بقلم: منقذ داغر
الشرق اليوم- قرأت الكثير من المقالات والتقارير خلال الايام الماضية عن تداعيات كورونا في دول العالم المختلفة. كما كنتُ جزءاً من الفريق الذي قام بأستطلاع رأي في حوالي 30 دولة مختلفة بضمنها العراق عن هذا الڤيروس الذي أصاب النظام العالمي(بكل أبعاده) إصابةً لا يعرف أحد مداها،لكنها بالتأكيد هائلة.
وكعادة معظم الناس فقد تباينت أحكامهم وردود أفعالهم تجاه هذه التداعيات تبعاً لما كانوا يؤمنون به أساساً من قيم وآراء سياسية. فالمتدينون رأوا فيما يحصل عقاباً الهياً لمن لا يؤمنون بما آمنوا هم به(سواء كانوا مسلمين او مسيحيين او يهود..الخ).فالتفسير الثنائي البسيط(نحن والآخر)مريح لكثير من العقول. أما أنصار الغرب والديمقراطية الليبرالية فقد وجدوا في ظهور الڤيروس في الصين فرصة للتدليل على صحة ما يؤمنون به من مُثُل جعلت الآخر المختلف عنهم سبباً في كل ما أصاب العالم من تداعيات كارثية. بالطبع فالمؤمنين بمحور المقاومة ضد الشيطان الأكبر لم يفوتوا هذه الفرصة للتدليل على سخافة وهزالة الحضارة الغربية الزائفة التي لم تتمكن من الصمود بوجه ڤايروس حقير!
كل التفسيرات ووجهات النظر بُنيت على جدلية بسيطة ومريحة للعقل مفادها مانؤمن به مقابل ما يؤمنون به!قليل هم من فكروا بالطريقة الأكثر تعقيداً أو ما أسميه بالنموذج الرباعي الذي تعلمته من بعض علوم الأدارة وصرت مغرماً بتطبيقه في السياسة والأجتماع.
الفرضية البسيطة التي انطلق منها ويعرفها الجميع أن التفاعلات الانسانية ليس فيها صح مطلق أو خطأ مطلق. فهي تمتد على مقياس بين الصح المطلق(الذي يصعب حصوله) والخطأ المطلق.بناءً عليه فأن أي ظاهرة تفاعل بين أثنين سواء كانا فردين او نظامين او فرد ونظام تحتمل:
١.ان يكون الاثنان على صواب.
٢.ان يكون الاثنان على مطأ.
٣.الاول صح (نسبياً)والثاني خطأ.
٤.الثاني صح(نسبياً) والأول خطأ.
طبعاً عندما أقول صح أو خطأ فالمسألة نسبية لأن الصح المطلق غير موجود سوى عند الآلهة والخطأ المطلق غير موجود الا في مفهوم الأبلسة الدينية.
بناءاً على هذا المدخل الرباعي في فهم الظواهر الانسانية يمكن تحليل تداعيات كورونا طبقاً للأنموذج المرسوم هنا والذي يعتمد فرضية أن تداعيات كورونا تعتمد(كما رأينا) على أستجابة النظامين الأجتماعيين الأساسيين في أي مجتمع وهما النظام الحكومي وثقافة المجتمع. وأن طريقة استجابة كل من هذين النظامين وتفاعلها مع الآخر هي من ستحكم نتائج تلك الاستجابة.
ففي الدول الآسيوية ذات الثقافة المحافظة والصلبة(tight culture ) كما تسميها البروفسور گيلفاند والتي تمتاز بأحترام وانصياع شديد للقواعد المجتمعية والقانونية (كالصين واليابان وسنغافورة)تمكنت من احتواء الجائحة بكفاءة وسرعة اكبر ليس فقط بسبب كفاءة حكوماتها(وهي كفوءة) بل بسبب الثقافة المجتمعية التي تحث على الاستجابة الطوعية الصارمة للقواعد المجتمعية ولأعراف المجموعة. فمن يكسر حظر التجول او يضر بالآخرين يتم تجريمه مجتمعيا قبل التجريم القانوني.كما أن تعود المجتمع على الانضباط يسهل من عمل الحكومة والاستجابة للمتخصصين.
