BY: Ghaith Abdul-Ahad – The Guardian
الشرق اليوم– يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر، بدا مثل أي يوم آخر عند غروب الشمس بالنسبة لحيدر، “هذا الاسم وبقية الأسماء في التقرير مستعارة”، الذي كان يعمل مسعفا مع الجيش سابقا، فبعد مغادرته لمخيم الاعتصام في ساحة التحرير في بغداد، حيث كان يعالج الجرحى من المتظاهرين ضد الحكومة، ذهب لتناول العشاء مع أصدقائه في حي الكرادة القريب.
حيدر مثل آلاف العراقيين الشباب بدأ ينزل الى الشارع في 1 تشرين الأول/ أكتوبر، وكان يهتف مناديا بالحصول على خدمات أفضل، ويشجب فساد الحزب الحاكم عندما فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين، ووقف في الطريق المؤدي إلى ساحة التحرير ورأى كيف يتساقط الشباب العزل حوله، قتل بعضهم وجرح آخرون.
في اليوم التالي قام حيدر بحمل حقيبته التي ملأها بالضمادات والأدوية وعاد إلى الشارع، ومع نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر كان حيدر يقود فريقا من المسعفين يعالجون المصابين بسبب قنابل الغاز والرصاص البلاستيكي والرصاص الحي، وأصيب في ذراعه الأيمن بإحدى قنابل الغاز، فنقل إلى مستشفى قريب، وعاد إلى الساحة بعد ثلاثة أيام وكانت ذراعه مضمدة وقضبان الحديد التي استخدمت لعلاج الكسر تبرز من الضماد، فيما أصبحت الخيمة الزرقاء والبطانيات المغطاة بالعفن التي شاركها مع زملائه هي بيته.
بعد تناوله العشاء ليلة 14 كانون الأول/ ديسمبر، قرر بدلا من العودة إلى ساحة التحرير أن يذهب إلى بيته في منطقة للطبقة العاملة في شرق بغداد؛ ليتفقد زوجته الحامل وأمه، وبعد منتصف الليل بقليل عندما كان يجلس خارج البيت على الرصيف لأن تغطية الإنترنت تكون أفضل ليقرأ التغريدات على “تويتر” لمعرفة آخر الأخبار في ساحة التحرير، توقفت سيارة (فان) أمامه، وترجل منها ثلاثة رجال يلبسون زيا عسكريا أسود وأحذية رياضة بيضاء، واتجهوا نحوه، وسأله أحدهم: “هل أنت حيدر؟”، فأجاب بسرعة: “لا، أنا أخوه محمد”، وأخبرهم بأنه سيدخل ليجلب لهم من يبحثون عنه.
تلك الحيلة لم تنجح، وقام أحد الرجال بالإمساك به من رقبته وجره إلى داخل السيارة، فيما قام آخر بأخذ هاتفه ومحفظته، وقام الرجال بتعصيب عينيه وربط يديه ودفعه إلى أرضية السيارة تحت أرجلهم، ووضع أحد الرجال مسدسه على رأس حيدر، وقال له إنه سيطلق النار إن هو فتح فمه.
عندما توقفت السيارة بعد ساعة تقريبا، مشى به الرجال صامتين إلى داخل غرفة كبيرة وأقفلوا الباب، وفي وقت مبكر من اليوم التالي جاء رجلان ملثمان يرتديان الزي الأسود ذاته ويحملان عصيا وأسلاكا غليظة، وعصبا عينيه ثانية، ودون توجيه أي سؤال قاما بضربه حتى فقد الوعي.
رد فعل الحكومة العراقية على المظاهرات كان عنيفا ووحشيا، فخلال أربعة أشهر، قامت قوات الأمن بقتل 669 مدنيا فيما جرح أكثر من 25 ألفا آخرين، بحسب لجنة حقوق الإنسان العراقية والمنظمات غير الحكومية والناشطين، كما تم سجن حوالي 2800.
