بقلم: سامي كليب
الشرق اليوم- كنّا نسير في عصر التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي العابر للقارات، صوب اختراع عالمٍ وهمي، تكثُر فيه العلاقات الافتراضية وتقلُّ المحبّة. تتوسّع معه شبكات الصداقات الالكترونية وتزداد الوحدة. تتعدّد عبره وسائل الاغراء الجسدي ويموت الحب. تفرّخ من خلاله التعاويذ والمواعظ والفتاوى والعظات والصلوات والقداديس، وينهزم الايمان. تتبارز فيه العضلات الذكورية المفتولة والأجساد الانثوية الممشوقة، وتندر الرجولة الحقيقية والانوثة الطبيعية. تنتشر على صفحاته الحِكم والأمثلة والعِبّر، وتنعدم الأخلاق.
جاء كورونا فايروس ليصفعنا حتى نستفيق. كنّا كما النائم يسير في المنام. جاء الوباءُ القاتل يُعيدنا الى الواقع، فانتبهنا أننا فقدنا كل أشيائنا الصغيرة التي نحب، وتعلّقنا بحبال الوهم، واخترعنا لعزلتنا قفصا الكترونيا وهميا، صرنا عبيدا له، ففقدنا القدرة على التحكم به وبذواتنا.
قال لي أخي الصغير:” اخرج الى الشرفة كي أراك ولو من بعيد”. هو أصغر اخوتي وبمثابة ابني. تربطني به عاطفة تختزل موروث أجيال من الحب. فقدنا والدنا وكان في ربيع الطفولة، لكن الله وفّقه حتى حصل على درجة علمية عالية ووظيفة عالية أيضا، لا يناقضها غير تواضعه ومحبته للناس البسطاء. اقترح عليّ قبل أيام أن نذهب سويا الى قريتنا الجميلة في أعالي جبل لبنان. أرادني أن اشاركه متعة السير في البراري، وجمعِ حشائش صحية قابلة للأكل (العكّوب، والقرصعنة المعروفة أيضا باسم الشنداب أو شويكة إبراهيم، المشّي.. وغيرها). قالها وهو يعرف جوابي سلفا، فانا لستُ من المغرمين بالاستيقاظ باكرا. أفضّل العمل طيلة الليلة، على أن أقوم الفجر او الصباح. ضحكنا على الهاتف. وذهب لوحده الى تلك البراري الكريمة المعطاءة الوفيّة التي ما تركتنا يوما بحاجة لشيء ونحن لم نعطها شيئا، غير بعض حب.
تخيلتُ اخي يشمُّ نسيمَ الفجر وهو يصعد مشيّا صوب قمة الجبل. نتشارك حب الطبيعة ونختلف بشأن الاستيقاظ باكرا. تخيّلته يمسحُ عرقه عن جبينه الطاهر، ويجلس الى جانب نبعة المياه التي تصبُّ في أرضنا، يفتح راحة كفه، ويغرف منها المياه الصافية الباردة ويشرب حتى يرتوي، بينما الضفادع تقفز حوله من مكان الى آخر. عندنا الماء تضيع، ونحن نشتريها في بيروت. يحبُّ أخي اقتلاع تلك الحشائش كلّما تيّسر له بعض وقت بين مهامه الإدارية والأكاديمية الكثيرة. يُلامسها برفق، يزيح التراب من حولها، تنساب اليه رائحة التراب وأريج العشب .يختار منها الأكثر طراوة دون ان يؤذي باقي جسدها، تنساب الشمس الى مسام جسده تُدفئه في هذه الأيام الربيعية التي غالبا ما تحمل الينا شعورين، أولهما جمال وبهاء ما خلق الله، وثانيهما تاريخ جرحنا الغائر منذ وفاة أمِّنا.
جمع ما طاب له من خير الأرض. عاد الى المنزل. زيّن مع اخوتي طاولة الغداء بخضرة الأرض وكرمها وبهائها. وعلى عادة اخوتي، فهم لا يأكلون شيئا دون ان نتقاسمه جميعا. أنعم الله علينا بحبّ قلّ نظيره، وزرع أهلُنا فينا ذاك الموروث الهائل من الحب والحنان والتعاضد، فأحببنا الحياة أكثر، وتغلّبنا على الكثير من مصاعبها.
