بقلم: زهير قصيباتي
الشرق اليوم- في الانتفاضة العراقية فساد، ولا يمكن محاربة الفساد بمثله. في العراق احتلال والانتفاضة لن تثبت براء دمها الا بالبراء علنا من الاحتلال والأميركيين.
أليست هذه خلاصة ما جاد به مقتدى الصدر، بعدما ضاق صدره بتشكيك المنتفضين بنيّاته، وتخوينه لسحب أنصاره من خيام الاعتصام، لتندفع بعد ساعات هجمة قوى الأمن على المعتصمين في بغداد ومدن جنوب العراق؟
ما يهم مقتدى، كما قال، هو سمعة الثوار الوطنيين وعدم انحراف الثورة على أيدي مندسين تحركهم أهداف خارجية مشبوهة. أليست هذه مقولة الإيرانيين منذ ما قبل تصفية واشنطن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني؟
الأهم في وقائع الساعات العصيبة من عمر الانتفاضة العراقية، أن تتزامن محاولة مقتدى الصدر شق صفوف الانتفاضة وتشويه كل ما قدمته، ومنه دماء ستمئة شهيد، مع اتخاذ سلطة تصريف الأعمال بقيادة عادل عبدالمهدي، قرارا بالحسم مع المنتفضين وإنهاء احتجاجاتهم واعتصاماتهم بالقوة. هو ذاته كان قرارا نصح به سليماني لتفادي انهيار منظومة رعاها لتحكم طهران قبضتها على القرار العراقي، منذ تواطأت مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في صفقة الخروج الآمن للقوات الأميركية من بلاد الرافدين.
وبعيدا عن تفاصيل حسم إدارة الرئيس دونالد ترامب خيارها في قتل سليماني وحشر طهران في زاوية انكشاف لعبة التوتير والتصعيد كلما أرادت ابتزاز المنطقة وإحراج الأميركيين من خلال إظهارهم بمظهر العاجز عن ترجمة مقتضيات حماية الأمن الإقليمي، خصوصا أمن الخليج، تأتي محاولة مقتدى الصدر تهشيم الانتفاضة العراقية متناغمة مع تجدد القصف الصاروخي على السفارة الأميركية ومحيطها في بغداد، لتجديد ضغوط الفصائل والميليشيات الشيعية الحريصة على ولائها لإيران، من أجل استكمال مساعي إخراج القوات الأميركية من العراق، بالتالي تبديد نتائج محادثات ترامب والرئيس العراقي برهم صالح في دافوس، بعد نجاحهما في تهدئة التأزم بين واشنطن وبغداد وتجميد مفاعيل قرار البرلمان العراقي إخراج تلك القوات.
واضح أن محاولات استهداف السفارة في بغداد ستضيف تعقيدات إلى مشهد الانقسامات العراقية، وأخطرها الآن نزع الشرعية عن الانتفاضة من خلال تشويهها بذريعة عنف المندسّين، وتلك هي النسخة العراقية لما واجهته أخيرا انتفاضة اللبنانيين.
انقسام على الاحتجاجات في بغداد وجنوب العراق، وانقسام على وجود القوات الأميركية التي باتت قوة احتلال، فقط بسبب قتل سليماني، وهي التي كانت تؤمّنُ الغطاء الجوي لقوات الحشد الشعبي والفصائل الإيرانية الهوى، على مدى سنوات الحرب على تنظيم داعش.
اللعبة الإيرانية التي بدا أن إدارة ترامب مَلّتْها، هي في استخدام طهران دبلوماسية الولايات المتحدة وعصاها مع ما كان يسمى الإرهاب السني، لتطوّع أوضاع المنطقة وتكرس مصالحها، إلى أن تأتي ساعة الصفقة الكبرى وتحسم أثمانها.
