريل بأقل معدل بطالة منذ عام 1969.
ولكن هل هذه الموجات الهائلة من أموال الخليج التي تدفقت إلى واشنطن وبقية البلاد مفيدة بالفعل لأمريكا؟ إن دول الخليج في النهاية تلتزم بمجموعة من القيم مختلفة تماماً عن قيم الأمريكيين المتمثلة في الديمقراطية الغربية العلمانية ذات الأسواق الحرة. ورغم أن الشركاء الإقليميين للولايات المتحدة في ظل قيادة ديناميكية، مثل قيادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني، يعجّلون جهود التحديث، إلا أنه لا يزال عليهم قطع شوط طويل. إذ وُصفت القوى العاملة التي جلبتها قطر من شبه القارة الآسيوية لبناء ملاعب كأس العالم 2022 -ولو بشيء من المبالغة- بأنهم “عبيد”.
وفي بعض الأحيان، يبدو أن صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية -لا سيما عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي- أصبح في حد ذاته معركة بالوكالة بين المعسكرين المتعارضين في الخليج. حيث تنتقد السعودية علاقة قطر مع الجماعات الإرهابية، لكنها تتغاضى عن علاقتها السابقة مع حماس. وكما ذكرت التقارير، فإن كلاً من الرياض وأبو ظبي حاولتا أداء دور الوسيط مع طالبان.
وبقدر ما قد تستجيب اتفاقية السلام الأفغانية لرغبة أمريكا المتحمسة في تقليص وجودها في الشرق الأوسط، فإنها تشكّل أيضاً معضلة بالنسبة لقطر، التي ربما استفادت أكثر من أي أحد آخر من الوجود الأمريكي في المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر. حيث كان البنتاغون يستعد مؤخراً للرحيل من الشرق الأوسط، وتحويل بعض عمليات الطائرات المُسيرة من قاعدة العُديد الجوية الحديثة الضخمة في قطر إلى ولاية كارولينا الجنوبية.
فماذا ستفعل قطر بدون وجود الأمريكيين في الصحراء؟ سوف تنقل حيازاتها إلى أمريكا بالطبع. حيث أن صراع قطر القاسي مع منافسيها في دول مجلس التعاون الخليجي من أجل السيادة في واشنطن يُعدّ أيضاً محاولة لتشكيل مستقبل البلاد، وربما بقائها بحد ذاته.
****
حصل القطريون على الثروة في وقت متأخر نسبياً، أي في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وفي حين يعتمد معظم جيرانها الخليجيين على النفط باعتباره مصدر الدخل، وجد القطريون غازاً طبيعياً في الخليج الواقع بينهم وبين إيران، وتتشارك الدولتان الآن أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم. وكانت البنية التحتية للغاز الطبيعي في قطر قد بُنيت على يد شركة إكسون، التي كانت في ذلك الحين تحت إدارة وزير خارجية دونالد ترامب المستقبلي ريكس تيلرسون. ولدى قطر أعلى دخل للفرد في العالم، حيث أن إجمالي عدد سكانها أقل من 2.5 مليون نسمة، ومعظمهم من العمالة الوافدة، بما في ذلك المحامون والاستشاريون الأوروبيون في القمة، وعمال جنوب آسيا في القاع. وتمثل الجنسية الهندية أكبر نسبة من العمالة الوافدة، حيث يبلغ تعدادها 650 ألفاً، أي ما يقرب من ضعف عدد المواطنين القطريين.
ومنذ اكتشافات الغاز الطبيعي التي وضعت قطر على خريطة العالم، مرت البلاد بثلاث فترات رئيسية: 1995-2013 عهد حمد بن خليفة آل ثاني، الذي شهد صعود قطر باعتبارها لاعباً عالمياً؛ 2013-2017، حيث أعيد ضبط السياسة الخارجية في عهد نجله تميم؛ ومن عام 2017 حتى الآن، حيث كان الصراع داخل دول مجلس التعاون الخليجي هو الذي دفع الاستراتيجية القطرية في واشنطن.
وتحكم عائلة آل ثاني دولة قطر منذ منتصف القرن التاسع عشر. والشخصية التاريخية الرائدة في تاريخ البلاد هي بلا شك الشيخ حمد، الأمير السابق الذي حكم بين عامي 1995 و2013، ورسم صعود الدولة من خلال موارد الطاقة الضخمة والاستثمار الدولي، كما أضفى حمد الطابع المؤسسي على السياسة الخارجية للبلاد من خلال بناء شبكة الجزيرة وقاعدة العُديد الجوية. ويصف حلفاء قطر هذه السياسة على أنها عقد صداقة مع الجميع، بينما يصفها خصومها -لا سيما السعودية والإمارات- بأنها متهورة وفصامية.
ومع بداية الربيع العربي عام 2011، راهن الشيخ حمد بمصالح قطر على صعود الإسلام السياسي، فدعم الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس، وكذلك الجماعات المسلحة في ليبيا وسورية، فأدت حساباته الخاطئة إلى غضب جيرانها المحافظين في الرياض وأبو ظبي. وفي عام 2013، قامت قطر بانطلاقة جديدة عندما تنحى حمد لصالح ابنه تميم البالغ من العمر 39 عاماً، مدلل والدته موزة بنت ناصر، أكثر زوجات حمد الأربعة جاذبية وتأثيراً.
وفي غضون أربع سنوات، وجد تميم نفسه وسط أزمة الحصار التي يقول الكثيرون إنها نتيجة لدعم والده للتيار الإسلامي.
يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط شادي حامد “ليست إيران القضية الأولى التي تقسم دول مجلس التعاون الخليجي، فدبي لديها علاقات تجارية مع إيران أكثر من الدوحة”. ويشرح حامد أن العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي “توترت بالفعل خلال الربيع العربي. وقد ضغطت السعودية والإمارات على قطر بسبب دعمها للإسلاميين، وبلغ هذا الضغط ذروته في الحصار”.
ويعتقد خبراء إقليميون آخرون أنه كان من شبه المحتم أن تدعم قطر الحركات الإسلامية. حيث يقول محلل شؤون الشرق الأوسط ديفيد دي روش “عندما تكون دولة صغيرة تقع إلى جانب دولة كبيرة، فأنت تسبح عكس التيار”. ويشبّه علاقة قطر مع السعودية بعلاقة كندا والولايات المتحدة، حيث “يبدو من الغريب، على سبيل المثال، أن يتخذ الكنديون مسارهم الخاص لاستيعاب كوبا. لكن هذه إحدى الطرق التي يميزون أنفسهم بها عن الأمريكيين. ويرجع هذا التناقض جزئياً إلى محاولة تجنّب التشابه”.
وتتشكل الاستراتيجية السياسية المعقدة لدولة قطر من خلال جغرافيتها وعلاقاتها مع القوة العظمى الراعية لها ومواردها الطبيعية ومزاج الأسرة الحاكمة.
لكن المملكة العربية السعودية ليست الجار الكبير الوحيد الذي يجب على قطر أن تحسب حسابه، إذ أن ثروتها وأمنها وقدرتها على إظهار القوة تتشكل أيضاً من خلال علاقاتها مع إيران التي تمتلك حقل جنوب بارس، بينما تمتلك قطر حقل غاز الشمال. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن السعودية التي تُعدّ زعيمة العالم العربي السني، وإيران التي يقودها نظام ديني شيعي، تخوضان منافسة على العالم الإسلامي على غرار الحرب الباردة. وقد تحول الصراع في بعض الأحيان إلى عمليات عسكرية فعلية، مثلما حدث في الربيع الماضي عندما أطلقت إيران صواريخ على منشآت النفط السعودية. وتحاول الدوحة أن توازن بين الانسجام والعدوان مع كلا البلدين، رغم أنه لا قِبل لها بأن يتحول أي منهما إلى خنجر موجه إلى قلبها.
وعلى سبيل المثال، انظر كيف تناولت قطر اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني، حيث سارع منتقدو قطر إلى الإشارة إلى أن الشيخ تميم كان أول زعيم دولة يزور إيران بعد الضربة. حيث اتفق هو والرئيس حسن روحاني على أن نزع السلاح والحوار هما السبيل الوحيد للمضي قدماً. لكن لا بد أن روحاني كان يَصُرّ أسنانه من الغيظ لأن الطائرات المُسيرة الأمريكية التي أُرسلت لقتل سليماني انطلقت من القاعدة الأمريكية في قطر.
وتلعب قطر لعبة مزدوجة حسبما يدعيه منتقدوها، ولكن كما تبين الحادثة، تدرك الدوحة أيضاً أن واشنطن هي أهم حلفائها، وتعدها درعها الواقي. وقد اعترفت بهذه العلاقة رسمياً في أعقاب عملية عاصفة الصحراء، عندما أبرمت واشنطن والدوحة في عام 1992 اتفاقية تعاون دفاعي تتناول وجود القوات الأمريكية في قطر، والتمركز المسبق للمعدات العسكرية الأمريكية، ومبيعات الأسلحة. وجُددت الاتفاقية في عام 2013 لمدة 10 سنوات أخرى، وهي مدة قصيرة نسبياً في سياق المنطقة التي شهدت زوال إمبراطوريات قوية.
