BY: Jean Pisani Ferry- Project Syndicate
الشرق اليوم- منذ انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، فعل دونالد ترمب كل شيء تقريبا تعتبره الحكمة الاقتصادية المعتادة بدعة وهرطقة. فقد أقام الحواجز التجارية وعمل على تأجيج حالة عدم اليقين بالتهديد بفرض تعريفات جمركية إضافية، وابتز الشركات الخاصة، وخفف معايير التحوط المصرفية، وهاجم مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مرارا وتكرارا بسبب سياساته التي لا توافق هواه، وعمل على زيادة عجز الموازنة حتى مع اقتراب الاقتصاد من طاقته الكاملة. وعلى قائمة “لا تفعل” التي يستعين بها صناع السياسات، نجد أن ترمب ارتكب من البنود المحظورة عددا لا يقارن بكل ما ارتكبه أي رئيس أميركي في فترة ما بعد الحرب.
ورغم ذلك، لا يزال توسع الاقتصاد الأميركي الأطول في التاريخ المسجل مستمرا، ولا يزال التضخم منخفضا ومستقرا، وانخفض معدل البطالة إلى أدنى مستوياته في خمسين عاما، كما انخفض معدل البطالة بين الأميركيين من أصل أفريقي إلى أدنى مستوياته المسجلة على الإطلاق. والآن، يعود الأشخاص الذين تركوا سوق العمل ويجدون وظائف، كما تسجل الأجور عند القسم السفلي من جدول التوزيع الآن ارتفاعا بلغ 4% سنويا، وهذا أسرع بشكل ملحوظ من المتوسط. وعلى قائمة الرغبات الاقتصادية، يحقق ترمب بنودا أكثر من تلك التي حققها أغلب الرؤساء الذين سبقوه.
السؤال السياسي الذي يتكهن الجميع حول إجابته الآن هو ما إذا كان الأداء الاقتصادي ليضمن لترمب الفوز بفترة ولاية ثانية. لكن السؤال الاقتصادي الذي لا يقل أهمية هو ما إذا كان هذا الأداء ليعلم الحكومات في مختلف أنحاء العالم أن المبادرات الطائشة المتهورة تتفوق على السياسات الاقتصادية القائمة على التحليل. إذا حدث ذلك، فسوف تصبح الخبرة موضع استهزاء وسوف تخسر مؤسسات السياسة الدولية أي قدر لا تزال تتمتع به من المصداقية. وربما تتحول البنوك المركزية المستقلة إلى كنائس لعبادة قديمة منسية. وسوف تزداد جرأة الشعبويين بأشكالهم كافة.
يعتبر بعض المراقبين، مثل جوزيف ستيجليتز، إنجازات ترمب وهما مضللا. وصحيح أن الصورة ليست وردية بالكامل. فقد ارتفع العجز التجاري، ولم تتعاف القطاعات المتعثرة، ولا تزال فجوة التفاوت مروعة. لكن هذا ليس سببا للتغاضي عن الإيجابيات. ونحن في احتياج إلى التقييم، وليس الإنكار، لإلقاء الضوء على ما يحدث حقا.
تتألف سياسة إدارة ترمب الاقتصادية من كوكتيل غريب: فهي في جزء منها تعتمد على سياسة الحماية التجارية الشعبوية والتدخل في الصناعة؛ وفي جزء آخر تقوم على التخفيضات الضريبية الجمهورية المنحرفة لصالح الأثرياء وسياسات إلغاء القيود على نحو يدعم الصناعات؛ وهي في جزء ثالث تستند إلى التحفيز المالي والنقدي على طريقة جون ماينارد كينز. والسؤال الذي يتوجب علينا أن نطرحه الآن هو ماذا في النتائج الاقتصادية يمكننا أن نعزوه إلى كل من هذه المكونات.
الواقع أن أجندة ترمب الشعبوية موجهة بشكل كبير نحو قلب أميركا الصناعي. فالمفترض أن تعمل سياسة الحماية التجارية على جعل قطاع التصنيع في الولايات المتحدة قادرا على المنافسة مرة أخرى، على الأقل في السوق المحلية، في حين يجري توجيه الشركات إلى الاستثمار في الداخل وليس الخارج. ومع ذلك لا تزال حصة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي أقل بنحو نقطتين مئويتين من المستوى الذي كانت عليه قبل أزمة 2008 المالية، هذا فضلا عن خسارة 900 ألف وظيفة في التصنيع.
صحيح أن ترمب يواصل الدفع. فاتفاق “المرحلة الأولى” التجاري المبرم بين الولايات المتحدة والصين يلزم الصينيين بمضاعفة وارداتهم من السلع المصنعة في الولايات المتحدة بحلول عام 2021. ولكن كما أشار تشاد باون من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فإن الهدف غير واقعي. ولا يوجد من الأدلة ما يشير إلى نهضة صناعية من تصميم ترمب.