بعض قوات الأمن هذه تعمل بشكل مواز لقمع الاحتجاجات، في محاولة لإسكات الناشطين والصحافيين من خلال الاختطافات والتخويف والاغتيالات، حيث قتل الشهر الماضي مراسل تلفزيون ومصور في سيارتيهما بعد أن شجب المراسل قمع الحكومة على فيديو نشره في صفحته على “فيسبوك”، فيما “يبدو أن اختطاف حيدر كان جزءا من الجهد ذاته”.
ويقول مسؤول كبير في لجنة حقوق الإنسان العراقية، مشترطا عدم ذكر اسمه: “من اليوم الأول، اختارت الحكومة أن تتبع العنف في التعامل مع المتظاهرين”، وأضاف: “جاء العنف على شكل موجات.. في البداية كان هناك قتل بالجملة؛ فقتل حوالي 157 شخصا في الأيام الثلاثة الأولى فقط، ومع بدايات تشرين الثاني/ نوفمبر بدأت تردنا تقارير عن عمليات اختطاف، ليس فقط في بغداد، لكن أيضا في العمارة والناصرية، ناشطين وصحافيين وأكاديميين، وبدأت تصل إلى أي شخص يشك في دعمه لحركة الاحتجاج من ناحية لوجستية أو حتى معنوية تهديدات بالقتل قبل أن يتم اختطافه”، وأشار المسؤول إلى أنه تم اغتيال ناشطين في كربلاء بعد أن قابلاه هو وزملاءه.
في ساحة التحرير تعلق صور للمختفين قسريا على الجدران وعلى أعمدة الكهرباء وعلى أبواب الخيام التي تتلاعب فيها الرياح، لافتا إلى أن بعضها قديم وممزق وبعضها حديث.
المسؤول في حقوق الإنسان، يقول: “هذه الاختطافات ليست عشوائية.. بل محسوبة ومخطط لها ومصممة لإرهاب المتظاهرين.. وأتت على مراحل، أولا بدأت بالناشطين البارزين، خاصة الذين يظهرون في وسائل الإعلام، ثم الأكاديميين ثم الشعراء، وتبعهم الصحافيون حتى وصلت الحملة إلى الأطباء والمسعفين، والفكرة هي إرهاب المتظاهرين ولمنع المظاهرات من التمدد”.
عندما أفاق حيدر، قال إنه وجد نفسه عاريا وملقى على أرضية غرفة تفوح منها رائحة البول والبراز، فيما كانت هناك علاقة في السقف، وحوض استحمام مليء بمياه بنية وأسلاك كهرباء، ثم بعد ساعات دخل رجال ملثمون إلى الغرفة وتحدثوا معه لأول مرة، وطلبوا منه فتح هاتفه النقال، وفي الوقت الذي استمروا فيه بضربه بدأوا بالتحقيق معه وسؤاله عن انتماءاته السياسية، وسألوه عن أي سفارة تموله وتمول زملاءه المتظاهرين.
بعد ثلاث ليال من التعذيب، حيث كان يأتي الرجال الملثمون فقط في الليل، فتح حيدر لهم الهاتف، ومروا على الصور في هاتفه، وطلبوا منه أن يعرف بقادة المظاهرات في بغداد والمحافظات الأخرى، وعندما قال لهم إنه ليست هناك قيادات، وضعوه في مياه ثلجية في حوض الاستحمام، ووضعوا قطع إسمنت على صدره، ورمى أحد المعذبين بنفسه فوق الإسمنت حتى أنزله تحت الماء، واستمتعوا بشكل خاص بضربه على يده المصابة، كما يتذكر.
عندما استمر في رفضه التعريف على هوية أي ممن وجدت صورهم في هاتفه، بدأوا باغتصابه مستخدمين عصا كهربائيا، وأكرهوه على الجلوس على قارورة زجاجية، وعرضوا عليه صورا لأمه وزوجته، وقالوا له إنه تتم معاملتهم بالأسلوب ذاته، وعرضوا عليه مقاطع فيديو داخل الخيمة، وقالوا له بالتفصيل ما وضع داخل حقيبته الطبية.