نزل أخي الى بيروت حاملا معه باقات من نعيم الأرض وخيراتها. أضاف اليها فواكه اشتراها من الباعة الأصيلين أبناء الأرض الجبلة الطيبة وبعض أكلات شهية من يدي اختي. وكان أخي الآخر قد سبقه اليّ بالخبز وبعض الطبخات المنزلية. المأكول في بلادي لا يزال تعبيرا عن الحب بشكل آخر. هم يعرفون ان عندي كل شيء، والحمد لله، لكن هذا أيضا شكل من أشكل التعبير عما في قلوبهم الطيبة الصافية.
وصل الى تحت شرفة بيتي، وقال لي:” اخرج الى الشرفة كي أراك ولو من بعيد”. أخاف عليه منّي، ولا أخاف منه. ليست عندي أي عوارض مريبة، ولا ارتفاع حرارة، ولا أي شكل من تلك الاشكال البشعة التي نثرها الوباء، لكني أخاف عليه، كما خفت عليه طيلة حياتي. فضّلتُ ان اراه من بعيد. هذه المرة الاولى في حياتي التي أعجز فيها عن تقبيله واحتضانه. لا بأس. فهذا وعلى قساوته، يبقى أقل وطأة من احتمال نقل أي عدوى اليه. مستحيل أن احتمل ذلك لا سمح الله لو حصل.
نظرت اليه وهو يصعد بجسده الرياضي الجميل وضحكته التي ما غادرتها الطفولة يوما، الى سيارته ويبتعد. بقيت واقفا عند نافذة شرفتي. كان بعض النسيم الساخن يلفح وجهي قليلا، والستائر تتلاعب حول جسدي كأنها هي أيضا ملّت الحجر. أو هكذا شعرت. لعل وجهي احتاج الى هذا النسيم كي اعوّض قبلة أخي. لعليّ انتبهت الى حجم الحنان الذي كنا ننعم به ولم ننتبه.
السعادة هي مجموعة تفاصيل يومية صغيرة. هي أن تذهب الى قريتك وتنعم بجمال الأرض والشجر والزهر. هي أن تقبّل اخوتك وتتضاحك واياهم. هي أن تصبّح بالخير على الجيران وتشارك بعضهم قهوتهم الطازجة ورغيف الخبز الخارج لتوّه من على الصاج. هي أن تشتري وردا من عند الشيخ في طريق القرية وتنثره على قبر والديك. هي أن تتنفس ملء الرئتين وتنعم بالشمس. هي ان تلامس شعر ابن الناطور وهو يلعب على دراجته الصغيرة في دار البناية ويضحك. هي ان تلاقي أصدقاء العمر في مقهى وتتحادثون. هي أن تفتح كتابا أو تسمع موسيقى او تسير عند البحر وفي الطبيعة وتشكر الله على نعمه….
صفعنا الوباء، وكنّا نستحق الصفعة كي ننتبه الى كل هذا النعيم الذي نحن فيه وعنه غافلون. يمضي الانسان حياته في رحلة البحث عن الذات. يكفر بالحياة عند أول عقبة. يلعن الجغرافيا والتاريخ مع أول وجع رأس. يسابق التكنولوجيا للوصول الى مبتغاه، وكلما وصل، أراد المزيد. صفعنا الوباء، فانتبهنا الى أن الطريق قد تكون أجمل من الوصول شرط ان نتابع المسير. صفعنا، فانتبهنا الى اننا حين نتوقف، تنتهي الدهشة، ويخبو وهج الحياة.
نسير في هذه الحياة باحثين عن الوهم وننسى السعادة البسيطة. نمارس في وهم الحب أفعال البطولة وننسى حقيقة الحب وبساطته وعمقه. ننشد كل عظيم وكبير في طريق المجد الباطل، بينما سعادتنا تكمن في كل بسيط في طريق التواضع. نضيع في دهاليز الشبكات الالكترونية بحثا عن فرح وهمي، بينما الغابات حاضرة بأشجارها الغنّاء النبيلة لتهدينا فرح الروح وطمأنينة السريرة وبهجة القلب.
نشتاق لكل شيء في زمن الحجر. نرسم مشاريع من نور وفرح لما بعد الوباء. نتمسك بحبال الأمل بأننا يوما سنخرج من هذا النفق لنستعيد وهج الشمس وضوء القمر. نتأكد بأن حياتنا بعد الوباء، لن تكون حتما كما قبلها، فالفرح سيكون له طعم آخر، لعلّنا سنستعيد حقيقتنا التي كادت تضيع، فبين صحن سلطة من عشب الأرض، وبين الكومبيوتر الذي اكتب عليه رسالتي هذه، أرى خضرة الأرض أجمل ورائحة العشب تملأ الرئتين لتهزم الكورونا والحب الافتراضي.