الشرق اليوم- خرجت الولايات المتحدة من بعض أحلك الأوقات وهي أكثر قوة وقدرة على الصمود، فبين شهري مايو ويوليو عام 1862 -وحتى عندما أثارت انتصارات الكونفدرالية في فرجينيا الشكوك حول مستقبل الاتحاد- أبقى الكونغرس والرئيس أبراهام لينكولن عيونهم على المستقبل، وسنوا ثلاثة قوانين تاريخية شكلت الفصل التالي للأمة: قانون الحيازة الزراعية الذي سمح للمستوطنين الغربيين بالحصول على 160 فداناً من الأراضي العامة لكل فرد؛ وقانون موريل الذي منح الأراضي للولايات من أجل تمويل الجامعات؛ وقانون سكك حديد المحيط الهادئ الذي أمّن خط سكة الحديد عبر القارة.
وبعد ما يقرب من 75 عاماً، وفي خضم الكساد الكبير، ومع نقص الوظائف ووقوف الكثير من الأمريكيين على طوابير الخبز، أثبت الرئيس فرانكلين روزفلت أيضاً أنه بعيد النظر. حيث خلص إلى أن أفضل طريقة لإعادة الازدهار والحفاظ عليه ليست ضخ الأموال في الاقتصاد، ولكن إعادة كتابة قواعد السوق. حيث قال روزفلت في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 1936 “تتطلب الحرية فرصة لكسب العيش، وحياةً كريمة وفق معيار العصر، حياةً لا تمنح الإنسان ما يكفيه ليعيش فحسب، بل شيئاً يعيش من أجله”. فكرست إدارته بالتعاون مع الكونغرس حق العمال في المساومة الجماعية، وفرضت قواعد صارمة ومنظمين للقطاع المالي، وأوجدت الضمان الاجتماعي لتوفير معاشات للمسنين والمعوقين.
وقد كشفت جائحة فيروس كورونا مرة أخرى عن الطبيعة غير المكتملة للمشروع الأمريكي، أي المسافة الكبيرة بين حقائق الحياة والموت في الولايات المتحدة، والقيم المنصوص عليها في ميثاق تأسيسها.
وخلال نصف القرن الماضي، أصبح نسيج الديموقراطية الأمريكية رقيقاً. فقد عززت الأمة الانحلال المنهك في مؤسساتها العامة، وتركزت القوة الاقتصادية على نحو لم نشهده منذ عشرينيات القرن الماضي. وبينما يعيش الكثير من الأمريكيين بدون أمان أو فرصة مالية، تمتلك حفنة قليلة من العائلات معظم ثروة البلاد. وخلال العقد الماضي، تجاوزت ثروة أعلى 1 في المئة من الأسر مجموع ثروة 80 في المئة من الشريحة الدنيا.
وكشفت الأزمة الحالية أن الولايات المتحدة أمة يمكن أن يحصل فيها لاعبو كرة السلة المحترفين على اختبار سريع لفيروس كورونا، بينما يُردّ العاملون في مجال الرعاية الصحية على أعقابهم؛ أمة يمكن فيها للأثرياء أن يلوذوا إلى سلامة منزل ثانٍ، معتمدين على العمال الذين لا يستطيعون أخذ إجازة مرضية مدفوعة الأجر لتوصيل الطعام إليهم؛ أمة يعاني فيها أطفال الأسر ذات الدخل المنخفض من أجل التواصل مع الفصول الدراسية الرقمية، حيث من المفترض الآن أن يتلقوا تعليمهم.
إنها أمة يجب أن يحسب فيها المسؤولون المحليون الذين يُصدرون أوامر البقاء في المنزل حساب المفارقة القاسية بأن مئات الآلاف من الأمريكيين ليس لديهم منازل. ولأن ليس لديهم مكان خاص بهم فيجب عليهم النوم في الأماكن العامة. فرسمت لاس فيغاس مستطيلات على إسفلت مرآب السيارات لتذكير السكان المشردين بالنوم على مسافة ستة أقدام عن بعضهم البعض، وهو إجراء قد يكون أيضاً قطعة قاتمة من فن الأداء بعنوان “هذا أقل ما يمكننا القيام به”.
