بقلم: د .جواد الهنداوي
الشرق اليوم- ممكن أن يكون عنوان المقال، والذي وردَ وبصيغة سؤال على النحو التالي : هل قيام السيد رئيس الجمهورية بترشيح السيد الزُرفي لموقع رئاسة الوزراء، دون التشاور مع مجلس النواب أو دون موافقة مجلس النواب او موافقة الكتلة الأكبر في مجلس النواب هو إجراء دستوري؟ وهل أنَّ قرار المحكمة الاتحادية المرقم 29 في 16-3-2020 ، والذي أسّسَ لرئيس الجمهورية صلاحية ترشيح شخص لرئاسة الوزراء ، وفقاً للمادة 76 ثالثاً من الدستور ، صحيح دستورياً؟
درجَ مفكري و فقهاء القانون على تفسير النص القانوني ، حين يكتنفهِ الغموض او الصمتْ ازاء حالة معينة ، الى معياريّن : الى لغة النص والى روح او جوهر النص .هذا ما تعلمناه ، خلال اكثر من عشرين عاماً في دراسة وتدريس القانون في الجامعات الفرنسية .
لغة النص في مفرداتها تُسعفنا احياناً بحسن التفسير واستنباط الحلْ ، و تواتر القرائن اللغوية كمفردات و كقواعد تُعيننا أيضاً .
نستدلُ على روح النص او جوهره من خلال إرادة المشّرع عند صياغته للنص ، من خلال محاضر النقاش و مسودات النقاش التي دارت بين اعضاء لجنة مشرعي النص .ماذا كانوا يقصدون ؟ ماذا كانت تتجه نيتّهم ،عندما حررّوا هذا النص ؟ ليس فقط في الدين تُقاس الأعمال في النيّات ، وانما في القانون أيضاً !
احياناً تفشل صياغة النص في عرض و تقرير ما ارادتهُ نيّة واضعي النص ، وقت صياغتهم للنص . و احياناً ايضاً ، وبالرغم وضوح النص ومعرفة مَنْ يتولى تفسير النص بالنيّة المقصودة من النص ،يجتهد البعض و بعيداً عن هذه المعايير ، لإدلاء تفسير لايقصده النص ،بل مُخالفاً الى النص .
للإنكليز مقولة ،يتداولها الفرنسيون المولعون في الاجتهاد و التفسير في القانون ،مفادها ( مفاد المقولة ) : القانون ، احياناً ، ” حمار ولكن العبرة بمن يقوده ” .
اعودُ الآن الى صُلب الموضوع .
ابدأ في الاستدلال بلغة النص ،المادة ٧٦ اولاً من الدستور الاتحادي العراقي تنصُ على قيام السيد ر . الجمهورية بتكليف مُرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً ،بتشكيل مجلس الوزراء …
الفقرة ثالثاً من ذات المادة تؤكد على مهمة السيد رئيس الجمهورية في التكليف عند فشل المُرشّح في مهمتهِ .
الفقرة خامساً من ذات المادة تؤكد ايضاً على مهمة السيد رئيس الجمهورية في التكليف عند فشل أالمُرشّح في مهمته . نصّ هذه الفقرة يستخدم مفردة ” يتولى” علاوة على مفردتيّ التكليف و الترشيح الواردتين في الفقرة اولاً و ثالثاً من المادة ٧٦ مِنْ الدستور .
نستنتج وبوضوح من السياق اللغوي للمادة بفقراتها ، بأنَّ مهمة رئيس الجمهورية هو تكليف ” مُرشّح” . وهذا المُرشح هو ، كما جاء في نص الفقرة اولاً من المادة ٧٦ ، مُرشّح الكتلة الأكثر عدداً .اي ان اجراء السيد رئيس الجمهورية وهو التكليف يأتي بعد ان يتم ترشيح نيابي لشخص رئيس الوزراء .
مفردة ” مُرشّح ” وردت في جميع الفقرات المعنية و جاءت بعد مفردة ” تكليف ” .
مَنْ صاغ المادة ٧٦ تجّنبَ ربما تكرار عبارة ” الكتلة النيابية الأكثر عدداً ” واختزلها بمفردة ” مُرشّح ” في الفقرتيّن التاليتّن (ثالثاً و خامسا) للفقرة اولاً والتي جاءت دالة وتفصيلية وعنوان يُهتدى بها في تفسير ما تبقى من فقرات تلتها في المادة ٧٦. وعندما نقول ” مُرشّح ” يعني ذلك ان جهة ما قامت بالترشيح .