أما على الطرف الآخر نجد دول أخرى كأيطاليا وأمريكا والتي تمتاز بثقافة مجتمعية مرنة أو غير شديدة(loose culture )أنتشر فيها الوباء بشدة ليس بسبب ضعف وبطء استجابة حكوماتها(وهي قد تكون كذلك) ولكن أيضاً بسبب طبيعة ثقافة المجتمع التي تشدد على الحرية الفردية ولاتهتم كثيراً بالقواعد المجتمعية الصارمة.لذا لم يكترث الايطاليون أو الأميركان(المحبين للحرية الفردية)للتحذيرات الصحية التي تقيد تلك الحريات.
هذا البعد الثقافي للمشكلة يتفاعل معه بعد آخر يتمثل بمدى كفاءة استجابة الحكومات للكارثة. وبحسب الأنموذج الذي أقترحه فأن أستجابة أي حكومة تتراوح بين استجابة جيدة(سريعة وحاسمة) مثل سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية والاردن،واستجابة بطيئة(كأمريكا) وغير حاسمة(كالعراق وبريطانيا). وهناك حكومات استجابتها لا سريعة ولا حاسمة مثل بيلاروسيا ومصر وسوريا .
طبقاً للانموذج المقترح فأن الوضع المثالي لتداعيات كورونا يحصل عندما يتصرف كل من النظام الاجتماعي والحكومي بطريقة جيدة(المربع الذي أسميته أزمة). حينذاك لن تعدو كورونا كونها أزمة عابرة يتم السيطرة عليها بسرعة. أما أسوأ وضع ممكن ان تواجهه أي دولة فهو عندما يستجيب كِلا النظامين بطريقة غير جيدة وغير كفوءة وهو يقع في المربع الذي أسميته(جائحة).هنا وكما حصل في أيران يُتوقع حصول نتائج كارثية بعيدة المدى نتيجة عدم التزام المجتمع من جهة وضعف إجراءات الحكومة من جهة أخرى. أما أذا كانت أستجابة الحكومة سريعة لكن المجتمع لم يستجب بذات السرعة والكفاءة(مربع الكارثة)فأن التداعيات الخطيرة الحاصلة هي في رأيي حتى أشد من تداعيات الحالة التي يكون فيها المجتمع منضبط والحكومة غير كفوءة(مربع المصيبة).
من وجهة نظري فأن ثقافة المجتمع وأنضباطه في الأستجابة لمثل هذا النوع من الأزمات أهم حتى من كفاءة الحكومة ومدى جودة نظامها الصحي. فلا يمكن تصميم أي نظام صحي دائم على فرضية ظهور وباء مثل كورونا. نعم يمكن وضع سيناريوهات للاستجابة لكن لا يمكن مثلاً استحداث مئات المستشفيات وتجهيزها بعشرات او مئات الالوف والابقاء عليها مدامة دوماً أنتظاراً لوقوع الأزمة! لذلك فأن الحديث عن أنهيار النظام الصحي الايطالي او البريطاني رغم أنهما من أفضل النظم الصحية في العالم هو حديث غير علمي ولا عملي.
من جهة أخرى فما أقوله هنا لايعني دفاعي أو تأييدي للمجتمعات التي تمتاز بثقافة محافظة أو ملتزِمة(tight) أو انتقاصي وانتقادي لتلك التي تمتاز بثقافة مرنة أو غير شديدة(loose). فالمجتمعات المرنة كما ترى گيلفاند هي مجتمعات أكثر حيوية وأبداع. لكنها أقل قدرة على مواجهة الأزمات.