إنها أمة تنعكس فيها التفاوتات العرقية الراسخة، في الثروة والصحة، في عدد الوفيات الناجمة عن الجائحة. ففي ولاية ميتشغان التي ضربها فيروس كورونا بشدة ي وقت مبكر، يشكّل الأمريكيون من أصل أفريقي 14 بالمائة فقط من سكان الولاية، ولكن 40 بالمائة من الوفيات. وقد نشر جايسون هارغروف، الذي استمر في قيادة حافلة بمدينة ديترويت رغم انتشار الفيروس، مقطع فيديو على فيسبوك في 21 مارس يشكو من راكبة تسعل دون أن تغطي فمها، وقال إنه مضطر لمواصلة العمل من أجل إعالة أسرته. وقال لزوجته عبر مقطع الفيديو أنه سيخلع ملابسه في الردهة الأمامية عندما يعود إلى المنزل ويستحم مباشرة حتى تبقى سالمة. وبعد أقل من أسبوعين، مات.
تقدم الحكومة الفيدرالية مساعدة مؤقتة للأمريكيين الأقل حظاً، ولم يعترض إلا القليل على هذه الإجراءات الطارئة. لكن بعض السياسيين يؤكدون بالفعل أن طبيعة الأزمة غير العادية لا تبرر إجراء تغييرات دائمة في العقد الاجتماعي.
ويؤدي ذلك إلى إساءة فهم طبيعة الأزمات بشكل عام، وتفاصيل الحالة الطارئة الحالية. فحجم الأزمة لا يُحدد من خلال تأثير الأحداث المتسارعة فحسب، ولكن أيضاً من خلال هشاشة النظام الذي تهاجمه. وقد كان مجتمعنا ضعيفاً على نحو خاص أمام هذه الجائحة لأن الكثير من الأمريكيين يفتقرون إلى الحرية الأساسية لحماية حياتهم وحياة أسرهم.
لقد كانت هذه الأمة مريضة قبل وقت طويل من وصول فيروس كورونا إلى شواطئها.
ثمة فارق كبير يفصل بين الأميركيين الأثرياء الذين يتمتعون بفوائد الحياة في أغنى دولة على وجه الأرض بصورة كاملة، عن الجزء المتزايد من السكان الذين تفتقر حياتهم إلى الاستقرار أو أي إمكانية حقيقية للتحسن.
فقد دفع الملياردير صاحب صندوق التحوط كينيث جريفين 238 مليون دولار العام الماضي لشراء شقة في نيويورك تطل على سنترال بارك، وهو يخطط للإقامة فيها عندما يصادف أن يكون في المدينة. وفي هذه الأثناء، هناك 10.9 مليون أسرة أمريكية لا تستطيع شراء شقة، فهم ينفقون أكثر من نصف دخلهم على الإيجار، وبالتالي يقلّ إنفاقهم على الطعام والرعاية الصحية. وفي كل ليلة، يوجد نصف مليون أمريكي مشرد.
وعلاوة على ذلك، فإن فرصة تحسن أوضاع أولئك الموجودين في القاع في انخفاض مستمر. ففي الوقت الذي يبلغ فيه الأمريكيون الذين ولدوا في عام 1940 عمر الثلاثين، كان أكثر من 90 في المئة منهم يكسبون أكثر مما كان يكسبه آباؤهم عندما كانوا في نفس العمر. ولكن من بين أولئك الذين ولدوا في عام 1980، نصفهم فقط يكسبون أكثر من والديهم في سن الثلاثين.
وتآكل الحلم الأمريكي ليس نتيجة الكسل أو جفاف المواهب، بل إنه نتيجة تلاشي الفرص. إذ من الصعب ارتقاء السلم الاقتصادي، إذ أن الدخل الحقيقي راكد منذ عقود من الزمن رغم ارتفاع تكاليف السكن والتعليم والرعاية الصحية. والعديد من الأمريكيين ذوي الدخل المنخفض يولدون في أحياء فقيرة ملوثة ليس فيها وظائف لائقة.
تقول ميلاني مارتن ليف التي تعمل في مجال التسويق في فيلادلفيا “كان والداي يمتلكان منزلاً في سن الأربعين، وكان لديهما طفلة – أنا – وكانا يُبليان بلاء جيداً في حياتهما المهنية. أما أنا فليس لدي وظيفة ثابتة، ولا منزل، ولا والدين، ولا أبناء.
