بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- إذا كان للتاريخ من أهمية لتقييم الحياة السياسية العراقية في الوقت الحالي، فإن مقطعا واحدا من ذلك التاريخ يشير إلى مكانة النخب السياسية والثقافية وثقلها في حياة الشعب في تعديل وتغيير مسارات مهمة على مستوى الحكم لفترة ما قبل العام 1958، حيث تصدت الحركة الوطنية العراقية للهيمنة البريطانية.
أغلب الأحزاب الوطنية داخل مجلس النواب وخارجه انحازت، وقتها، إلى تطلعات الشعب، وسجل لها التاريخ العراقي أمثلة رائعة مثل “وثبة كانون” عام 1948 التي أصبحت رمزاً من رموز التاريخ الأبوي لثورة أكتوبر الحالية، حيث أسقط الشعب وحركته الوطنية المعارضة في ذلك الوقت معاهدة بورتسموث مع بريطانيا ورئيس وزراء العراق صالح جبر، سقط خلالها شهداء على الجسر الذي سمّي باسمهم في العاصمة بغداد.
هذه الفقرة التاريخية من فعاليات السياسيين وطلائعهم المثقفة في العهد الملكي، ونضال الثوار اليوم ضد سلطة القمع والفساد تدين المظاهر الحالية الرثة بعد عام 2003 لمن يسمّون اسمهم “نواب الشعب”، وهم لا يحملون من الاسم سوى بطاقاتهم الشخصية ومواردهم الخاصة ونفوذهم لتمرير أجندات الغير في أسوأ مثال لوظيفة البرلماني.
الحياة السياسية اليوم لا تقودها أحزاب حقيقية وإنما كتل وتجمعات برلمانية، وحتى الحزب الشيعي الوحيد، حزب الدعوة، الذي حمل عنوان حركة سياسية دعوية في فترة سابقة، تخلّى عنها لصالح صفقات نهب المال العام. وما عداه تجمعات عائلية دينية شيعية وشخصيات تحولت إلى كتل برلمانية، كغيرها على الضفة السنية التي انغمر فيها الحزب الإسلامي بذات الموجة العالية من المصالح إلى جانب أشخاص من بيوت قبلية وأصحاب مصالح تجارية داخل المجتمعات السنية وجدوا في ميدان البرلمان والعلاقات مع الحاكم الشيعي النافذ فرصاً لتأمين تلك المصالح ومضاعفتها.
الحركة السياسية الكردية تميزت عن غيرها من الطيف السياسي النافذ في العراق بالمحافظة على شخصيتها السياسية الوطنية وجذورها القومية المعبّرة عن طموحات الشعب الكردي متمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي ظل يشكل الجذر الأول لقيادة هذه الحركة، ومن قيادته البارزانية تخرّج الراحل جلال الطالباني وأسس حزبه الاتحاد الوطني .
لا علاقة للبرلماني العراقي بمصالح الشعب وهمومه، بل بمصالحه الشخصية وتنفيذ رغبات زعيمه الأبوية. هل سمعتم ببرلماني وقف وسط جمهوره متعهداً بتحقيق مطالبهم في حياة كريمة تتلاءم وغنى العراق بثرواته وعاهدهم بالتنحي عن المسؤولية إن لم يتم ذلك، أو رفع صوته كاشفاً لعبة تبادل المصالح بين القادة السياسيين ومتحدياً الظلم والاستبداد والفساد داخل البرلمان. البرلمانيون منفذون لرغبات قادة كتلهم، وإذا ما اكتشف هذا الزعيم أو ذاك خروج نائبه عن تعليماته أقصاه ليذهب إلى حظيرة أخرى باحثاً عن تأمين مصالحه حتى انتهاء الدورة الانتخابية.
جميع البرلمانيين وعددهم 329 عضواً لا يمثلون وفق الإحصائيات الرسمية أكثر من 20 في المئة من مجموع الناخبين في العراق، وجاءت هذه النتائج بالتزوير. تدل هذه النسبة على أن المؤسسة البرلمانية الحالية لا تمثل شعب العراق. قلة نادرة من البرلمانيين الأفراد صادقة في وظيفتها. في الأيام الأخيرة حيث يخيم الهلع والخوف من المصير المحتوم الذي فرضته انتفاضة أكتوبر بمطلبها حل البرلمان، برزت ظاهرة التمرد على قرارات الزعامات كشفتها أرقام محاولة تمرير رئيس الوزراء محمد توفيق علاوي، فعلى الرغم من التوافق عليه بين الكتل الشيعية الكبيرة إلا أن عدد المصوتين له كان 108، بينهم برلمانيون من السنة والأكراد والتركمان مما يعني غياب بوصلة التوجيه القيادي الشيعي.
لولا نعمة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على البرلمانيين والمتضامنين معهم، لما عرف الجمهور أسماءهم ووجوههم وكنياتهم، فهم وإن خرجوا من مدن ومحافظات وعائلات عريقة إلا أنهم أساؤوا إلى تلك العائلات والقبائل وانقطعوا عنها وأصبحوا يقيمون داخل محميات المنطقة الخضراء أو البيوت المحصنة حسب مستوياتهم .
تحوّلت غالبية هؤلاء البرلمانيين في الفترة الأخيرة إلى مخبري اللحظة، فعن طريق نعمة “تغريدة التويتر” التي نقلها لهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصبحنا اليوم نتابع أخبار قوائم المرشحين لرئاسة الوزارة المتوقعة من بعض البرلمانيين في تكرار ممل ينم عن مستوى التخلف والتيه الذي يعيشه هؤلاء. يسيطر على هؤلاء شعور واهم بأنهم يصدرون بيانات سياسية للجمهور عبر تلك التغريدات أو شرائهم لبعض الأقلام الصحافية الرخيصة، ووهمهم بزعامة توجيه الرأي العام حين تستضيفهم القنوات الفضائية العراقية والعربية تحت عناوين لا تمتّ للحقيقة بصلة كالمحلل والخبير الاستراتيجي أو ممثل الكتلة البرلمانية الفلانية حيث تسعى تلك القنوات لملء الفراغ الزمني للبث في حين تغادر مهنيتها وتسيء إلى عقل جمهور المشاهدين .
في البلدان الديمقراطية التي تحترم مواطنيها يقضي البرلماني فترة وظيفته الخدمية بلا امتيازات خارقة كالتي في العراق، ثم يعود إلى وظيفته السابقة ويحصل على تقاعده منها وليس من خدمته الشعبية المؤقتة. لكن في العراق هناك قصة أخرى لا بد أن تكون لها نهاية.