بقلم: محمد الحمادي
الشرق اليوم- لم تخسر إيران فقط قاسم سليماني، ولم يخسر النظام شعبيته في الشارع الإيراني الذي لم يتوقف عن الخروج عليه منذ أشهر، كما لم يخسر احترامه وهيبته إقليميا ودوليا بعدما أسقط الطائرة المدنية الأوكرانية وقتل جميع ركابها الـ170 عن طريق الخطأ! وإنما خسر ثلاث دول أوروبية كانت صديقة له، وتقف معه وتدعمه منذ العام 2015، رغم كل جرائمه وفضائحه.
لقد تساهلت تلك الدول مع هذا النظام الإيراني لسببين. الأول؛ أن لها مصالح اقتصادية لا تريد خسارتها على المدى الطويل، والثاني؛ اعتقادها بإمكانية تغييرها من السلوك الإيراني مع الوقت، إلا أنها اكتشفت اليوم أن هذا السلوك أصيل لا يتغير، من هنا جاءت الاستدارة الأوروبية الأخيرة عن إيران، من ذلك أن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، التي رفضت العقوبات الأميركية وكانت ضد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، يبدو أنها تعيد حساباتها بشكل جدي.
تحول استراتيجي
كل تلك الأوضاع الصعبة دفعت المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، إلى إلقاء خطبة صلاة الجمعة في طهران بعد اختفاء لأكثر من ثماني سنوات، وذلك لشعوره بحجم الخطر الذي يواجهه هو شخصيا وأيضا نظامه، لذا كان ظهوره لتهدئة الجماهير وكسب تعاطفهم وتأييدهم من جديد، ولكن يبدو أنه لم يجد ما يخاطب به الشعب غير الهجوم على أميركا وإسرائيل، وهو الخطاب الذي لم يستجب له طلاب الجامعات، بدليل رفضهم الدَّوْسَ على علميْ الدولتين، معتبرين أن “معركتهم ليست مع أميركا وإسرائيل” وإنما مع النظام.
واضح أن مهمة النظام الإيراني ستكون صعبة جدا خلال المرحلة المقبلة، فاغتيال قاسم سليماني كان فرصة للإعلان عن تحول كامل واستراتيجي في الموقف الأوروبي، وخصوصا بعد أن قرر الحرس الثوري استهداف القواعد الأميركية في العراق، التي هي فعليا قواعد لقوات التحالف تضم جنودا أوروبيين، وهذا الأمر أنهى مساحة المناورة التي كانت تجمع طهران بالعواصم الأوروبية الثلاث.
فألمانيا التي تُعتبر أكبر مساهم في البرنامج النووي الإيراني قبل وبعد الثورة الخمينية أنهت علاقتها مع إيران بعد هذه العملية، حيث كانت أول دولة في الاتحاد الأوروبي تؤيد قتل قاسم سليماني، بل اعتبرت برلين سليماني مصدرا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وقدمت دعما كاملا وغير مشروط للهجمات الأميركية ضد ميليشيات الحشد الشعبي في معبر القائم.
على طريق واشنطن
وتشكل الاستدارة الألمانية بعيدا عن إيران أكبر تحول في أوروبا ضد طهران، فألمانيا كانت أكثر دول العالم تحمسا لاتفاق 5 + 1، ودائما ما كانت العلاقات الألمانية – الإيرانية متقدمة على كل العلاقات الإيرانية مع الدول الأوروبية الأخرى منذ الحرب العالمية الأولى حين احتلت بريطانيا وروسيا إيران بينما وقفت ألمانيا بجانب طهران، كما رأت ألمانيا في الاتفاق النووي في العام 2015 فرصة لإحياء العلاقات المتدهورة مع إيران، بل راهنت على إحداث تحول سياسي واجتماعي من خلال شعار “التحول من خلال التقارب والتجارة”، وكانت وجهة النظر الألمانية تقوم على أنه من خلال التجارة والتطور الاقتصادي يمكن التأثير على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في إيران.
وقد اكتشفت ألمانيا بعد نحو 4 سنوات فشل هذه الاستراتيجية، وأن السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط أكبر من المحاولات الألمانية لتعزيز ما يسمى بـ”المعتدلين” في النظام الإيراني.