وقد أصبحت عدم المساواة في الثروة عدم مساواة في الصحة. حيث يمكن للأمريكي في منتصف العمر الذي ينتمي للخُمس الأعلى من توزيع الدخل أن يتوقع أن يعيش حوالي 13 عاماً أكثر من شخص في نفس العمر ينتمي للخُمس الأدنى، وهي ميزة زادت بأكثر من الضعف منذ عام 1980.
وقد ازدادت صعوبة عكس اتجاه هذه التغيرات لأن توزيع السلطة السياسية غير متكافئ على نحو متزايد. ونظامنا الديمقراطي يرزح تحت الضغط لأن أصحاب الثروات باتوا يشكلون مسار صنع السياسة بصورة متزايدة، ويتصرفون وفق مصلحتهم الذاتية، وربما يرجع ذلك أيضاً لأنه أصبح من الصعب تصور الحياة على الجانب الآخر من الانقسام أو تصميم السياسة من أجل المصلحة العامة.
والأثرياء ناجحون بشكل خاص في منع التغييرات التي لا تعجبهم. وقد حسب العالمان السياسيان مارتن غيلنز من جامعة برينستون وبنجامين بيج من جامعة نورثويسترن أنه بين عامي 1981 و 2002، أقرت السياسات التي يدعمها 80 في المئة على الأقل من الناخبين الأثرياء في حوالي 45 في المئة من الحالات، في حين أن السياسات التي عارضها ما لا يقل عن 80 في المئة من هؤلاء الناخبين أقرت بنسبة 18% فقط من الحالات. والأهم من ذلك أن آراء الناخبين الفقراء والطبقة المتوسطة لم يكن لها تأثير يذكر.
وهشاشة مجتمعنا وحكومتنا هي نتاج قرارات مدروسة. فقد بُنيت دولة الرفاهية الحديثة على ثلاث موجات عظيمة: من خلال التشريع التقدمي في أوائل القرن العشرين، ومن خلال صفقة روزفلت الجديدة، ومن خلال مجتمع الرئيس جونسون العظيم الذي أنشأ برامج بما فيها ميديكير وميديكايد وهيد ستارت.
جسدت هذه السياسات مفهوماً واسعاً ومتيناً للحرية: بأنه يجب على الحكومة أن توفر لجميع الأمريكيين الحرية التي تأتي من حياة مستقرة ومزدهرة.
وخاطب روزفلت الأمة عام 1944 قائلاً “لقد توصلنا إلى إدراك واضح لحقيقة أن الحرية الفردية الحقيقية لا يمكن أن توجد بدون الأمن والاستقلال الاقتصادي”.
بالطبع، لم يتحقق الهدف بالكامل أبداً، ولكن الحكومة الفيدرالية تخلت عن محاولة تحقيقه إلى حد كبير منذ أواخر الستينيات. كان الاتجاه المحدد في السياسة العامة الأمريكية هو تقليص دور الحكومة بصفتها ضامن الحرية الشخصية.
ويدّعي مؤيدو التصور الأدنوي للحكومة أنهم مدافعون عن الحرية. لكن تعريفهم للحرية يُعدّ تعريفاً ضيقاً وسلبياً: التحرر من الواجب المدني، ومن الالتزام المتبادل، ومن الضرائب. وهذه النظرة العاجزة للحرية تحمي في الواقع الثروة والامتياز، وأدامت عدم المساواة العرقية في للأمة، وأبقت الفقراء محاصرين في الفقر هم وأبناؤهم وأبناء أبنائهم.
وكان أحد أهم جوانب هذا التراجع هو دور الحكومة في بناء مشهد سكني جديد للمجتمعات المنعزلة اقتصادياً وعرقياً. إذ بنت الحكومة طرقاً سريعة تنقل عائلات البيض إلى أحياء جديدة في الضواحي، حيث لا يُسمح للأقليات بالعيش فيها في كثير من الأحيان؛ وقدمت قروض الرهن العقاري التي لم يُسمح للأقليات بالحصول عليها؛ وحتى بعد إعلان أن التمييز غير قانوني، استمرت قوانين تقسيم الأسرة الواحدة في استبعاد الأسر ذات الدخل المنخفض، لاسيما إذا كانت من الأقليات.