وفي عام 1995، أطاح حمد بوالده خليفة بن حمد آل ثاني في انقلاب سلمي. وفي ذلك الوقت، انحاز السعوديون والإماراتيون إلى الأب، وحاولوا إعادته إلى العرش. إذ باعتبارهما سلطتين قائمتين على الحفاظ على الوضع الراهن، فإن كلاهما يكره الاضطراب الإقليمي. وباعتبارهما نظامين ملكيين، فإنهما يكرهان الانقلابات العائلية خشية أن تُلهم محاولات مماثلة بين أقاربهم. وعلاوة على ذلك، يقول الناشط السياسي اللبناني لقمان سليم “ترى السعودية نفسها على أنها تؤدي دور الوالد في الخليج، ويجب على الجميع تقديم الولاء لها واتباع خطواتها. فالسعوديون لا يرون أن قطر قوة محلية صغيرة، ولكنها مجرد محافظة سعودية”. وفي الواقع، ترجع أصول العائلتين المالكتين في السعودية وقطر إلى المنطقة نفسها في شبه الجزيرة العربية، ألا وهي نجد. وهكذا فإن الصراع الإقليمي يُعد جزئياً صراعاً قبلياً، وهو صراع بين عشيرة صغيرة وأخرى كبيرة.
ويقول محلل شؤون الشرق الأوسط في واشنطن سيغورد نوباور “تعتقد السعودية أن قدرها هو قيادة الخليج، وكذلك حال الإمارات. السعودية بسبب حجمها، والإمارات لأنهم يعتقدون أنهم عرفوا كل ما يلزم لذلك، فقد بنوا مدناً يرغب الناس في العيش فيها مثل دبي، التي يرونها موجة المستقبل، لذا فإنهم يريدون من قطر أن تخضع لهم، لكنها تجاوزت خطاً أحمر عندما حصلت على تنظيم كأس العالم، ولم يستوعب السعوديون والإماراتيون كيف يمكن لقطر استضافة كأس العالم، بينما لم يتمكنوا هم من ذلك”.
***
وتستخدم قطر أدوات القوة الناعمة للتأثير على الرأي العام وإظهار القوة في المنطقة وخارجها، مثل الإعلام والرياضة والثقافة، وكذلك القوة الصلبة. ويوضح أقدم مشاريع حمد وأكثرها أهمية طبيعة الحكم القطري، وهي القوة الناعمة والصلبة التي أظهرت أن قطر كانت ودودة مع الجانبين، أو أنها تلعب لعبة مزدوجة. ففي عام 1996، أنفقت الدوحة مليار دولار على بناء قاعدة العُديد الجوية التي ستصبح نقطة رئيسية للعمليات العسكرية الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. وفي العام نفسه، كشف حمد النقاب عن مشروع جديد يهدف إلى تغيير الإعلام العالمي مع منح أعداء أمريكا -وأبرزهم أسامة بن لادن- صوتاً، وكان هذا المشروع هو شبكة الجزيرة.
وبعد أحداث 11 سبتمبر وغزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، أصبحت شبكة الأخبار الفضائية واحدة من أشهر المنظمات الصحفية في العالم. فقد كانت وسائل الإعلام العربية في السابق تتكون من عشرات الأسواق الوطنية المغلقة، التي تسيطر عليها عادةً الدولة أو العشائر السياسية وأجهزة المخابرات التي تصيغ الأخبار وفق ميول السلطة الحاكمة. لكن قناة الجزيرة غطت الأحداث في جميع أنحاء المنطقة، وربما كان الأهم من ذلك بالنسبة لجمهور التلفزيون العربي الذين سئموا من التغطية التي تشيد بحكامهم، هو أنها تناولت الأنظمة الحاكمة، وخاصة القوى الإقليمية المنحازة إلى واشنطن. وليس من المصادفة أن تكون مصر والسعودية أهدافاً قطرية أيضاً.
ورغم أن موظفي الشبكة الأصليين جاؤوا من تجربة بي بي سي الفاشلة بإطلاق شبكة ناطقة باللغة العربية، إلا أن توجهها الإيديولوجي كان مؤيداً للإسلاميين بصورة صريحة. فكان من أشهر شخصياتها الإذاعية يوسف القرضاوي، وهو مفكر إسلامي مصري سني انتقل إلى الدوحة عام 1961 هرباً من حملة جمال عبد الناصر ضد جماعة الإخوان المسلمين، وأصبح القرضاوي من أهم الشخصيات الأكاديمية والإعلامية القطرية. وكان برنامجه على قناة الجزيرة “الشريعة والحياة” يقدم نصائح حول كل شيء، من العادة السرية إلى التفجيرات الانتحارية، وكلاهما مباح، لكن الأخيرة ضد الإسرائيليين فقط.
وكان القرضاوي يُعدّ حجر الزاوية في تغطية قناة الجزيرة بعد أحداث 11 سبتمبر، عندما اكتسبت الشبكة شهرة عالمية بسبب بثها الحصري لرسائل بن لادن. وكانت تغطية الجزيرة لغزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 مؤيدة للمقاومة بكل فخر، وفي عام 2004، أصدر القرضاوي فتوى تؤكد أنه من واجب المسلمين مقاومة “قوات الاحتلال”.
وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تنفذ المهمات من قاعدة العُديد ضد القوات نفسها التي كانت الجزيرة تشجعها. وهذه السياسة غير سوية، بل مصابة بالفصام كما يقول المنتقدون.
ويقول أحد المحللين السعوديين “خرجت الولايات المتحدة من السعودية عام 2003 لأن الأيديولوجيين الإسلاميين نددوا بالوجود الأمريكي في شبه الجزيرة العربية. وانتقلت إلى قاعدة العُديد، والآن يدفع القطريون لنفس الإسلاميين السعوديين الذين أرادوا خروج الولايات المتحدة، وهم يزورون الأمير على بعد مسافة قصيرة بالسيارة من قاعدة العُديد”.
وقد أصبحت قاعدة العُديد الجوية وشبكة الجزيرة الأسس التي بنت عليها قطر حملتها للتأثير العالمي. ثم جاء بعد ذلك مجموعة منتقاة بعناية من الجامعات الأمريكية الكبرى، التي اختيرت على ما يبدو بسبب المجالات التي تتميز بها ومكانتها في الولايات المتحدة، فافتتحت فروعاً لها في الدوحة. ووفقاً لتقرير صدر عام 2016، تُنفق قطر أكثر من 400 مليون دولار سنوياً لدعم ست جامعات أمريكية في الدوحة، وهي كارنيغي ميلون، وجورجتاون، ونورثوسترن، وتكساس إيه آند إم، وكلية وايل كورنيل للطب، وجامعة فيرجينيا كومنولث للفنون.
وربما تنفق قطر المزيد من الأموال مباشرة على مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة، حيث ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية الشهر الماضي أن قطر تُعد واحدة من بين عدة دول، بما في ذلك والصين، التي أغرقت الجامعات الكبرى مثل ييل وهارفارد بأكثر من 6.5 مليار دولار من التمويل الأجنبي غير المبلغ عنه.
وقد وجدت دراسة أجراها معهد دراسة معاداة السامية والسياسة العالمية أن “متطلبات إعداد التقارير الفيدرالية وإجراءاتها كانت غير كافية لتتبع التمويل القادم من الخارج. ويتضمن ذلك أكثر من 3 مليارات دولار قدمتها قطر ودول الخليج، والتي لم تبلغ عنها الجامعات مصلحة الضرائب أو وزارة التعليم الأمريكية “.
كما مولت قطر أيضاً المدارس الثانوية من خلال برامج اللغة العربية. ومنذ عام 2009، قدمت مؤسسة قطر الدولية الدعم المباشر للمدارس التي ترغب في إنشاء برامج اللغة العربية أو توسيعها على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية. ووفقاً لتقرير صحيفة وول ستريت جورنال، فإنه على مدار ثماني سنوات، كانت مؤسسة قطر قد قدمت بحلول عام 2017 مبلغ 30.6 مليون دولار “إلى عشرات المدارس من نيويورك إلى أوريغون، ودعمت مبادرات إنشاء البرامج العربية أو شجعت نموها”. وتشرف موزة بنت ناصر على مشاركة الدوحة العالمية من خلال الفن، بصفتها أحد صناع القرار الرئيسيين في قطر، وتساعد على تعزيز انفتاح قطر على بقية العالم باعتبارها راعية للفنون في الغرب.
ويقول مسؤول أميركي سابق عمل لسنوات عديدة في الدوحة وأصبح مقرباً من الأسرة الحاكمة “كانت قطر منهجية تماماً في إنشاء المتاحف. وكان لدى [موزة بنت ناصر] اهتمام عالمي وإقليمي بالفن، فهي تعتبر الثقافة والتعليم حجر الزاوية”.
وتتضمن المتاحف القطرية متحف الفن الإسلامي، والمتحف الوطني القطري، والمتحف العربي للفن الحديث، والرواق، وحيّ كتارا الثقافي. ويُعتقد أن قطر تنفق سنوياً أكثر من مليار دولار سنوياً، وهو رقم قد لا يصرح بحقيقة هذه النفقات إلى حد كبير. ويكتب أحد النقاد أن استثمار قطر في الفن “يتعلق بعرض الهوية العربية واستمرارها. والتحدي بالنسبة لقطر، وسبب تطورها بصورة مختلفة تماماً عن دولة الإمارات، هو كيف تصبح دولة حديثة بدون تبني الثقافة الغربية”.
