بقلم: خيرالله خيرالله
الشرق اليوم- يصعب الحديث عن مخارج سياسية في العراق، خصوصا في ضوء فشل محمد توفيق علاّوي في تمرير الحكومة التي شكّلها في مجلس النوّاب. استطاع نواب سنّة وأكراد وشيعة تشكيل حاجز في وجه حكومة لم يكن الغرض منها سوى تأكيد أن إيران ما زالت تتحكّم باللعبة السياسية في العراق، وأنّها صاحبة الكلمة الفصل منذ سلّمتها إدارة بوش الابن البلد على صحن من فضّة في العام 2003. أكثر من ذلك، تبيّن أن هناك رفضا كاملا لأن يكون مقتدى الصدر المرجعية السياسية في العراق، وأن يكون هو من يسمّي رئيس الوزراء، حتّى لو لعب كلّ الأدوار المطلوبة منه إيرانيا…
ليس الفشل فشلا لمحمّد علّاوي الذي هبط بمظلّة على موقع رئيس الوزراء. هناك ما هو أبعد بكثير من ذلك. هناك فشل لنظام سياسي قام بعد 2003 نتيجة الاجتياح الأميركي وقلب نظام صدّام حسين. وهناك أيضا فشل لإيران التي لم تعد سياستها العراقية تنطلي على معظم العراقيين. لم تعد إيران قادرة على الإمساك بالعراق كما كانت عليه الحال أيّام قاسم سليماني. تبيّن بكل بساطة أن سليماني، قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني، كان بالفعل من يدير اللعبة السياسية في العراق وأنّه كان يمسك بكل خيوط هذه اللعبة. كان يمارس دور المفوّض السامي الذي سبق لبول بريمر أن لعبه مباشرة بعد سقوط النظام السابق على يد الأميركيين الذين أعادوا على دباباتهم قادة الميليشيات المذهبية العراقية التابعة لإيران إلى بغداد.
كشف فشل محمّد علّاوي، الذي لا يعتبر شخصية عراقية تمتلك وزنا سياسيا، أن النظام العراقي الذي تأسس عمليا في كانون الأوّل – ديسمبر 2002 ليس نظاما قابلا للحياة. لماذا الإتيان على ذكر هذا التاريخ بالذات؟
في الواقع، انعقد في ذلك الشهر من تلك السنة مؤتمر للمعارضة العراقية في لندن. كان هناك تنظيم مشترك أميركي – إيراني للمؤتمر الذي استضافه فندق في العاصمة البريطانية.
جاء جميع المشاركين العراقيين في المؤتمر من طهران إلى لندن في طائرة واحدة. كان هناك زعماء الأكراد وبعض الزعامات الشيعية، على رأسها عبدالعزيز الحكيم، كما كان هناك سنّة معارضون. ما جمع بين كلّ المشاركين هو الاتفاقات، المتفاهم عليها مسبقا، التي توصّل إليها المشاركون في مؤتمر لندن الذي لعب فيه الراحل أحمد الجلبي دور المنسّق بين الأميركيين والإيرانيين. كان الجلبي، عمليا، صلة الوصل مع الأجهزة الإيرانية التي تولّت إقناع الشيعة المشاركين في المؤتمر بأن عليهم الرضوخ لما يقوله لهم بعيدا عن أي نوع من الكلام الفارغ والشعارات. كان المهمّ لإيران القرار الأميركي باجتياح العراق. بعد ذلك، تصبح كلّ الأمور العراقية في يدها.
للمرّة الأولى في التاريخ الحديث للعراق صدر عن مؤتمر لندن بيان يتحدّث عن “الأكثرية الشيعية في العراق”. كان ذلك ما تريده إيران التي فرضت نظاما قائما على تكريس موقع رئيس الوزراء للشيعة.
حصل الأكراد على جائزة ترضية تمثلت بإيراد كلمة “الفيديرالية” في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر لندن. اعتقدوا أن ذلك سيمهّد للاستقلال الكردي في يوم من الأيّام، متجاهلين أن الظروف الإقليمية ليست مهيّأة لمثل هذا التطوّر الذي ستكون له انعكاسات على تركيا وإيران أيضا، وليس على العراق وحده.