وربط صانعو السياسات تمويل للخدمات العامة بازدهار المجتمعات الجديدة، وباركت المحكمة العليا تلك الممارسة في حكمها الصادر عام 1973 في قضية مقاطعة سان أنطونيو المستقلة للمدارس ضد رودريغيز، الذي سمح بالاختلافات في تمويل المدارس على أساس الاختلافات في قيم العقارات المحلية. فكان تأثير ذلك هو أن حل الفصل الاقتصادي محل الفصل العنصري الصريح.
وبالمثل، مكّنت الحكومة الانقسامات المتزايدة في مكان العمل. فمع تحول الاقتصاد من التصنيع إلى الخدمات، قاومت الشركات -بمساعدة الكونغرس والمشرعين المحليين- بنجاح قيام نقابات للوظائف الجديدة. رفضت الحكومة أن تحل محل التنظيم العمالي في حماية العاملين في القطاعات المزدهرة مثل تجارة التجزئة والرعاية الصحية.
ولم يكن مطلوباً من الشركات تقديم المزايا الأساسية للموظفين، مثل الإجازة مدفوعة الأجر، ومُنحت مطلق الحرية للادعاء بأن العديد من الموظفين الذين يعملون بدوام كامل هم في الحقيقة متعاقدين. والقوة الشرائية للحد الأدنى للأجور آخذة في الانخفاض منذ عام 1968.
كما أضر تحول سلوك الشركات بالعمال. حيث احتشد العديد من قادة الأعمال حول مفهوم ضيق لمسؤولية الشركات، بحجة أن الالتزام الوحيد للشركة هو تحقيق أكبر من العوائد لصالح المساهمين. ودعم صانعو السياسة هذا التحول، لا سيما من خلال كتابة هذا التعريف الضيق في قوانين ولاية ديلاوير، حيث أقامت العديد من الشركات الكبيرة مقراتها الرسمية.
وكانت النتائج واضحة بما فيه الكفاية: ارتفعت رواتب المديرين التنفيذيين ارتفاعاً هائلاً، وتمتع المساهمون بارتفاع أسعار الأسهم، حتى وقت قريب على الأقل، في حين أن معظم العمال لم يواكبوا ذلك. فلو أن دخل الفرد يكان واكب النمو الاقتصادي الإجمالي منذ عام 1970، فإن الأمريكيين الموجودين في 90 في المئة الدنيا من توزيع الدخل سيحصلون في المتوسط على 12 ألف دولار إضافية سنوياً, ولكن على أرض الواقع، تعني الزيادة الكبيرة في عدم المساواة أن كل عامل في 90 في المئة الدنيا من توزيع الدخل يقدم سنوياً شيكاً بقيمة 12 ألف دولار إلى عامل في الـ 10 في المئة العليا.
وكان التصوير المثالي للعمل الفردي في السوق المفتوحة صورة مقابلة في تشويه العمل الجماعي من خلال الحكومة.
إذ لا تضمن الولايات المتحدة توفير مساكن ميسورة التكلفة لمواطنيها مثلما تفعل معظم الدول المتقدمة، ولا تضمن الوصول الموثوق إلى الرعاية الصحية كما هو الحال في كل الدولة المتقدمة الأخرى، وتكلفة التعليم الجامعي في الولايات المتحدة تُعدّ من بين أعلى التكاليف في العالم المتقدم. وبعيداً عن الطبيعة الشائكة لشبكة الأمان الأمريكية، انسحبت الحكومة من الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والبحث العلمي الأساسي، وهي اللبنات الأساسية للازدهار في المستقبل. لذا ليس من المستغرب أن الكثير من الأمريكيين فقدوا الثقة في الحكومة باعتبارها وسيلة لتحقيق الأشياء التي لا نستطيع تحقيقها بمفردنا.
وتظهر التراتبية في الأمة بصورة واضحة في أوقات الأزمات. حيث تطلبت جائحة فيروس كورونا تضحيات استثنائية، لكن توزيعها غير متكافئ إلى حد بعيد.