لكن للأسف، فإن أحد الركائز الأساسية للهوية العربية الحديثة على مدار السبعين عاماً الماضية كانت معاداة الصهيونية. وهكذا، ساعدت موزة أيضاً في تبني المقاطعة وسحب الاستثمارات وحركة العقوبات في الجامعات الأمريكية. وتظهر وثيقة لوزارة العدل تعود لعام 2009 أنها استخدمت شركة فينتون، وهي شركة اتصالات مقرها الولايات المتحدة حيث عمل جيريمي بن عامي مؤسس منظمة جيه ستريت في منصب رفيع المستوى حتى مغادرته لتشكيل منافس تقدمي للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية في نهاية عام 2007، على الرغم من أنه لا يوجد دليل يربط بن عامي بالحملة القطرية. وكانت وظيفة شركة فينتون هي المساعدة في تأسيس منظمة الفاخورة، وهي منظمة مقرها الدوحة استهدفت الطلاب في الولايات المتحدة. ويقول الإعلان المنشور على موقع الفاخورة على الإنترنت إن المجموعة تهدف إلى: “عزل الفصل العنصري الإسرائيلي من خلال الأحداث المرتبطة بدعوة المجتمع المدني الفلسطيني للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”. كما احتفظت وزارة العدل في أرشيفها الرقمي الخاص بقانون تسجيل الوكلاء الأجانب بوثيقة تعود إلى فبراير 2010 بعنوان “عقد شركة فينتون للاتصالات مع حملة الفاخورة”. وكان من ضمن الأنشطة التي وافقت فينتون على تقديمها لعملتها “سمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند”، ما يلي: “إدارة وبناء علاقات مستمرة مع الطلاب الأمريكيين، والعمل مع المنظمات الشريكة لإدارة علاقات الطلاب الآخرين في أوروبا والشرق الأوسط”. وبالإضافة إلى دعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وغيرها من الإجراءات المعادية لإسرائيل في الجامعات، شاركت الفاخورة أيضاً في أنشطة غير أكاديمية، حيث كان مدير المنظمة، فاروق بورني، على متن السفينة التركية مرمرة التي حاولت اختراق حصار غزة عام 2010.
وأشار التقرير نفسه الذي أحصى أكثر من 3 مليارات دولار من التمويل القطري للتعليم العالي في الولايات المتحدة إلى “وجود ارتباط مباشر بين تمويل قطر ودول الخليج للجامعات مع وجود مجموعات مثل (طلاب من أجل العدالة في فلسطين) وبيئة متدهورة تعزز الأجواء المعادية للسامية والعدوانية”. وخلص التقرير إلى أن معظم التبرعات الواردة من منطقة الشرق الأوسط جاءت من مانحين قطريين (بنسبة 75%)، وأن مؤسسة قطر كانت مسؤولة عن جميع التبرعات القادمة من قطر تقريباً، وانتهى التقرير بالقول إن “هذه الأموال تؤثر بشكل كبير على المواقف والثقافة المعادية للسامية وأنشطة المقاطعة”.
***
كنت في منتصف الشتاء أتناول الغداء مع مسؤول أوروبي سابق لديه خبرة واسعة في شؤون الشرق الأوسط، والذي عرض شرح استراتيجية الاستثمار القطرية. واقترح لبيان هذه النقطة أن نلتقي في فندق كونراد الذي افتُتح حديثاً في وسط مدينة واشنطن ويضم 360 غرفة، ويُعد جوهرة التاج لممتلكات قطر في وسط العاصمة. ويقع المشروع متعدد الأغراض على بعد بضعة مربعات سكنية عن البيت الأبيض، وكان قد انطلق عام 2011 باستثمار 620 مليون دولار من شركة الديار العقارية القطرية التي تُعد ذراع الاستثمار العقاري لجهاز قطر للاستثمار. وتضم الأرض التي تبلغ مساحتها 10 فدادين علامات تجارية مثل فيراغامو، وهيرمس، وباول ستيوارت، فضلاً عن مجموعات المطاعم العالمية مثل ديب بي جي بي وموموفوكو. وقاعة الطعام الرئيسية في فندق كونراد هي إستوراي، وهي قاعة بسيطة رمادية وبنية اللون.
ويقول المسؤول إن استراتيجية قطر للاستثمار “تستند جزئياً إلى مراقبة ما فعله جيرانها السعوديون والإماراتيون بثرواتهم”. وقد كان هناك نجاحات وإخفاقات. ويضيف المسؤول “لقد أنشأ الإماراتيون مدناً من لا شيء، مثل دبي وأبوظبي، التي أصبح العالم يحسدها عليها”.
ويمكن لسكان نيويورك والباريسيين وحتى أهالي القاهرة وبيروت أن يفكروا في المباني العملاقة المصنوعة من الفولاذ والزجاج المزروعة في صحراء قاحلة. ولكن بالنسبة لآسيا وإفريقيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، فإن دبي والدوحة ليستا مجرد نقاط ربط بين مومباي ولندن على سيل المثال، ولكنها تمثل أيضاً بعض الفرص القليلة المتاحة لأب فلبيني أو أم عزباء من كازاخستان لانتشال نفسيهما من الفقر.
وأوضح المسؤول أن “قطر كانت تتمتع بميزة كبيرة، إذ أنها حصلت على الثروة بعد جيرانها، والقطريون يعرفون أن الغاز سوف ينفد في وقت ما. وهكذا فإن استثماراتهم تتطلع إلى المستقبل لضمان أن يكونوا على ما يرام عندما تُستنفد مواردهم”.
ومن أجل توسيع محفظة الدوحة وتقليل اعتمادها على أسعار الطاقة، أسس حمد عام 2005 جهاز قطر للاستثمار الذي يمتلك الآن أصولاً تقارب قيمتها 330 مليار دولار. ويمتلك جهاز قطر للاستثمار استثمارات واسعة في جميع أنحاء أوروبا، وحصصاً كبيرة في الشركات والعلامات التجارية والمؤسسات المالية البريطانية والفرنسية والألمانية، بما في ذلك فولكس فاغن، وبورش، وفرانس تيليكوم، وكريدي سويس، ورويال داتش شل. وتشمل حيازاته في لندن وحدها شركات ساينزبريز، وهارودز، والقرية الأولمبية، ومبنى السفارة الأمريكية في ساحة غروسفينور، بالإضافة إلى 8% من بورصة لندن، وحصة مماثلة من باركليز وربع شركة ساينزبريز. ويُقال إنه يملك في المجموع أكثر مما تملكه مؤسسة إدارة العقارات الملكية.
ومن بين العلامات التجارية الأوروبية الأكثر شهرة التي استثمرها القطريون كانت فرق كرة القدم، ما سمح لهم أيضاً بالتنافس مع الإماراتيين المهووسين باللعبة، حيث ينظر إليها كلاهما على أنها وسيلة للترويج لعلامته التجارية العالمية.
وفي عام 2012، اشترت قطر للاستثمارات الرياضية نادي باريس سان جيرمان الفرنسي لكرة القدم. كما ترعى الخطوط الجوية القطرية، الناقل الوطني المملوك للدولة، عدداً من الفرق الرئيسية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك نادي روما الإيطالي، وبايرن ميونخ الألماني بايرن ميونيخ، وبوكا جونيورز الأرجنتيني، وبرشلونة الإسباني.
والأبرز من كل ذلك هو أن قطر ستستضيف كأس العالم لكرة القدم 2022. حيث يعتمد بناء المواقع المختلفة، مثل الملاعب والفنادق الجديدة، على العمالة الرخيصة القادمة من بنغلاديش وأماكن أخرى من شبه القارة الآسيوية. وقد أظهر تقرير يعود لعام 2015 أن 1200 عاملا لقوا حتفهم، وتشير التقديرات إلى أنه حتى حلول وقت انطلاق البطولة في نوفمبر 2022، قد يصل مجموع القتلى إلى 4 آلاف.
يصف منتقدو قطر جهود الدوحة للتغطية على انتهاكاتها لحقوق الإنسان من خلال العلامات التجارية الرياضية المعروفة باسم “الغسيل الرياضي”، وهم مصيبون تماماً، لكن الثروات تُستخدم عادةً لإخفاء الوسائل البشعة التي جرى الحصول على تلك الثروات من خلالها. كلن ما كان جيداً بما يكفي لعائلة ميديشي وعائلة كارنيغي جيد كفاية بالنسبة لعائلة آل ثاني. ويقول الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني ديفيد ديس روش، “إن لدى قطر استراتيجية واعية جداً لكسب النفوذ، فهم منفتحون على هدف استضافة الاجتماعات والمؤتمرات والمعارض الدولية”.
ووفقاً لما ذكرته برقية تعود لعام 2009 نشرت على موقع ويكيليكس، أخبر أحد المغتربين المقيمين في الدوحة دبلوماسياً أمريكياً أن “القطريين أوضحوا له أن ما يدفعهم لعقد المؤتمرات الدولية، واستضافة القواعد العسكرية الأمريكية، وتفاعلهم المستمر مع الآخرين، كلها جزء من استراتيجية تهدف لحماية قطر. وقال له أحد القطريين “ليس لدينا جيش، لذا انظر إلى المؤتمرات على أنها حاملات طائراتنا، وإلى القواعد العسكرية على أنها أسلحتنا النووية”.