يتلخص الهدف الرئيسي من سياسة إدارة ترمب الضريبية في تحفيز النمو من خلال خفض معدل الضريبة القانوني المفروض على الشركات من 35% إلى 21%، مع توسيع القاعدة الضريبية. ويجري تكميل هذا بما يصفه ترمب بأنه حملة إلغاء القيود الأكثر طموحا في التاريخ، ولكن باعترافه شخصيا، لم تبدأ تدابير مكافحة الروتين تؤتي ثمارها إلا مؤخرا، وهي على هذا من غير الممكن أن تكون مسؤولة عن النتائج الاقتصادية الحالية.
في تحليل تعاوني دقيق، يقدم لنا الخبير الاقتصادي ذو الميول الجمهورية من جامعة هارفارد روبت جيه. بارو، وجاسون فورمان، وهو أيضا من جامعة هارفارد وتولى رئاسة مجلس الرئيس باراك أوباما للمستشارين الاقتصاديين، تقييما رقميا للتأثير المترتب على إصلاح ضريبة الشركات. وتتلخص النتائج التي خلصا إليها في أن خفض تكلفة رأس المال إيجابي في الأمد البعيد، لكن تأثيره الفوري على نمو الناتج المحلي الإجمالي أقل من 0.15 من النقطة المئوية سنويا؛ وهي مساهمة ضئيلة في الأداء الاقتصادي الحالي. وفي كل الأحوال، يشير ضعف نمو الاستثمار إلى أن خفض الضرائب المفروضة على الشركات ليس هو الذي يدفع التوسع.
لا يتبقى أمامنا إذن سوى التفسير الكينزي: فالدعم المالي والنقدي هو العامل الرئيسي وراء طول فترة التوسع وقوته. فعلى الجانب المالي، ربما أفضى الجمع بين التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق إلى تعزيز الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2% منذ عام 2017. وعلى الجانب النقدي، قرر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تغيير مساره في عام 2019، فعكس بعض الزيادات في أسعار الفائدة التي أقرها في وقت سابق لوقف المخاطر التضخمية. وأخيرا، دفعت الزيادات المتعددة في الحد الأدنى للأجور على مستوى الولايات والمستويات المحلية الحد الأدنى الفعلي للأجور إلى نحو 12 دولارا في الساعة (أعلى بنحو 66% من الحد الأدنى الفيدرالي، الذي لم يتغير في عهد ترمب)، مما أدى إلى رفع الدخول المنخفضة وجعل التوسع الأخير أكثر شمولا.
على هذا فإن السبب الرئيسي وراء النمو المضطرد والمستوى غير المسبوق من تشغيل العمالة في الولايات المتحدة ليس السياسة التجارية والتدخلات الصناعية، ولا تخفيض الضرائب المفروضة على الشركات وإلغاء الضوابط التنظيمية، بل تحفيز الطلب. ولم تكن هذه النتيجة مؤكدة. ففي تقييمه للولايات المتحدة في صيف عام 2017، قدر صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد كان قريبا من التشغيل الكامل للعمالة، وقد دعم الاتجاه إلى تشديد القيود النقدية، وحذر من ارتفاع الدين العام.
أيا كان الدافع، فإن تحفيز الاقتصاد حيث البطالة أقل من 5% بالفعل كان بمثابة تجربة. وقد افترضت هذه التجربة الثقة في الفوائد المترتبة على “اقتصاد الضغط العالي” حيث تجتذب أسواق العمل الـمُحكَمة الأشخاص المتخلفين عن الركب وتساعد في خلق قدرة جديدة. كما افترضت عدم الاكتراث بالعجز المالي. وقد تطلب الأمر خوض المجازفة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي اتُّـهِم بالرضوخ للضغوط السياسية لكنه أوفى في حقيقة الأمر بتفويضه من خلال اختبار حدود التوسع. وقد نجحت التجربة ــ على الأقل حتى الآن.
في مجمل الأمر، ليس الدرس المستفاد من نجاح ترمب الاقتصادي الواضح أن التهور والقومية الاقتصادية من العناصر التي يجب أن توجه السياسات. بل يتمثل الدرس في أن الحيز المتاح للسياسات التوسعية، في ظل بيئة تتسم بانخفاض التضخم وأسعار الفائدة، يكون أكبر من المتصور عادة؛ وأن السياسة يمكنها حفز الشمولية الاقتصادية.
إن قدرة الناخبين على الربط بين الأسباب والنتائج محدودة بطبيعة الحال. وعلى هذا فمن المؤسف أن هذا قد لا يكون الدرس الذي سيتعلمه الناخبون.