وقد حجز الأثرياء والمشاهير وأصحاب النفوذ السياسي قوارب النجاة المتاحة: فقد أمّن السيناتور ريتشارد بور من نورث كارولينا والسيناتولا كيلي لوفلر من جورجيا على ثروتهما الخاصة من خلال بيع حيازاتهما من الأسهم مع انتشار الفيروس في يناير وفبراير، رغم أنهما كانا يطمئنان الأمة بأن كل شيء سيكون على ما يرام؛ ونشر الملياردير ديفيد جيفن على إنستغرام أنه يخطط للتغلب على الأزمة على متن يخته “رايزينغ صن” البالغ طوله 454 قدماً، وقال معلقاً “آمل أن يبقى الجميع في أمان”؛ كما نجحت الشركات الكبيرة في الضغط ضد اقتراح لتوفير إجازة مرضية مدفوعة الأجر لكل العمال الأمريكيين، محتجين بعدم قدرتهم على تحمل التكلفة.
وسيتحمل الأمريكيون الأقل ثراء العبء الأكبر في الصحة والثروة. فهم يعانون بالفعل من أمراض العمل، مثل الرئة المتفحمة وورم الظهارة المتوسطة؛ وأمراض الفقر مثل السمنة والسكري؛ ووباء الأفيون الذي انتشر في المجتمعات ذات الفرص القليلة. ووفقاً لأحد التقديرات، فإن هذه الأنماط من سوء الصحة تعني أن من هم في أسفل نطاق الدخل أكثر عرضة للوفاة بمرتين جراء كوفيد 19. والكثيرون يخسرون وظائفهم؛ وأولئك الذين لا يزالون يعملون لا يمكنهم بشكل عام القيام بذلك من أمان أريكة غرفة المعيشة، وهم يخاطرون بالموت مقابل الحصول على ضروريات الحياة.
أما الأطفال، الذين هم في مأمن نسبياً من فيروس كورونا بحد ذاته، فيرزحون تحت خطر تداعياته الاقتصادية. وبما أن المدارس العامة تُعدّ واحدة من أكبر قوى المساواة في الحياة الأمريكية، فإن التحول إلى التعلم عبر الإنترنت يعني أن عدم المساواة بات أكثر أهمية. إذ أن ملايين الأطفال يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الإنترنت بشكل يمكن الاعتماد عليه. فقد وجد مدير مدرسة ثانوية في فينيكس ثلاثة طلاب مجتمعين تحت بطانية مبنى المدرسة في يوم ممطر، وذلك لكي يستخدموا شبكتها اللاسلكية لإكمال واجباتهم المدرسية المطلوبة لأنهم لم يتمكنوا من الولوج إلى الإنترنت في منازلهم.
وتُظهر الدراسات أن الصدمات الاقتصادية في الطفولة لها آثار طويلة الأمد. حيث أن الأطفال الذين يخسر آباؤهم عملهم، على سبيل المثال، ينتهي بهم الأمر إلى الحصول على دخل أقل طوال حياتهم.
كما كشفت الأزمة أيضاً عن افتقار الحكومة الفيدرالية إلى الموارد والكفاءة والطموح، حيث فشلت في احتواء الفيروس من خلال برنامج الاختبار والحجر الصحي المستهدف؛ وهي تعاني من أجل تزويد الولايات بالمعدات الطبية اللازمة لمساعدة الذين يصابون بالمرض؛ وبدلاً من التحرك بقوة أكبر لاحتواء الضرر الاقتصادي، سمحت الحكومة الفيدرالية للشركات بتسريح ملايين العمال. ومن المرجح أن يكون معدل البطالة في الولايات المتحدة قد وصل بالفعل إلى أعلى مستوى له منذ الكساد العظيم.
أحد الأسباب الرئيسية للاستجابة المتعثرة هو التوقع الواهم بأن الأسواق ستؤدي عمل الحكومة، فرفض البيت الأبيض تفويض إنتاج الإمدادات الطبية الحيوية أو تنسيقه. وبالفعل، قدمت الحكومة الفيدرالية عروضاً ضد الولايات للإمدادات المتاحة وشجعت الولايات على تقديم عروض ضد بعضها البعض. وهذا احتضان للأسواق لدرجة قد تبدو هزلية لولا أنها تؤدي إلى وفيات كان يمكن تجنبها.