ذلك المغترب هو هادي عمرو، المواطن الأمريكي المولود في بيروت الذي عمل لدى إدارة أوباما بعد أن ترك منصبه في مركز بروكينغز الدوحة.
وكانت العلاقة بين أحد أكبر مراكز الفكر في واشنطن وقطر قد بدأت في عام 2002، وذلك عندما قامت تكفلت الإمارة بمؤتمر الدوحة الذي ضم وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم آل ثاني والسفير الأمريكي السابق في إسرائيل مارتن إنديك، الذي كان حينها مدير مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط في بروكينغز. وفي عام 2007، أعلنت بروكينغز أنها ستفتتح مركزاً في الدوحة.
وقال إنديك في بيان صحفي “سيسعى مركز بروكنغز الدوحة إلى إقامة شراكة دائمة بين كبار واضعي السياسات والمفكرين في الولايات المتحدة والمفكرين في العالم الإسلامي. وسيستضيف أيضاً زملاء من بروكينغز والعالم الإسلامي”.
وقد رأى البعض أن الجمع بين سلطة الدولة والمؤسسة البحثية أمر يثير الشكوك.
ويقول سليم علي، الذي عمل بصفة زميل زائر في مركز بروكنغز الدوحة في قطر “إذا كان أحد أعضاء الكونغرس يستخدم تقارير بروكينغز، فيجب أن يكون على دراية بأنه لا يحصل على القصة الكاملة”. وقال إنه أُخبر خلال مقابلة العمل أنه لا يمكنه أن يتخذ في مواقف تنتقد الحكومة القطرية في الأوراق البحثية. وأضاف “ربما لا يحصلون على قصة كاذبة، لكنهم لن يحصلوا أبداً على القصة الكاملة”.
ولم يكشف بروكينغز عن المبالغ التي تلقاها من قطر بين عامي 2002 و2010.ولكن في عام 2011، منحت قطر مركز بروكينغز 2.9 مليون دولار، و 100 ألف دولار في عام 2012، ومنحة لمدة أربع سنوات بقيمة 14.8 مليون دولار في عام 2013، وذلك عندما أصبح إنديك مبعوث إدارة أوباما لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. وفي عامي 2018 و 2019، تبرعت سفارة قطر إلى مركز بروكينغز بما لا يقل عن مليوني دولار.
يُدار جزء كبير من مشاركة الدوحة العالمية من معهد قطر لتطوير المعارض والمؤتمرات ومعهد قطر للتنمية اللذان يروجان للبلاد على أنها مكان جيد للأعمال. ويجمع منتدى الدوحة السنوي كبار صانعي السياسة من جميع أنحاء العالم، وكانت إيفانكا -ابنة الرئيس ترامب- ووزير الخزانة ستيف منوشين، والسيناتور ليندسي جراهام من بين أكبر الأسماء في منتدى عام 2019. وكان من بين الحضور أيضاً وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف. وفي عام 2018، دفعت قطر نفقة سفر ستة من أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين حضروا المنتدى.
كما يتعاون منتدى الدوحة أيضاً مع عدد من الشركاء الاستراتيجيين، بما في ذلك وسائل الإعلام الأمريكية، مثل بلومبيرغ، ومجلة فورين بوليسي، وموقع باز فيد، الذين غطى المنتدى تكاليف سفر مراسليهم وإقامتهم في عام 2019. وكذلك شارك عدد من مراكز الفكر الأمريكية في منتدى عام 2019 بصفة شركاء استراتيجيين، بما في ذلك مؤسسة بيل وميليندا غيتس، ومعهد ماكين، وشركة راند، ومركز ويلسون، ومركز ستيمسون، ومجموعة الأزمات الدولية. وأظهر صدر في شهر مارس 2019 عن مؤسسة منارة واشنطن الحرة أن قطر منحت مجموعة الأزمات الدولية 4 ملايين دولار. ومع ذلك، كثيراً ما يُقتبس عن رئيسها روبرت مالي -المساعد السابق في إدارة أوباما- بصفته خبيراً حيادياً حول المنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط لدى صحيفة نيويورك تايمز.
***
ويجادل بعض المحللين الإقليميين بأن دور الوسيط الذي تؤديه قطر يمكن أن يكون مفيداً للغير، بما في ذلك المساعدة في تحرير الرهائن. ففي شهر نوفمبر الماضي، شكر الرئيس ترامب الشيخ تميم على مساعدة قطر في تحرير رهينة أمريكي وآخر من أسترالي من طالبان. كما أدت قطر أيضاً دوراً في تأمين إطلاق سراح الجندي الأمريكي بو بيرغال عام 2014 مقابل خمسة شخصيات بارزة من حركة طالبان تحتجزها القوات الأمريكية في أفغانستان.
ووفقاً لدراسة أجراها جوناثان شانزر نائب رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بين عامي 2011 و 2017، شاركت قطر في محادثات بشأن الرهائن 18 مرة. وقد دفعت الدوحة مئات ملايين الدولارات للجماعات الإرهابية في اليمن وسورية ولبنان والعراق من أجل إطلاق سراح رهائن عرب وغربيين وآسيويين. وزعم منتقدو قطر، وعلى رأسهم السعودية، أن الدوحة كانت تستخدم عمليات الاختطاف كواجهة لتمويل الجماعات الإرهابية. وفي الحقيقة، قد لا يكون الفارق بين دفع مبالغ كبيرة مقابل فدية للجماعات الإرهابية أو كتابة شيكات بمبالغ كبيرة أمراً ذا معنى من الناحية العملية، بالنسبة للجماعات الإرهابية على الأقل.
وتقول عدة مصادر إن حصار دول الخليج لقطر يرجع جزئياً إلى دفع فدية ضخمة للجماعات الإرهابية السنية والشيعية مقابل تحرير عشرات القطريين، بمن فيهم أفراد من العائلة الحاكمة، الذين اختطفوا خلال رحلة صيد في العراق. واستمرت المفاوضات لإطلاق سراحهم أكثر من عام ونصف، وانتهت في أبريل 2017 عندما دفع القطريون مئات ملايين الدولارات للجماعات الإرهابية السنية والميليشيات المرتبطة بإيران والحرس الثوري الإيراني نفسه، ويُعتقد أن قاسم سليماني وحده حصل على 50 مليون دولار من الصفقة.
وقد شعر السعوديون بحنق شديد، ويقول أحد المحللين السعوديين الذين لديهم علاقات بالقصر الملكي “يمكن فهم أنهم يريدون تحرير أبناء جلدتهم، لكن هذه الأموال تستخدم لمحاربة السعودية. وفي كل يوم يتعين على الرياض محاربة تنظيم القاعدة، والإيرانيون يطلقون الصواريخ على مطاراتنا. أما قطر فليس لديها هذه المخاوف.
تقول الدوحة إنها تحارب الإرهاب. وقد أشار المسؤولون القطريون الذين تحدثت إليهم باعتزاز إلى مذكرة التفاهم بين الولايات المتحدة وقطر بشأن تمويل الإرهاب التي وقعت بعد شهر من حصار يونيو 2017. حيث قال وزير الخارجية تيلرسون في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني “تمثل الاتفاقية التي وقعنا عليها نيابة عن حكومتينا أسابيع من المناقشات المكثفة بين الخبراء، وتجدد روح قمة الرياض”.
ويقول مسؤول أمريكي سابق “إنهم يحرزون تقدماً جيداً، وهناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به، ولكن يمكنك أن تقول ذلك عن كل دولة من دول الخليج”.
لكن البعض كانوا أكثر تشككاً. إذ يقول أحد المحللين السعوديين “لقد كانت الولايات المتحدة تريد توقيع مذكرة التفاهم المتعلقة بتمويل الإرهاب منذ مدة، لكنهم لم يحصلوا عليها إلا بعد الحصار لأن القطريين كانوا في موقف سيء”.
وقد كان القطريون تاريخياً متراخين في ملاحقة ممولي الإرهاب وإدانتهم، بل كانوا يحمونهم في بعض الأوقات. ففي تسعينيات القرن الماضي، آوت قطر بإيواء القيادي البارز في تنظيم القاعدة خالد شيخ محمد. ومع اقتراب مكتب التحقيقات الفدرالي من الوصول إليه في عام 1996، قام وزير الداخلية السابق عبد الله بن خالد آل ثاني بإبلاغ نائب بن لادن.
ويقول المحلل السعودي “إن حقيقة توقيع قطر على مذكرة التفاهم التي كانت الولايات المتحدة تحاول دفعها للتوقيع عليها منذ 10 سنوات تثبت الفكرة التي كنا نثيرها”. وأضاف “لا يمكن أن يكون لديك 10 آلاف جندي أمريكي بينما هناك إرهابيون أدرجتهم الولايات المتحدة يتجولون بحرية في مراكز التسوق في الدوحة. ولا يمكنك أن تجعلهم يُصادفون القوات الأمريكية في متاجر الحلويات، وهذا طلب معقول جداً من الأمريكيين”.