المزيد من العزلة الدولية على إيران مما يقلل من “مساحة المناورة”، التي اعتمدت عليها لسنوات، وساعدتها على الهروب والتنصل من مسؤوليتها عن الكثير من الجرائم
أما فرنسا فقد اتهمت، ولأول مرة، إيران بالتورط في قضيتين خطيرتين، هما استهداف شركة “أرامكو”، والإعداد لعمليات إرهابية عبر سليماني، كما وقف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بجانب الولايات المتحدة في قتل سليماني، واتهم إيران وميليشياتها وسليماني بأنهم وراء عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، كما اتهم إيران بتقويض الحرب على الإرهاب في المنطقة.
وشهد الموقف البريطاني تحولا كاملا واصطفافا تاما بجانب الموقف الأميركي، فبعد فترة طويلة، وخلال حكم تيريزا ماي، من الاصطفاف قريبا من الموقف الفرنسي والألماني بعيدا عن الولايات المتحدة، من خلال المشاركة في كل الاجتماعات حول تفعيل آلية “أنستكس”، ورفض فرض واشنطن المزيد من العقوبات على طهران في 4 نوفمبر 2018، إلا أنه ومع تولي بوريس جونسون رئاسة الحكومة، حدث تحول كامل ضد إيران، حيث قامت لندن بعدد من الخطوات ضد طهران، أبرزها: دعم الحملة الأميركية على ميليشيات إيران في العراق بما فيها الهجوم على ميليشيات الحشد الشعبي في القائم، وتحميل إيران وسليماني مسؤولية الهجمات على القوات الأميركية وقوات التحالف في العراق.
كما اتفقت لندن وواشنطن على أن سليماني كان يخطط لعمليات واسعة تستهدف الأميركيين المدنيين والعسكريين في المنطقة، وأنه المسؤول عن استهداف معملي أرامكو في سبتمبر الماضي.
أُفُق عزلة دوليَّة
وهذه الدول الأوروبية أصبحت الآن على قناعة بأن الاتفاق النووي أصبح من الماضي، ولهذا تعمل لندن وبرلين وباريس مع واشنطن على إعادة العقوبات الدولية على إيران في الفترة المقبلة، وهي العقوبات التي تم رفعها إلى مجلس الأمن بعد توقيع الاتفاق النووي، وخصوصا بعد أن أصبحت الدول الثلاث مقتنعة بأن إيران تخطط للخروج من الاتفاق النووي من خلال خطوات تخلصها من قيود اتفاق 5+1، خاصة عندما أعلنت تشغيل مفاعل فوردو، واستخدام أجهزة طرد مركزي من طراز IR6/IR9، ثم إعلانها عدم التقيد بأي سقف في نسب تخصيب اليورانيوم، وهو الأمر الذي أكد للأوروبيين أن إيران لها طموحات نووية، وكانت تخدع العالم منذ يوليو 2015.
الخلاصة أن إيران خسرت ثلاث دول أوروبية مهمة وقفت معها منذ يوليو 2015، وحتى قبل مقتل سليماني، وأصبحت هذه الدول تصطف مع الولايات المتحدة ضد الأجندة الإيرانية في المنطقة وهذا سيقود إلى مجموعة من المواقف المستقبلية المتوقعة منها:
1 – إعلان الدول الأوروبية الثلاث الخروج من الاتفاق النووي الإيراني.
2 – الذهاب إلى مجلس الأمن ومحاولة فرض عقوبات دولية على طهران.
3 – المزيد من العزلة الدولية على إيران مما يقلل من “مساحة المناورة”، التي اعتمدت عليها لسنوات، وساعدتها على الهروب والتنصل من مسؤوليتها عن الكثير من الجرائم والعمليات الإرهابية.
فكيف سيتعامل النظام الإيراني مع وضعه الحالي ومع المعطيات الداخلية والخارجية الجديدة؟ بالمزيد من الهروب إلى الأمام، أم اختيار أن تكون إيران دولة مسؤولة ضمن محيطها الإقليمي؟