ومن المؤكد أن الإجراءات التي تتخذها الشركات والعمل الخيري لهما دورهما، لا سيما على المدى القصير، نظراً لقيادة الرئيس ترامب المتعثرة والوضع المتعثر للحكومة التي يرأسها، لكنها تُعدّ بدائل فقيرة للإدارة الفعالة من المؤسسات العامة. وما تحتاجه أمريكا هو حكومة عادلة وناشطة، فطبيعة الديمقراطية هي أننا مسؤولون معاً عن إنقاذ أنفسنا.
ويحتاج الأمريكيون إلى استعادة التفاؤل الذي غالباً ما كان يضيء الطريق إلى الأمام.
وتتيح بوتقة الأزمة الفرصة لبناء مجتمع أفضل، لكن الأزمة نفسها لا تؤدي هذا الغرض. فالأزمات تكشف المشكلات، لكنها لا تقدم البدائل، ناهيك عن الإرادة السياسية. والتغيير يتطلب الأفكار والقيادة، فغالباً ما تمر الدول بنفس أنواع الأزمات بصورة متكررة، إما لأنها غير قادرة على تخيل مسار مختلف أو غير راغبة في اتباعه.
وغالباً ما تحدث أسوأ الأزمات في ظل قيادة ضعيفة؛ وهذا جزء كبير من كيفية خروج المشكلة الأولية عن السيطرة. فقد كان لدى الأمريكيين كل الأسباب لليأس من قدرة الرئيس جيمس بوكانان على قيادة الأمة من خلال حرب أهلية، أو من قدرة الرئيس هربرت هوفر على قيادة الأمة للخروج من الكساد الكبير. والآن، كما في ذلك الوقت، البلاد مثقلة بالقيادة الضعيفة، وأمامها فرصة تغيير تلك القيادة مثلما فعلت في عامي 1860 و1932.
وهناك أيضاً حاجة لأفكار جديدة، وإحياء الأفكار القديمة، حول ما تدين به الحكومة لمواطني الأمة، وما تدين به الشركات للموظفين، وما ندين به لبعضنا البعض.
ومقياس استجابة الحكومة للأزمة الذي بلغ عدة تريليونات من الدولارات، رغم كل عيوبها وأوجه قصورها، يذكّرنا بقوة بأنه لا بديل عن دولة ناشطة. وقد لاحظ العالم السياسي فرانسيس فوكوياما أن الدول التي تتغلب على جائحة فيروس كورونا على أفضل وجه هي دول مثل سنغافورة وألمانيا، حيث توجد ثقة كبيرة بالحكومة، وحيث تستحق الدولة هذه الثقة. ويتمثل جزء مهم من مشروع إعادة بناء أمريكا بعد الأزمة في استعادة فعالية الحكومة وإعادة بناء ثقة الجمهور بها.
وسيكون إجراء استثمار كبير في الصحة العامة مكاناً مناسباً للبدء.
لكن المشروع الأكبر هو زيادة قدرة المجتمع الأمريكي على الصمود. فقد أعطت أجيال من صانعي السياسة الفدرالية الأولوية لتحقيق النمو الاقتصادي مع اعتبار ضئيل للاستقرار أو التوزيع. وتتطلب هذه اللحظة استعادة الالتزام الوطني بمفهوم أكثر ثراء للحرية: الأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص. لهذا السبب ستنشر مقالات الرأي هذا المشروع على مدار الشهرين المقبلين، بهدف وضع تصور لكيفية تحويل أمريكا التي لدينا إلى أمريكا التي نحتاجها.
كتب لينكولن للكونغرس في 4 يوليو 1861 إن الغرض من الحكومة الفيدرالية كان “تحسين أوضاع الرجال، ورفع الأعباء الاصطناعية عن جميع الأكتاف، وإعطاء الجميع بداية غير مقيدة وفرصة عادلة في سباق الحياة”. وقد كان قانون الحيازة الزراعية على وجه التحديد خطوة ملموسة في هذا الاتجاه: حيث جرى توزيع 10 في المئة من جميع الأراضي في الولايات المتحدة في نهاية المطاف في قطع بمساحة 160 فداناً. لكن مفهوم لينكولن عن “الجميع” لم يشمل الجميع: حيث استند قانون الحيازة الزراعية على استملاك أراضي الأمريكيين الأصليين.