والأمر الغريب هو أنه يبدو أن حكومة إسرائيل تدعم إلى حد ما تمويل قطر للإرهاب على الأقل. فحتى في الوقت الذي اشتكت فيه القدس من أن الدوحة تستضيف قياديين في حماس مثل إسماعيل هنية، سمحت إسرائيل لقطر بمواصلة ضخ الأموال إلى غزة على أمل منع قيام حرب أخرى. وبحسب أفيغدور ليبرمان، أرسل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسؤولين كبار في المخابرات الجيش إلى الدوحة من أجل “التوسل” للقطريين لمواصلة الدفع لحماس، رغم أن الدوحة سئمت من المنظمة الإرهابية الفلسطينية.
ولدى السعوديين أيضاً تاريخ متقلب مع تمويل الإرهاب، وغالباً ما كان يجري تجاهل الدور الذي لعبه السعوديون على هامش المؤسسة الحاكمة في تمويل الهجمات والتحريض عليها. ولم تدرك الرياض أنها بحاجة إلى قمع الإرهاب إلا عندما شن تنظيم القاعدة عمليات كبيرة داخل المملكة استهدفت المغتربين وقوات الأمن بعد مدة قصيرة من أحداث 11 سبتمبر. أما قطر فلم تواجه هذه المعضلة، وربما لن تواجهها على الإطلاق.
ويقول أحد مؤرخي المنطقة في الولايات المتحدة “تشبه السياسة الخارجية القطرية بوليصة التأمين. فنشاطهم الإقليمي الرئيسي هو استخدام الإخوان المسلمين لإظهار النفوذ. إنها أشبه بالاتحاد السوفييتي السابق الذي استخدم الأحزاب الشيوعية المحلية حول العالم لنشر نفوذه. والقطريون يفعلون نفس الشيء مع الإخوان، سواء في تونس أو مصر أو فرنسا. ليس الأمر أنه نموذج أكثر تعقيداً من نموذج السعوديين، ولكن لا يوجد في الرياض حركات شعبية يمكن الاعتماد عليها، بينما هي موجودة في قطر”.
وعلاوة على ذلك، يوضح الخبير في شؤون الشرق الأوسط شادي حامد أن “السعودية والإمارات تعتبران أن جماعة الإخوان المسلمين تمثل تحدياً وجودياً، فهم يرون أنها متكتمة، وتتعامل بخطاب مزدوج. وهذا يُعدّ خطراً بالنسبة لهم، ولديهم مشاعر قوية ضد الإخوان المسلمين لأن لديهم رؤية إسلامية خاصة بهم، حيث يروجون لفكرة إسلام هادئ مناصر للدولة”.
وكما كتب الخبير في شؤون الشرق الأوسط توماس بيريت “لا تحتقر السعودية جماعة الإخوان المسلمين فقط، بل أيضاً حركات الإسلام السياسي والسياسة الجماهيرية بشكل عام، لأنها تعتبرها تهديداً لنموذج الملكية المطلقة. فالسياسات السعودية ليست مدفوعة بالعقائد الدينية مثلما يُعتقد في كثير من الأحيان، ولكنها مدفوعة بالمخاوف على استقرار المملكة، والتي تترجم إلى دعم للقوى السياسية المحافظة بطبيعتها أو المعادية للحركات الإسلامية”.
ويتهم السعوديون وغيرهم السياسة الخارجية القطرية بأنها مصممة لإرضاء الجماعات الإرهابية. لكن القيادة القطرية لا ترى في الإخوان تهديداً، حسبما يقول حامد الذي يكتب كثيراً عن الإخوان وعاش في قطر لمدة أربع سنوات، حيث عمل في بروكينغز الدوحة. ويقول “كان هناك جماعة قطرية من الإخوان المسلمين، لكنها حلت نفسها عام 1999. فهي دولة صغيرة، ولذا من الصعب تجنيد أعضاء هناك. فضلاً عن أنه بسبب ثراء البلاد، هناك عدد قليل نسبياً من المواطنين الساخطين، القليل من الناس ينجذبون عادةً إلى وعود الإخوان بالعدالة الاجتماعية والخدمات التي تقدمها الجماعة عادةً في البلدان الإسلامية”.
يقول حامد وخبراء إقليميون آخرون إن الحصار يتعلق بالإسلام السياسي بصورة أساسية. حيث دعمت الدوحة جماعات الإخوان في جميع أنحاء المنطقة، لاسيما في مصر وسورية. ويقول حامد “تدعم قطر تدعم بعض الحركات الإسلامية، ويرى السعوديون والإماراتيون أنها تتدخل في شؤونهم الداخلية، ولهذا السبب أخذوا الأمر على محمل شخصي، فهم يعتبرون أي فرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين يمثل مشكلة. والمسألة هي أنه ليس لدى القطريين أي دافع للتخلي عن دعم هذه الجماعات وفقدان نفوذهم. وقد أراد السعوديون والإماراتيون من خلال الحصار إرسال رسالة مفادها أن العالم العربي لا يمكن أن يمر بفوضى شيء مثل الربيع العربي مرة أخرى”.
بعد الفشل الرهيب للربيع العربي، سعت الدوحة إلى إعادة العلاقات مع جيرانها ونقل السلطة داخل أسرة آل ثاني فحلّ تميم محل حمد.
ويقول نوباور “كان الخط الرسمي هو أن انتقال السلطة من الأب إلى الابن كان دائماً أمراً مخططاً له. ولكن يمكن القول إن التنازل عن الحكم في قطر عام 2013 كان بسبب سياساتها في الربيع العربي، خاصة في مصر وسورية، ولأن الدوحة أرادت أن تبدأ بداية نظيفة. فمن منظور قطر، فعلت كل ما طلبها السعوديون منها بعد 2013”.
يقول خبراء آخرون إن تميم مجرد واجهة، وأن حمد لا يزال صاحب القرار إلى جانب رئيس الوزراء السابق القوي حمد بن جاسم. حيث يقول أحد المحللين الإقليميين “إن حمد بن جاسم مؤيد جداً للإخوان والقوميين العرب. كما أنه أوضح في مناسبات خاصة أنه لا يحب أمريكا كثيراً”.
وفي نوفمبر 2013، التقى زعماء دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك تميم الذي كان قد تولى السلطة مؤخراً، في العاصمة السعودية لتوقيع “اتفاق الرياض”، وتعهدوا بعدم التدخل في السياسات الداخلية لجيرانهم. وكان عليهم التوقف عن دعم جماعات المعارضة ووسائل الإعلام “العدوانية” أي الجزيرة على ما يبدو. لكن في إجراء ينبئ بحصار في يونيو 2017، سحبت السعودية والإمارات في مارس 2014 سفيريهما من الدوحة بدعوى أن قطر لم ترق إلى مستوى الاتفاق.
وبعد أن طلب السعوديون والإماراتيون من القطريين إغلاق شبكتها الداعمة للإخوان المسلمين، نوعت الدوحة محفظتها من خلال الاستثمار في البرامج العلمانية، أي شبكة قومية عربية. وفي يناير 2015، أطلقت قطر قناة العربي، وهي شبكة ناطقة باللغة العربية مقرها لندن، وتمثل الثقل الموازن لقناة الجزيرة. وكانت القوة وراء المحطة هي عزمي بشارة الماركسي السابق البالغ من العمر 63 عاماً الذي أسس الحزب السياسي العربي الإسرائيلي المعروف باسم “بلد”. وفي عام 2007، فر بشارة من إسرائيل للاشتباه في تجسسه لصالح حزب الله ونظام الأسد خلال حرب لبنان الثانية. وحط رحاله في الدوحة حيث أصبح مستشاراً للأسرة الحاكمة، مثلما كان القرضاوي.
وقد أخبرني صحفي سعودي بارز مازحاً “عندما يريد تميم رؤيته، يجب على القصر التأكد من أن جدول أعمال بشارة فارغ”. وقال بشارة لوسائل الإعلام الفرنسية إنه ليس له دور رسمي لدى الأمير. وقال “أنا مثقف وتربطنا الصداقة والثقة، وعندما يطلب رأيي أعطيه له. فأنا أقل من مستشار وأكثر من مستشار “.
ويشغل بشارة منصب رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو مركز أبحاث مقره في الدوحة وله فرع في واشنطن، ومن بين زملائه يوسف منير الذي يدافع عن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
غير أن آخرين يقولون إن دور بشارة مبالغ فيه إلى حد كبير. حيث قال لي ناشط مؤيد لقطر مقيم في واشنطن عبر الهاتف “إنه قومي عربي من الطراز القديم. وتعتقد الأسرة الحاكمة أن عليها واجب حماية هؤلاء المثقفين الفلسطينيين الذين ليس لديهم غيرهم ليهتموا بهم، لكن بشارة لا يدير أي شيء”.
لكن هناك مصادر عربية تصر على أن بشارة يُعدّ المنظّر الفكري الجديد لقطر. حيث يقول أحد المحللين السعوديين “إنه معادٍ للإسلاميين لأنه وطني عروبي ينتمي للمدرسة القديمة، وهؤلاء الناس كانوا دائماً يكرهون السعوديين لأنهم مستاؤون من الثروة النفطية. ويقولون (لقد علمنا هؤلاء البدو الرياضيات وهم مدينون لنا بمقاسمتنا ثرواتهم!) ومصالحه متوافقة مع مصالح قطر في الوقت الراهن، لذا فهو مفيد لهم”.