بداهة لا يمكن الآن فصل تحرك مقتدى الصدر عن سعي إيران إلى هدفين. أولهما عودة إلى ضبط الشارع العراقي بأي ثمن، والثاني استخدام القصف الصاروخي على السفارة الأميركية لتوجيه رسالة إلى واشنطن ليس فقط في سياق استكمال ضربات الثأر لقتل سليماني، بل الأهم توجيه رسالة إلى ترامب فحواها أنه لا يمكنه وحده تحديد شروط التفاوض مع طهران.
عمليا، وفي سياق خارطة الانقسامات أيضا، التشرذم السياسي والتخبط في إيجاد بديل لعادل عبدالمهدي على رأس الحكومة، يرسخه التجاذب المرير حول الأسلوب الملائم للخروج من مأزق تجريم الطبقة السياسية بأقل الأثمان.
وليست مفاجأة طعن الصدر الانتفاضة في الظهر، بعيدة عما تردد عن سعيه إلى مكافأة إيرانية، بمنحه الكلمة الفصل في قبول توليه رئاسة الحكومة أو تسمية من يرشحه من أتباعه، فيما تعويم تصريف الأعمال مستمر مع عبدالمهدي، ويراد له أن تتلطخ يداه بذبح الانتفاضة، قبل العودة إلى تجديد دماء المنظومة الإيرانية. ويدرك الصدر والفصائل الشيعية أن الأميركي باشر عمليا وضع خطط إعادة تموضع قواته في أربيل ولن ينتظر أن يباغته الموالون لإيران بضربات أقسى من الرسائل الصاروخية الموجهة إلى سفارته في بغداد، لكي لا يفقد ماء الوجه، بالأحرى لتفادي الخروج المذل من الوحل العراقي.
أما تراجع الصدر عن التظاهرة الضخمة التي دعا إليها لإنهاء ما يسميه الآن احتلالا أميركيا، فليس مرده إلى الاستجابة الهزيلة لطلبه مليونية احتجاج فحسب، بل حسابه مقدار خسارته مزيدا من صدقيته في حال انقلبت المواجهة إلى صدام مباشر مع المنتفضين على الفاسدين ورعاتهم. ومرة أخرى لا مبالغة في القول إن أي فساد يحتاج رعاية وحماية، ومن غير حماية هل كان ممكنا استشراؤه على مدى 16 سنة؟ ومَنْ غير حراس التغلغل الإيراني يستطيعون بولائهم الأعمى ضمان إفلات اللصوص الذين نهبوا ثروات العراق، واقتسموها مع عرّاب الوصاية، لتخفيف ضغوط العقوبات الأميركية على نظام المرشد، والعقوبات الدولية على نظام الأسد؟
والحال أن طهران التي تلعب الآن ورقة الحوار والتهدئة مع الجوار الخليجي تشجع الميليشيات في بغداد على قصف السفارة الأميركية، إذ تعتبر أن ترامب منهمك الآن بورطة محاكمة لعزله، وأن الديمقراطيين في الولايات المتحدة نجحوا في تكبيل يديه لتفادي شن حرب على إيران. لكن السؤال هو هل يقبل استمرار إحراجه لإخراجه ذليلا من بغداد، على مسافة شهور من معركته لتجديد ولايته؟
الطبقة السياسية في العراق توغل في المزيد من الخطايا، وتكفي إدانة الأمم المتحدة قمع الانتفاضة بشراسة. طهران توغل في مزيد من الرهانات على الميليشيات، والأميركي مرتبك بعد فشل رهانه على رضوخ إيران إثر تصفية العقل المدبر لخطط الوكلاء وسَدّ العقوبات شرايين اقتصادها. الكل في ورطة، أما مقتدى الصدر فلعله يشعل حربا أهلية جديدة، إذا أصر على دخول بوابة “المندسين” لتهشيم الانتفاضة ووصمها بالعمالة، منذ سمع من يهتفون في الشارع باسمه، ليس إلا لأنه “خائن”.