كان روزفلت يشارك لينكولن رؤيته للحكومة، لكن الصناعة حلت محل الزراعة باعتبارها منبع الرخاء، لذلك ركز على ضمان توزيع أكثر إنصافاً لمخرجات التصنيع في البلاد، على الرغم من معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي كمواطنين من الدرجة الثانية في العديد من برامج الصفقة الجديدة.
وتحتاج الولايات المتحدة اليوم إلى إجراءات جديدة لإشراك جميع الأمريكيين في الاقتصاد الحديث.
ومن أجل منح الأمريكيين فرصة عادلة في سباق الحياة، يجب على الحكومة أن تبدأ من المنشأ. إذ يجب على الولايات المتحدة استعادة الحقيقة الجوهرية لقرار المحكمة العليا الأصلي في قضية براون ضد مجلس التعليم: طالما هناك فصل بين الأميركيين، فإن فرصهم لن تكون متكافئة أبداً. ومن أهم الخطوات التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة لضمان حصول جميع الأطفال على فرصة للازدهار هي هدم الأنماط الراسخة للفصل العنصري والاقتصادي. وتعد قوانين المناطق التي تحد من التنمية السكنية في المناطق التي توجد فيها وظائف جيدة بكثرة واحدة من أهم العوائق البنيوية أمام دولة أكثر تكاملاً.
وخلال هذا المشروع، سندرس طرقاً أخرى لتحقيق تكافؤ الفرص في وقت مبكر من الحياة، وأيضاً لاستعادة توازن القوى بين أرباب العمل والعمال بصورة أفضل.
وأحد أوضح الدروس التي تقدمها الجائحة هو أن العديد من أرباب العمل لا يشعرون إلا بالقليل من الالتزام في حماية صحة عمالهم ورفاهيتهم، ولم يُترك للعمال سوى وسائل قليلة للتنظيم أو المقاومة. حيث طردت شركة أمازون، وهي واحدة من أكبر أرباب العمل في البلاد، أحد العمال بسبب احتجاجه على شروط السلامة في مخازن الشركة على أساس أورويلي بأن احتجاجه في حد ذاته يمثل خطراً على السلامة. كما أمر أحد المديرين في مركز الاتصال بشركة أولين الموظفين بعدم إخبار زملائهم إذا لم يكونوا على ما يرام لأن ذلك قد يسبب “حالة غير ضرورية من الذعر”.
كما أن شبكة الأمان الاجتماعي البالية في البلاد بحاجة ماسة إلى التعزيز. إذ يحتاج الأمريكيون إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية بشكل موثوق، ويحتاج الأمريكيون إلى خيارات ميسورة لرعاية الأطفال وكبار السن في عائلاتهم، وهي أزمة متنامية في دولة تعاني من الشيخوخة. ولا ينبغي لأحد أن يجوع، لا سيما الأطفال، والجميع يستحق مكاناً يدعوه المنزل.
وقبل أكثر من عشر سنوات بقليل، عاش الأمريكيون نوعاً مختلفاً جداً من الأزمات -الانهيار المالي- الذي كشف عن أوجه ضعف مماثلة في المجتمع الأمريكي، وكانت استجابة الحكومة غير كافية. وكانت البلاد لا تزال في طور التعافي عندما وصل فيروس كورونا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن التعافي جاء ببطء شديد، حيث فشل الزعماء السياسيون في أمريكا في الاستفادة من السنوات الماضية للتحضير لحتمية الوقوع في اختبارات جديدة.
لا تستطيع الأمة تحمل تكرار ذلك الأداء، خاصة وأن التحديات الأخرى التي تواجه مجتمعنا تلوح في الأفق، وأهمها ضرورة إبطاء الاحتباس الحراري.
أمام الولايات المتحدة فرصة للخروج من هذه الأزمة كدولة أقوى وأكثر عدلاً وحرية وأكثر قدرة على الصمود، ويجب أن نغتنم هذه الفرصة.