ويقول الناشط اللبناني المستقل لقمان سليم إن بشارة “يعرف كيف يعمل من خلال وسائل الإعلام، وهو يدير الجناح العلماني للصحافة القطرية”.
وبالإضافة إلى محطة العربي، تشمل المبادرات الإعلامية العلمانية الأخيرة مواقع الإنترنت العربي الجديد و المدن. ويقول سليم إن هذا الأخير “ربما يقدم أفضل تغطية للمطبوعات العربية اليوم”. لكن الشبكة الفضائية التي تتخذ من لندن مقراً لها هي التي فتحت آفاقاً جديدة، حيث أن أكثر عروضها شعبية الآن هو برنامج “جو شو” الذي يقدمه الكوميدي المصري يوسف حسين.
ويقول أحد زملاء سليم، وهو رجل أعمال لبناني طلب عدم ذكر اسمه “إنه حاد الذكاء وساخر. لكنه بصراحة لا يشبه الفكاهة العربية، بل هو أشبه بالفكاهة اليهودية. فضحك سليم، وتابع الناشط اللبناني قائلاً “هذا هو المطلوب من بشارة، وهو عالي المستوى بسبب المكان الذي جاء منه، إنه على المستوى الإسرائيلي”.
وقد عملت المبادرات الإعلامية القطرية الأخيرة على تسليح مشاعر بشارة المعادية لإسرائيل في جزء من حملة تأثير ضد اليهود الأمريكيين، ومسؤول أمريكي كبير مؤيد لإسرائيل. حيث كان السباق في انتخابات مجلس الشيوخ في ولاية تكساس عام 2018 بين السناتور تيد كروز والنائب بيتو أورورك، وهي الحملة الأشد حماسة والأغلى تكلفة في تاريخ مجلس الشيوخ. ومع حلول نهاية الصيف، كان من الواضح أن كروز -الناقد البارز لقطر والجزيرة- كان ضعيفاً. وفي تلك المرحلة، بدأت محطات مرتبطة بالجزيرة إطلاق حملة تشويه ذات طابع سياسي تستهدف أومري سيرين، مستشار الأمن القومي لدى كروز. في أواخر أغسطس من ذلك العام، بدأت مقاطع فيديو رائجة تتسرب من داخل الجزيرة حول مشروع فيلم أعده صانع أفلام موالٍ للفلسطينيين قام سراً بعملية خاصة على مدى شهر في واشنطن، وسجل خلسة حوارات مع اليهود الأمريكيين.
وكان صانع الأفلام يتظاهر بأنه مناصر بريطاني لإسرائيل، وقد اخترق على وجه التحديد منظمة “مشروع إسرائيل”، وهي منظمة غير ربحية موالية لإسرائيل كان سيرين آنذاك عضوها المنتدب. وقد أخفت الحكومة القطرية الفيلم الوثائقي لسنوات لمنع وقوع انتكاسة دبلوماسية بسبب ما كان يبدو أنه عملية تجسس ضد اليهود الأمريكيين على الأراضي الأمريكية. وقد سُمح له الآن فجأة بالخروج شيئاً فشيئاً على خلفية قصص تشكك في ولاء هؤلاء اليهود من خلال قنوات مثل موقع “ذا إنترسيبت”. وبحلول نهاية أكتوبر، تسرب الفيلم الوثائقي كاملاً.
***
وفي عام 2019، أعلن جهاز قطر للاستثمار العام الماضي أنه يخطط لزيادة استثماراته في قطر من 30 مليار دولار إلى 45 مليار دولار، مع التركيز بصورة أساسية على قطاعي التكنولوجيا والعقارات. وقد حقق جهاز قطر للاستثمار بالفعل نجاحات في قطاع التكنولوجيا عندما حول شركة غيغامون للبرمجيات إلى شركة خاصة في ديسمبر 2017 مقابل 1.6 مليار دولار بالتعاون مع شركة إليوت مانجمنت.
أما بالنسبة لقطاع العقارات، فتواصل قطر زيادة أملاكها الواسعة في الولايات المتحدة، ويُعدّ “سيتي سنتر دي سي” أكبر مشاريعها في واشنطن العاصمة وأشهرها. وفي أبريل 2017، زار وفد من مسؤولي العاصمة ومستثمرين من القطاع الخاص الدوحة لتشجيع إقامة المزيد من المشروعات العقارية، بما في ذلك الفنادق. وتمتلك العديد من الشركات القطرية بالفعل فنادق في واشنطن، حيث اشترت شركة الريان للاستثمار السياحي فندق سانت ريجيس في عام 2015، واشترت مجموعة السرايا القابضة فندق كلوب كوارترز مقابل 52.4 مليون دولار في عام 2016، واشترت شركة الدولية فندق هوليود سويتس الواقع بالقرب من مركز واشنطن للمؤتمرات مقابل 50.4 مليون دولار في أوائل عام 2017.
وقامت شركة الدولية -وهي صندوق عالمي بقيمة مليارات الدولارات يستثمر في الأسهم الخاصة تملكه العائلة الحاكمة في قطر ويستثمر في العقارات التجارية- بشراء العديد من العقارات في العاصمة، بما في ذلك مبنى مكاتب مكون من 12 طابقاً في كونيتيكت أفنيو مقابل 64 مليون دولار، وآخر في شارع توماس جيفرسون مقابل 142 مليون دولار.
وكانت الشركة نفسها نشطة في عدة مدن أخرى أيضاً. ففي عام 2019، اشترت الدولية عقارين مكتبيين في الحي المالي في بوسطن مقابل 107.8 مليون دولار. واشترت شركة الدولية العديد من المباني في حي الأزياء في نيويورك: في عام 2015، اشترت مبنى إداري في شارع 39 مقابل 123.5 مليون دولار ؛ وفي عام 2016، اشترت هيلتون هوموود سويتس في شارع دبليو 37 مقابل 167.1 مليون دولار ؛ وفي عام 2019، أنفقت 140 مليون دولار على مبنيين آخرين في المنطقة.
وفي عام 2018، أجبرت صفقة لإنقاذ ناطحة سحاب في نيويورك جهاز قطر للاستثمار على تعزيز استراتيجيته الاستثمارية. حيث كانت قطر قد استثمرت في بروكفيلد، حيث أبرمت صفقة لإنقاذ مبنى 666 الجادة الخامسة المملوك لعائلة جاريد كوشنر. ومستشار الرئيس وصهره معروف بصداقته مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. لكن القيادة القطرية، التي ورد أنها لم تعلم إلا بصفقة الـ 1.8 مليار دولار -التي كانت في ذلك الوقت رقماً قياسياً بالنسبة لمبنى مكاتب نيويورك- كانت تشعر بالقلق من تبدو صفقة الشراء وكأنها محاولة للتأثير على الإدارة.
ورغم أن جهاز قطر للاستثمار لم يكن متورطاً في الصفقة بصورة مباشرة، فقد قرر الصندوق القطري التوقف عن وضع الأموال في الصناديق التي لا يسيطر عليها سيطرة كاملة. والحقيقة بالطبع هي أن هذا الإنفاق القطري يهدف إلى التأثير على السياسة الأمريكية. وإذا كان هناك قلق بشأن صفقة الجادة الخامسة 666، فهو يرجع ببساطة إلى أنها كانت تبدو لعبة للتأثير بصورة مباشرة للغاية.
كما استثمرت قطر في قطاعات أخرى إلى جانب قطاع العقارات، مثل البنية التحتية للطاقة. حيث أبرمت في العام الماضي صفقة بقيمة 10 مليارات دولار مع إكسون موبيل لتوسيع محطة غاز طبيعي مسال في تكساس، مسقط رأس السيناتور تيد كروز.
وزير الخزانة ستيف منوشين يحيي أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الوزارة على مائدة عشاء مع الرئيس دونالد ترامب في واشنطن، 8 يوليو 2019
وفي ربيع 2018، عقدت قطر منتدى أعمال في ميامي. حيث رأت فرصة مع امتياز دوري كرة القدم الرئيسي الجديد في ميامي، الذي يملكه النجم البريطاني المتقاعد ديفيد بيكهام. فوقعت مؤسسة قطر صفقة رعاية بقيمة 180 مليون دولار مع نادي إنتر ميامي.
وفي سبتمبر 2017، وبعد ثلاثة شهور من فرض الحصار، التقى ترامب بتميم في مبنى الأمم المتحدة. وأخبرت الجمعية العامة وجماعة ضغط قطرية وكالة رويترز أن الدوحة تعهدت بإنفاق المزيد من الأموال على قاعدة العُديد وفي شراء طائرات من شركة بوينغ. وبعد أقل من أسبوع، أعلنت الخطوط الجوية القطرية عن شراء ست طائرات بوينغ بقيمة 2.16 مليار دولار.
وكانت الدوحة توسّع علاقتها القائمة بالفعل مع الشركة المصنعة. ففي عام 2016، أبرمت الخطوط الجوية القطرية صفقة بقيمة 11 مليار دولار مع شركة بوينغ شملت شراء 30 طائرة 787 دريم لاينر التي تُصنع في تشارلستون بولاية كارولينا الجنوبية.