جاء كلّ ما حصل بعد مؤتمر لندن في سياق قيام نظام جديد يتلاءم مع الطموحات الإيرانية. هذا ما يفسّر كلّ القرارات الأميركية التي اتخذت لاحقا. صبّت كل هذه القرارات، بدءا بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي وحلّ الجيش العراقي واجتثاث البعث وتهميش السنّة العرب، في مصلحة إيران.
بعد 17 عاما على بدء العملية العسكرية الأميركية الواسعة في العراق، وهي عملية ساندتها إيران بشكل مفضوح، تبيّن أن ليس لدى “الجمهورية الإسلامية” ما تصدّره إلى العراقيين سوى الفقر والبؤس والفساد. صارت إيران مكشوفة أكثر من أيّ وقت. لا تزال لديها أدواتها في اليمن ولبنان، إلا أنها فقدت الكثير من قدرتها على المناورة في العراق، كذلك في سوريا. فقدت قبل كلّ شيء قاسم سليماني الذي كان يعرف كيف يضغط على السياسيين العراقيين. لم تعد لدى إيران آلية تتعاطى عبرها مع الوضع العراقي. فمهمّة قاسم سليماني كانت تركّز على نقل النموذج الإيراني إلى العراق، أي نقل تجربة “الحرس الثوري” الإيراني عن طريق تسميته “الحشد الشعبي” في العراق.
مع تصفية قاسم سليماني ومعه أبومهدي المهندس، نائب قائد “الحشد الشعبي”، تنطّح مقتدى الصدر لاستكمال مهمّة قائد “فيلق القدس”.
ما يمكن قوله إن فشل محمد علاوي ليس فشلا للرجل فقط. إنّه فشل لمقتدى الصدر أيضا، وفشل لإيران في نهاية المطاف. قبل ذلك كلّه، إنّه فشل لنظام سياسي وضع أصلا حسب مقاييس إيرانية. مثل هذه المقاييس لا تصلح لإيران نفسها، فكيف يمكن أن تصلح للعراق؟
تبدو إيران مقبلة على تطور في غاية الخطورة بعدما كشفتها العقوبات الأميركية، وكشفتها عملية اغتيال قاسم سليماني، وكشفها أخيرا انتشار كورونا. تأكّد أنها ليست سوى نمر من ورق وأن كلّ ما قامت به حتّى الآن، إنما قامت به لأن الأميركيين كانوا راغبين في دور لها على الصعيد الإقليمي. كان دورها يخدمهم نظرا إلى أنّها شكلت بعبعا للمنطقة. ارتضت بلعب هذا الدور الذي عرفت أميركا وإسرائيل استغلاله إلى حد كبير.
شاخ النظام الإيراني في الـ41 من العمر. أفلس النظام في إيران قبل أن يُفلس في العراق. السؤال الآن، هل يمكن إصلاح ما خرّبه النظام الإيراني في إيران نفسها، وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن. المؤسف أن خسائر كلّ دولة من هذه الدول التي ضُرب النسيج الاجتماعي فيها ضخمة. فحيثما حلّت إيران، حلّ الخراب. في السنة 2020، لم يعد لدى “الجمهورية الإسلامية”، التي أسّسها آية الله الخميني، ما تصدّره سوى فايروس كورونا، المجبول بكمّية لا بأس بها من التخلّف في كلّ المجالات.
كلّف المشروع التوسّعي الإيراني المنطقة الكثير. الخوف كلّ الخوف أنّ هذا المشروع القائم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية لا أفق له وأن الأضرار التي نجمت عنه لا يمكن إصلاحها. الدليل على ذلك أن ليس في استطاعة عاقل يمتلك رؤية أن يجد وصفة للملمة الوضع العراقي تمهيدا للبحث عن مخرج.
كلّ ما يمكن قوله إنّ الأمل صار مفقودا في طول الطريق الذي يبدأ في طهران ويصل إلى بيروت… مرورا ببغداد ودمشق!