ولو كانت نيّتنا، عند صياغة هذه المادة ، هو إعطاء حق الترشيح لرئيس الجمهورية ،لكانت صياغة الفقرة ، خامساً والتي استندت بموجبها المحكمة الاتحادية في قرارها المشار اليه اعلاة ،على النحو التالي ” يتولى رئيس الجمهورية تكليف مَنْ يرشحّه لرئاسة الوزراء ” .
أستمّرُ الآن في الاستدلال بروح ،بجوهر النص ،بما كانت عليه نيّتنا عند وضع الدستور ، و إنْ تعّذر قراءة النيّات ، الشرح التالي سيكون وافياً .
لا أحد يشكُ في أنَّ الدستور أكرم رئيس الجمهورية بموقع بروتوكولي و بصلاحيات بروتوكولية ، وليست سياسية . لنتفحصّ المادة ٧٣ مِنْ الدستور والتي عّرفت و حددّت حصراً صلاحيات رئيس الجمهورية . لا نجدُ في المادة نصاً او إشارة الى حق لرئيس الجمهورية بترشيح شخصاً الى موقع رئيس الوزراء .
لو كانت نيّتنا ان يكون لرئيس الجمهورية صلاحية سياسية مهمة لهذا القدر ( وهي تكليف وترشيح رئيساً للوزراء دون الرجوع الى مجلس النواب او ترشيح رئيس وزراء استثناءاً من احكام المادة ٧٦ ) ، لذُكرتْ نصاً في المادة ٧٣ ، وهي المادة التي تُعّرف و تحدّد صلاحيات رئيس الوزراء !
تفسير المحكمة الاتحادية يفتقرُ الى الأساس القانوني و يخالف نصوص الدستور ( المادة ٧٣ ) ، ويمنح رئيس الجمهورية صلاحية سياسية مهمة ،تعمّد الدستور بحجبها عنه . مُهمات رئيس الجمهورية لا يمكن ان تتجاوز ماوردَ في المادة ٧٣ .
مع الإشارة الى انَّ المادة ٧٦ هي تحت عنوان صلاحيات رئيس الوزراء وليس صلاحيات رئيس الجمهورية .
لا أحد من العامة ( عامة الناس ) ،يجهل بان النظام السياسي في العراق هو برلماني ( وانا اسميه مجلسي وليس برلماني لأسباب عديدة منها عدم وجود غرفة ثانية بعد مجلس النواب ،نظرياً مجلس الاتحاد ) ،
تتم تسمية رئيس الجمهورية و رئيس مجلس النواب من رحم مجلس النواب وبالتوافق وبالتراضي ، وعملية التوافق والتراضي تتم قبل التكليف والتسمية .هل يصبح من المعقول منطقياً والمقبول دستوريًا ،و وفقاً لروح الدستور الذي وضعَ النظام السياسي البرلماني ، أن يتم تكليف وتسمية مرشح لرئيس الوزراء في غياب تشاور وتوافق مع مجلس النواب ؟
محكمتنا الاتحادية الموقّرة لا تجهل أبداً بان نظامنا السياسي هو برلماني ومنصب رئيس الوزراء يعود في ترشيحه ومنحه الثقة الى مجلس النواب ،والى المكّون الشيعي حصراً .بخلاف ذلك سنكون امام نظام شبه رئاسي او رئاسي .
قرار المحكمة الدستورية سابقة قضائية غير موفقّة ، و يؤسس ( واقصد القرار ) ،إنْ لم يتم الغاءه ، الى تطبيق مخالف لنصوص الدستور و مخالف لجوهر و روح الدستور المتمثل بنظام برلماني و بصلاحيات بروتوكولية غير سياسية للسيد رئيس الجمهورية .
قد يقود هذا التطبيق في المستقبل ، اذا بقيَّ و تكرر ، ( و ما أقوله افتراض ) ، الى عدم تردّد رئيس الجمهورية الى ترشيح شخصية لرئيس الوزراء من غير المكون الشيعي ،ايّ خارج ما معمول به ضمناً في توزيع السلطات الدستورية ( رئاسة الجمهورية ،رئاسة مجلس النواب ،رئاسة مجلس الوزراء ) ، و حُجتهُ ،آنذاك ، هو لا يوجد نص دستوري يحُول دون ذلك .