وفي فبراير 2018، قام كبار المسؤولين في جهاز قطر للاستثمار بأول رحلة رسمية إلى المدينة. وقال عبدالله بن محمد آل ثاني، الرئيس التنفيذي لجهاز قطر للاستثمار، لرجال الأعمال خلال الزيارة إلى تشارلستون، حيث التقى بكبير أعضاء مجلس الشيوخ في كارولينا الجنوبية، والسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، والحاكم هنري ماكماستر “آمل أن يزداد يتطور وجودنا هنا”.
وقد أفاد جوردان شاشتل أن المساهم الأكبر في حملة ماكماستر كان عضو اللوبي القطري عماد الزبيري، الذي يمثل جهاز قطر للاستثمار، حيث قدم للحملة -هو وعائلته والشركات التابعة له- أكثر من 50 ألف دولار. وقد كان الزبيري أحد كبار جامعي التبرعات في حملتي أوباما وكلينتون، ودعم مؤسسة كلينتون، لكنه تبرع أيضاً بما يقرب من مليون دولار للجنة تنصيب دونالد ترامب.
وبعد شهر من رحلة جهاز قطر للاستثمار الأولى إلى تشارلستون، أنشأت قطر شركة برزان للطيران، وهي شركة تابعة لشركة برزان القابضة، الذراع الاستثمارية الاستراتيجية للقوات المسلحة القطرية، وذلك من أجل “بناء مبادرة طائرات عسكرية كبيرة من المتوقع أن تدعم العديد من الوظائف”.
***
استقبل حلفاء الولايات المتحدة التقليديون في الشرق الأوسط، مثل إسرائيل والسعودية والإمارات، انتخاب دونالد ترامب بارتياح، متوقعين العودة إلى الاستراتيجية الإقليمية الأمريكية التقليدية التي كانوا يُعدّون حجر الزاوية فيها. وفي حين استبدلها البيت الأبيض في عهد أوباما بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ندد ترامب بالاتفاق النووي الإيراني خلال حملته ووعد بإعادة العلاقات مع السعوديين، وكانت وجهة أول زيارة خارجية قام بها ترامب إلى الرياض، وذلك في 20 مايو 2017. وقد كانت رحلة ناجحة، حيث جمع السعوديون الزعماء من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي للاستماع إلى الرئيس الأمريكي وهو يعد بالصداقة بينما يقدم لهم المشورة حول معالجة شكلة الإرهاب الخاصة بهم.
لكن خلف الكواليس، كان الصراع بين دول مجلس التعاون الخليجي يتصاعد. وفي 23 مايو، عقدت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومعهد هدسون مؤتمراً حول قطر وجماعة الإخوان المسلمين مع مسؤولين أمريكيين سابقين رفيعي المستوى، مثل وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وعضو الكونغرس الجمهوري إد رويس. وأعلن رويس -الذي كان حينها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب- أنه اقترح قانوناً لمعاقبة قطر على دعم حركة حماس.
وقد موّل المؤتمر إليوت برودي، وهو أحد المتبرعين لترامب، ونائب الرئيس المالي للجنة الوطنية للحزب الجمهوري، ورجل أعمال فاز بعقود في الإمارات لشركته الأمنية الخاصة. وبحسب رسائل البريد الإلكتروني المسربة إلى وكالة أسوشييتد برس، زعم برويدي أنه “حوّل” موقف رويس من انتقاد السعودية إلى “انتقاد قطر”. حيث ألقى محامو برويدي باللوم على قطر في اختراق بريد عميلهم الإلكتروني، وكتبوا إلى السفارة القطرية في الولايات المتحدة أنهم يمتلكون “أدلة دامغة تربط قطر بهذا الهجوم غير القانوني على مواطن أمريكي بارز داخل أراضي الولايات المتحدة، والتجسس الموجه ضده داخل أراضي الولايات المتحدة”.
وفي 24 مايو، اختُرق موقع وكالة الأنباء القطرية على الإنترنت، حيث نُشرت تصريحات نُسبت للشيخ تميم تصف حماس بأنها “الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني”، محذرة من المواجهة مع إيران، وزاعمة أن علاقاتها مع إسرائيل جيدة. وقد نفت الدوحة على الفور أن الأمير أدلى بهذه التعليقات، لكنها مع ذلك كانت تمثل السياسة الخارجية لقطر بأن تكون صديقة مع الجميع. وزعمت تقارير لاحقة أن أبو ظبي كانت وراء عملية الاختراق، وهو ما نفاه السفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة.
ومن هذه النقطة بدأت عمليات القرصنة المتبادلة تتصاعد بين الخصمين، ففي 3 يونيو، نشر موقع ذا إنترسبت مراسلات العتيبة بعد اختراق بريده الإلكتروني مع الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات مارك دوبويتز وكبير مستشاري المؤسسة جون هانا. ووفقاً لرواية ذا إنترسبت، تضمنت رسائل البريد الإلكتروني المخترقة جدول أعمال الاجتماع القادم بين مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومسؤولين في حكومة الإمارات الذي كان من المقرر أن يناقش “شبكة الجزيرة باعتبارها أداة لعدم الاستقرار الإقليمي”، وجملة أمور أخرى.
وبعد ذلك بيومين، فرض السعوديون والإماراتيون الحصار في 5 يونيو، حيث راهنوا أن الرئيس سيقف إلى جانبهم في الأزمة، وقد قام بذلك بالفعل، بل ورقص رقصة السيف في الرياض خلال رحلته الأولى إلى الخارج. كما أوضح الرئيس الجديد أن الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، بما في ذلك شراء أسلحة بمليارات الدولارات، وفرت وظائف للأمريكيين. ورأى أن الملك وولي العهد حليفين قويين في الصراع مع إيران والحرب التي لا نهاية لها على التطرف الإسلامي.
يقول نيوباور “رأت السعودية والإمارات في ترامب فرصة لتسوية قضية قطر بصورة نهائية، فعادلوا بين قطر والإسلام المتطرف، وعندما طبقوا الحصار سارع ترامب للوقوف إلى جانبهم في البداية”.
وكتب ترامب على تويتر في 6 يونيو “ذكرت خلال رحلتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط أنه لا يكن أن يكون هناك تمويل للإيديولوجيا الراديكالية. فأشار الزعماء أن انظر إلى قطر!”
لكن وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون نصح باتباع نهج أكثر توازناً. إذ بصفته الرئيس التنفيذي السابق لشركة إكسون موبيل ورئيس مجلس إدارتها، كان تيلرسون يعرف جميع اللاعبين المعنيين، وسرعان ما خفف من حدة موقف الرئيس. وفي 7 يونيو، تحدث مع تميم وعرض التوسط في النزاع.
وقال بيان للبيت الأبيض “أكد الرئيس على أهمية عمل جميع دول المنطقة معاً لمنع تمويل المنظمات الإرهابية ووقف الترويج للفكر المتطرف”.
وجرى تذكير ترامب بأن العلاقات الأمريكية مع جميع دول مجلس التعاون الخليجي مفيدة للشركات الأمريكية، وبعد أقل من أسبوع، اشترت الدوحة طائرات إف 15 بقيمة 12 مليار دولار. وفي شهر يوليو، وقعت واشنطن والدوحة مذكرة تفاهم حول مكافحة تمويل الإرهاب. وبعد بضعة أشهر، شكر ترامب في حاكم قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على مساعدته في مكافحة الإرهاب. وأوضح بيان البيت الأبيض أن ترامب “كرر دعمه لمجلس تعاون خليجي قوي وموحد يركز على مواجهة التهديدات الإقليمية”.
وقد حرص البيت الأبيض على حل النزاع بين شركائه في دول الخليج. وبحسب تميم، قال له ترامب “لن أقبل أن يتقاتل أصدقائي فيما بينهم”. حيث سيؤدي تجزؤ دول الخليج إلى جعل تنفيذ سياسات الشرق الأوسط الأكثر أهمية بالنسبة لترامب أمراً صعباً، لا سيما مواجهة إيران، وسحب القوات من أفغانستان والعراق، واستعادة التحالف الخاص مع إسرائيل. وكان البنتاغون قد نظر في الأمر أيضاً، مذكراً البيت الأبيض بأن قطر تستضيف قواعد عسكرية مهمة سيكون استبدالها مكلفاً.
وقد أدى الحصار إلى تركيز مصالح قطر الاستراتيجية بصورة أكبر. حيث كانت مشاركة قطر الدبلوماسية في واشنطن في الحد الأدنى، إذ لم تكن قادرة على مواكبة السفير الإماراتي يوسف العتيبة المعروف بأنه أحد أكثر المبعوثين إلى العاصمة مهارة وعدوانية، وكان يخبر المسؤولين والحلفاء الأمريكيين أنه يجب على الإدارة نقل القاعدة الجوية الأمريكية إلى خارج قطر. لكن سرعان ما بدأ القطريون إرسال وفود رفيعة المستوى للاجتماع مع مراسلي السياسة الخارجية وخبراء مراكز الفكر في واشنطن.
وكانت الدوحة قد أنفقت 4.2 مليون دولار على ممارسة الضغط في العاصمة في العام السابق للحصار. وعلى سبيل المقارنة، أنفق السعوديون 77 مليون دولار خلال العقد السابق. وفي عام 2017، رفعت قطر الإنفاق على الضغط إلى 16.3 مليون دولار، وهو ارتفاع كبير، خاصة منذ فرض الحصار في منتصف العام.
