بقلم: د. صلاح مهدي الفضلي
الشرق اليوم- الإمام موسى بن جعفر “عليه السلام”، والمسيرة الرسالية، الخط الرسالي الذي انتهج مخاضه أهل البيت عليهم السلام ورغم صعوباته الجسيمة والعوائد المريرة التي جنوها منه, هذا الخط مازال ماثلا أمامنا بكل فرضياته, وانتكاسة الخط المقابل تبدو واضحة في مسارها الدنيوي.
الدنيا هذه الدنيا التي يعبر عنها علي عليه السلام ( في حرامها عقاب وفي حلالها حساب وفي الشبهات عتاب), ورغم محدودية حدوثها ثم بقائها الا ان اهل الدنيا تمسكوا بها بقوة اذ كان ومايزال تشبثهم بها عظيما حتى بدا هؤلاء لايعترفون بوجود الاخرةووجود الخالق ذاته جل وعلا ,والذي ميز الخط الرسالي ارتفاع القيم الروحية لدى اصحاب هذه القيم التي طغت على الوجدان , فانها تسحق الماديات وتسحب صاحبها بعد ان يمر بمراحل المعانات ومخاضها العسر, وقد كان اصحاب الأئمة المخلصون هم اهل هذا الطريق الشائك, المليء بالابتلاءات وقد حصلوا على المراتب العلوية من الصفاء الذهني والروحي فكانوا مصداقا ونتاجا حقيقيا لهذا الطريق الذي يسير عليه قادة الرأي النوعي في العالم, هذا في اطار البشر النسبي الذي يستقي معالمه الذاتية من الايحاءات الربانية والرياضات الروحية والاتصال مع صالح المؤمنين في زمان مابعد الغيبة الكبرى للامام الثاني عشر الحجة بن الحسن سلام الله عليه.
أما المعصوم عصمة ربانية وقد اجتباه الله لهذا الطريق فانه مثال وقدوة عظيمة لاستمرار حيوية الذات البشرية وأحداث تغييرها في الواقع اليومي للحياة وانفعالاتها أن الائمة المعصومين الاثني عشر ابتداءا بعلي بن ابي طالب ومرورا بالحسن والحسين فالسجاد والباقروالصادق ومرورا بموسى بن جعفر الكاظم وانتهاءا بباقي الائمة , نرى لكل واحد منهم مسارا خاصا به رغم وحدة الهدف الذي اكتنف حياتهم ومسيرتهم الجهادية الكبرى.
لماذا يمكث الامام الكاظم في السجن خمسة عشر عاما؟؟ بأي ذنب يسجن ابن رسول الله كل هذه المدة الطويلة ثم يلقى بجثمانة الطاهر على جسر ببغداد مسوما شهيدا ليطالب الطبيب النصراني عشيرته ان تثأر له بعد ان اكتشف الجريمة الكبرى باغتياله في سجن (هارون الرشيد )الخليفة الحاكم.
لم يكن الامام زعيما ارهابيا لجماعات مسلحه ولم يكن من اهل الثورات التي قامت في ذلك الزمن المظلم , ولكن هو رجل العلم والثقافة والعبادة والفضيلة … وهو رجل الفكر, الامام الذي تهفو له افئدة المسلمين وتتوق لسماع كلامه وتوجيهاته.
وعندما كان في السجن تتصل بيه شيعته في كل حين وهو النبراس الهادي لهم وصاحب المشوره ,لقد كان اسم الامام موسى بن جعفر ثورة مجلجلة على ارض الواقع وكل كلمه تصدر منه منهاج عمل وقبسات من نور الاهي ينير الظلام، يرسل بطلبه هارون الرشيد ذات يوم وكان جالس بين ولديه الامين والمأمون وعندما يراه يقبل يفر اليه راكضا ومستقبلا وهو السلطان الذي لا يقوم لاحد وقد كان يخاطب الغمام(اين ما تمطري فخراجك لي) فيجلسه ويكرم مقدمة ثم يشيعه الى باب الدار الكبير بعد ان ينصرف فيسأله المأمون عن هذا الرجل الذي اكرمة على غير عادته : أن هذا الرجل احق من ابيك بهذا المكان فيقول له المأمون :_فلم لا تعطيه اذا- فيمسك الرشيد بتلابيب ولده (والله لو نازعتني انت فيه لانتزعت الذي فيه عيناك) انهم يعرفون حتما احقية اهل البيت بمقامهم في الدنيا والاخرة ولكن هي الدنيا وسلطان المال والقوه وهو حزب الشيطان الذي يعيث في الارض فسادا.
ويسأله هارون عن فدك فكان جواب الامام جوابا كالصاعقه التي وقعت على الرشيد (فدك حدودها من سيف البحر وحتى حدود الصين ومن افريقيا حتى سمرقند) فيندهش الرشيد ليعلم ان فدك ليس تلك الارض البسيطه في أرض الحجاز بل هي في قلوب المسلمين مهما امتدت الارض، ما كان الامام موسى بن جعفر بالرجل البسيط الذي تصوره المصادر بالسجين العابد الذي يقص اللحم المتهدل من مواضع سجوده لشدة عبادته وكثرتها, انه كذلك عابد زاهد ولكن فوق كل ذلك قائد لأمة عظيمة رباها اجداده محمد رسول الله وعلي امير المومنين، وحفظ رجالها الحسن المجتبى وسقا شجرة الاحرار فيها ابا عبد الله الحسين بدمائه الزكية.
إن اهل البيت عليهم السسلام منحونا فرصة نادره في عيشنا على الارض فرصه ان نكون عظماء ونشمخ عاليا في سماء الحرية بكرامة الذات وان نكون احرارا كما ولدتنا امهاتنا وان لايستعبدنا حب الدنيا وغرورها:
كان بامكان موسى بن جعفر ان يملك الدنيا بما فيها وان يجلس معزز في بلاط هارون الرشيد ويصانع الظالمين ولكنه اختار شعار جده الحسين ( هيهات منا الذله) وما هذه الحشود المليونية التي تترا كل عام في ذكرى رحيله مشيا على الاقدام متحديتا كل الوان الخطر لاحياء يومه الذي وضعوا جنازته على الجسر ببغداد الا تعبيرا عن الوفاء لهذا الفكر العظيم وهذه الرسالة التي لا تموت أبدا.