يقول حيدر: “مع نهاية الأسبوع كنت أتمنى الموت، أردتهم أن يقتلوني، أردت فقط أن أموت ويتوقف التعذيب”.
رئيس الوزراء العراقي السابق، عادل عبد المهدي، ادعى في بياناته وخطابه على التلفزيون بأن هناك “طرفا ثالثا” يريد أن يزرع بذور الفتنة بين الشعب العراقي الواحد، ويقوم بعمليات الاختطاف والاغتيال، وهو “الطرف الثالث” الذي نشر القناصة في الأيام الأولى من المظاهرات، مشيرا إلى أن منظمات حقوق الإنسان والمتظاهرين سخروا من تلك الادعاءات، وخالفها بعض المسؤولين الأمنيين في الحكومة.
وفي السياق، يقول مسؤول كبير في مديرية وحدات الحشد الشعبي: “في الأسبوع الأخير من شهر أيلول/ سبتمبر بدأت تصلنا تقارير من المخابرات بأنه ستكون هناك مظاهرات كبيرة يتبعها انقلاب عسكري”، وأضاف المسؤول: “تمت إقامة غرفة عمليات، وكان عبد المهدي هناك بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وجلس حوله قادة الجيش والشرطة الفيدرالية وقادة الحشد، بالإضافة إلى الإيرانيين، وكلهم رأوا أن المظاهرات هي جزء من مؤامرة أكبر، وتم اتخاذ قرار جماعي لقمع المظاهرات بشكل عنيف، ولذلك قامت الوحدات كلها بفتح النار”.
وتابع المسؤول قائلا: “حينها قررت بعض فصائل الحشد الشعبي، وليس كلها، أن تستهدف الناشطين المرتبطين بسفارات أجنبية ومنظمات إعلامية تدعم أعمال الشغب”.
حيدر كان يعطى الطعام مرة في اليوم: قطعة من الخبز يوما وحبة بندورة تالفة في اليوم التالي، وصحن بلاستيكي فيه بعض بقايا الأرز المجمد من وجبات السجانين، وإن طلب الماء كان السجانون يقومون بالتبول عليه، ولذلك كان عليه أن يشرب من الماء القذر الموجود في حوض التعذيب، فيما كان كيس من النايلون عند الباب هو مرحاضه.
في اليوم الرابع عشر لخطف حيدر، قام الحراس بإلباسه سروالا وعصبوا عينيه وأخرجوه من الزنزانة، يقول حيدر: “كنت أعلم أنهم يأخذونني للإعدام وكنت سعيدا، كنت أريد الموت”، وقادوه إلى سيارة كانت في انتظارهم، وأجلسوه على الكرسي الخلفي، ومشت السيارة لبعض الوقت، وعندما خرج من السيارة شعر بالقمامة تحت قدميه الحافيتين، ودفعه أحد الحراس إلى الأمام فمشى مسافة قصيرة ثم جعله يجثو على ركبتيه، وقال: “عرفت أن الموت قادم ورجوته أن يسمح لي بالاتصال بزوجتي، فقال انتظرني حتى أحضر الهاتف، لكنه قال إن أزحت العصبة عن عيني فسوف يطلق علي النار، وسمعت أقدامه تبتعد عني”.
بعد مرور الوقت وعدم عودة الحارس أزاح حيدر العصبة عن عينيه، فوجد نفسه في مكب نفايات وحده، ولم يعرف لا الزمان ولا المكان، وكانت أول ردة فعل له هي الهروب، لكنه فجأة شعر بألم أسبوعين من التعذيب، وبدأ جسده يرتجف من البرد والألم، ويقول: “ظننت أني ميت وأن روحي هي التي كانت تجري”.
هذه السياسة نجحت إلى حد بعيد، بحسب المسؤول في لجنة حقوق الإنسان، الذي قال: “معظم من يطلق سراحهم يهاجرون أو يغادرون، ويرفضون الحديث أو حتى الشكوى، وكثير منهم لن يذكروا من الذي اختطفهم”.