ومع نهاية عام 2017، كانت قطر قد وضعت مساراً فريداً لجذب شخصيات قريبة من إدارة ترامب، مثل مستشار حملة ترامب السابق باري بينيت الذي فازت شركته بعقد بقيمة 6 ملايين دولار مع الدوحة. كما عمل عمدة مدينة نيويورك السابق رودولف جولياني على تحقيق لصالح القطريين، وزار الدوحة قبل مدة وجيزة من تعيينه محامياً للرئيس في أبريل 2018.
كما وظفت قطر أيضاً نائب رئيس الأركان في حملة تيد كروز الرئاسية، نيك موزين، للتواصل مع الجالية اليهودية الأمريكية. حيث أقنع هو وصاحب مطاعم نيويورك جوي اللحام شخصيات يهودية بارزة، مثل المحامي آلان ديرشوفيتز، ورئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية مورتون كلاين، ونائب الرئيس التنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الكبرى، مالكولم هونلين، بزيارة الدوحة والتحدث مع المسؤولين القطريين. وقال مستشار ترامب السابق ستيف بانون لصحيفة وول ستريت جورنال “لقد جربت قطر القيام بشيء مختلف. إذ أن الحصول على كل هذه الشخصيات المؤثرة والزعماء اليهود والأشخاص المقربون من الرئيس يُظهر مستوىً عالٍ من الدهاء”.
لكن إنجاز قطر الحقيقي لم يأتِ حتى خريف عام 2018، عندما استفادت من الخطأ الفادح لمنافستها السعودية.
ففي 2 أكتوبر، قُتل المواطن السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. فاستُغل اغتياله على يدي ضباط المخابرات السعودية كمنصة لعمليات معلومات متعددة تديرها جهات فاعلة مختلفة لأغراض متعددة. حيث أرادت المخابرات التركية إلباس جريمة القتل لولي عهد السعودية، منافستها على السيادة الإقليمية. وكان لديهم حليف في قطر ساعد عملاؤه في اسطنبول وواشنطن في إيصال القصة إلى الصحافة الأمريكية التي اعتبرتها فرصة أخرى لاستهداف ترامب وإحياء الاتفاق مع إيران.
ربط عزمي بشارة من الدوحة جريمة القتل بترامب “ما يجب أن يشغلنا ليس مسؤولية محمد بن سلمان عن هذا العمل الهمجي، لأن هذا شيء مسلم به، ومياه بحر العرب كله لن تغسل يديه من دم خاشقجي، ولا حتى أي صفقة أو رواية يقترحها ترامب وأتباعه. لا، بل السؤال الذي يجب أن نطرحه هو التالي: أي نوع من القادة يتخذ مثل هذا القرار الإجرامي الأحمق؟
ومع توجيه الرئيس الأمريكي نحو محمد بن سلمان، كان بشارة والبقية على يقين من أنهم سيهيّجون المقاومة ضد ترامب. وتحول اغتيال خاشقجي إلى منصة عمليات إعلامية ملائمة، حيث كان يحتل المنطقة الرمادية المعروفة في السياسة العربية حيث تتقاطع وسائل الإعلام مع العمليات المخابراتية. وكانت علاقة خاشقجي مع أسامة بن لادن -وهو الصديق الذي نعى وفاته- هي التي أكسبته اهتمام رئيس المخابرات السعودية المخضرم تركي الفيصل، الذي يبدو أنه استخدمه كقناة خلفية لتنظيم القاعدة. فعيّن الفيصل خاشقجي “مستشاراً إعلامياً” له عندما كان سفيراً في لندن ثم واشنطن، واستعان به في الرياض مرتين لإدارة صحيفة الوطن التي يملكها. ومن أجل الالتفاف على هذه التفاصيل غير المريحة لخلفية خاشقجي وتعزيز أجندته، عمل بشارة على تسمية خاشقجي بصفته “صحفي في واشنطن بوست” و “مقيم دائم في الولايات المتحدة”. وبناءً على ذلك، اضطر ترامب إلى اتخاذ إجراءات ضد الرياض. فقال ليندسي غراهام مردداً نقاط الحديث المناهضة للرياض “لا يمكن أن نواصل العمل مع السعودية وكأن شيئاً لم يحدث”.
لكن في الواقع، كان خاشقجي طبعاً شخصاً أجنبياً لديه شقة في شمال فيرجينيا يستطيع بالكاد أن يكتب باللغة الإنكليزية، ومعظم عمله في صحيفة واشنطن بوست كانت تشكّله وتكتبه الموظفة السابقة في الخدمة الخارجية ماغي ميتشل سالم، وذلك حسب ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست نفسها، حيث تعمل سالم لدى مؤسسة قطر الدولية في واشنطن.
وكان ليندسي غراهام -الذي حصلت الولاية التي جاء منها على بعض أكبر الاستثمارات القطرية المباشرة التي أدت إلى توفير آلاف فرص العمل- كان شرساً في هجومه على محمد بن سلمان. حيث قال جراهام “ليس لدي شك في أن اغتيال خاشقجي كان مدبراً من طرف ولي العهد وبمعرفته وموافقته. وكل نفط السعودية وتهديدات إيران لن تجعلني أتراجع”. وقال غراهام بعد إحاطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حول الجريمة “أعتقد أنه متواطئ في قتل خاشقجي على أعلى المستويات الممكنة”.
أما صحيفة واشنطن بوست -التي ألقى مالكها جيف بيزوس اللوم على ولي العهد السعودي لاختراق هاتفه الشخصي وإفشاء اتصالات مساومته مع عشيقته (وقد ورد أن المدعين الفيدراليين لديهم أدلة على أن الصور قد نشرها شقيق عشيقة بيزوس)- فقد طلبت من عضو جماعة الضغط البارز في الحزب الجمهوري إد روجرز التوقف عن تمثيل المملكة العربية السعودية وإلا فإنه لن يعود بإمكانه أن يكتب في الصحيفة. وكذلك قطعت ست شركات ضغط علاقاتها مع الرياض.
ومع ذلك، وقف الرئيس مع محمد بن سلمان لنفس السبب الذي جعله يتصالح بسرعة مع القطريين: إنه مفيد للأعمال الأمريكية. وكما أوضح ترامب في بيان نوفمبر 2018 بعد رحلته إلى السعودية “وافقت المملكة على إنفاق واستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة… سيوفر ذلك مئات الآلاف من فرص العمل، وسيؤدي إلى تنمية اقتصادية هائلة، ويحقق ثروة إضافية كبيرة للولايات المتحدة. من هذه الـ 450 مليار دولار، سيجري إنفاق 110 مليارات دولار على شراء معدات عسكرية من شركات بوينغ، ولوكهيد مارتن، ورايثيون، والعديد من مقاولي الدفاع الأمريكيين الآخرين. وإذا ألغينا هذه العقود بحماقة، فإن روسيا والصين ستكونان أكبر المستفيدين، وسيسعدهم جداً الحصول على كل هذه الصفقات الجديدة، وستكون هدية رائعة لهم من الولايات المتحدة مباشرة!”
ويبدو أنه طالما استمر النزاع بين دول الخليج، فستواصل واشنطن الربح، وكذلك المدن الأمريكية الأخرى من نيويورك إلى تشارلستون، والصناعات الأمريكية من الدفاع إلى التعليم. ويقول أحد أعضاء جماعات الضغط السعودية في واشنطن “يعتقد الجانبان أن ترامب يمكن أن يفرض حلاً مواتياً لك وسيئاً لمنافسك”. ويقول صحفي سعودي بارز “فرضت الولايات المتحدة حظراً على كوبا دام أكثر من نصف قرن. ويمكننا بالتأكيد أن نفعل الشيء نفسه، وإذا كان بمقدور أي شخص تحمله، فإن قطر تستطيع ذلك”.
وبالفعل، اعتادت دول الخليج على مستوى معين من الصراع الداخلي وإدارة الديناميات العشائرية الخلافية إلى حد ما. ومع ذلك، فإن هذا الصراع لم يُحتوى في الخليج، فقد وفرت الثروة الاستثنائية للجهات الفاعلة المعنية الفرصة لتصديره إلى الخارج. والقضية إذن لا تتعلق بقطر أو أي من دول مجلس التعاون الخليجي، ولا أي منها يجبر أي شخص على أخذ أموالهم. بل إن الصراع يؤكد على انقسام المجال العام للولايات المتحدة، لا سيما إعلامنا ونظامنا السياسي الممزق.
فقد استُنزفت الصحافة ونصف الناخبين منذ ما يقرب من أربع سنوات بفكرة خيالية مفادها أن الرئيس الأمريكي مدين سراً لروسيا. وعلى الرغم من كل الأضرار التي أدت إليها نظرية المؤامرة هذه، إلا أنها تؤكد على القلق الحقيقي الذي يشترك فيه الناخبون عبر الطيف السياسي، حيث أنهم لا يملكون نظرة على مختلف الأدوات والآليات المستخدمة لتشكيل حياتهم، وأن أولئك الذين يتخذون الخيارات بالنيابة عنهم ربما لا يضعون أمن الشعب الأمريكي وازدهاره في المرتبة الأولى.