بقلم: مشرق عباس
الشرق اليوم- لم يتوقف جدل اختيار رئيس حكومة بديل لإدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، حتى بعد تدخل المرجع الديني الأعلى علي السيستاني، الذي أشار في رسالة الجمعة إلى ضرورة الاستعداد للانتخابات المبكرة على يد حكومة “غير جدلية” تتمكن من العبور بالعراق من مرحلة الانغلاق السياسي الذي يمر به.
والحقيقة أن القوى السياسية والمليشيات المسلحة المتحالفة معها، تعتقد أن حكومة تتشكل خارج اعتبارات المحاصصة مدعومة بزخم الاحتجاجات العراقية، ستقود بالضرورة إلى تقويض إمكاناتها وتقليص فرصها في هندسة الانتخابات المقبلة على مقاسها، وتجريدها من بيئة الفوضى الأمنية والصراعات الطائفية والعرقية التي لا تستطيع العيش والازدهار من دونها.
إن حملات الاغتيال والاختطاف الممنهجة، التي مازالت مستمرة حتى اليوم بحق المتظاهرين والمتظاهرات، تمنح صورة واضحة لمستوى المخاوف التي يعيشها تحالف حكم العراق خلال السنوات الماضية بين قوى وشخصيات هرمة معبأة بالتزامات شخصية وأيديولوجية وطائفية من جهة وقوى مليشياوية شابة تحاول التسلق على أكتاف الكهول. كان يمكن لهذا التحالف أن ينفرط في أي لحظة بسبب إزاحة الأجيال الكبيرة وإحساس المسلحين الشباب بأن مقعد القيادة بات من حقهم، لولا أن التدخل الإيراني في الغالب، والتحدي الذي فرضته الاحتجاجات العراقية، جمعهم في منصة واحدة ليصروا على تمرير رئيس وزراء يتناسب مع معادلاتهم.
حاول البعض خلال الأيام الماضية أن يمنح قضية اختيار رئيس الحكومة العراقية في هذه المرحلة الحساسة بعدا إقليميا ودوليا، فافترض أن الصراع الإيراني ـ الأميركي هو من يتحكم بمسارات الاختيار. لكن الحقيقة لا تنسجم مع ذلك تماما، حتى مع قدوم زعيم فيلق القدس قاسم سليماني ونائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل إلى بغداد بالتزامن.
وربما يكون من المفاجئ لغير المطلعين القول إن القوى السياسية والمليشياوية التي تحاول الزج بالعراق إلى الخندق الإيراني عنوة، هي أكثر تطرفا في مواقفها حول رئيس الوزراء المقبل من إيران نفسها، ليس على طريقة “ملكيون أكثر من الملك” وإنما لأن هذه القوى شيدت بشكل مستقل حتى عن طهران، وعلى حساب الدولة العراقية وإمكاناتها، إمبراطوريات اقتصادية ونفذت إلى جوهر السلطة وما عاد بإمكانها التراجع طوعا.
في المقابل، فإن الموقف الأميركي لم يكن يوما بمعرض فرض رئيس وزراء بقدر ما كان مستعدا للتعاون لضمان المصالح الأميركية، بصرف النظر عن خلفية ومسارات الحكومة العراقية، وهذه من ضمن الانتقادات التي وجهت طوال السنوات الماضية إلى طبيعة تعاطي واشنطن مع الملف العراقي.
وحصر الاختيار بيد من يطلق عليهم في العراق “الجيران” و”الضيوف” مغالطة تهمل القوة الهائلة التي أطلقتها التظاهرات العراقية، والصمود الذي أقدمت عليه رغم تعرضها إلى عملية “إبادة جماعية” بالمعنى الحرفي للمصطلح، وهذه القوة التي تعد عاملا حاسما في الاختيار هي من أربكت الحسابات المختلفة لمختلف الأطراف ومن ضمنها واشنطن وطهران، وهي من فرضت نسقا مختلفا تماما للاختيار يصبح تجاوزه أشبه بالانتحار السياسي لمن يقدم عليه.
العامل الآخر في المعادلة، ينسجم تماما مع سياق الاحتجاج العراقي، وهو المرجع السيستاني، الذي يقرأ الأحداث العراقية بوعي تاريخي وليس سياسيا فقط، ويعامل التظاهرات باعتبارها محركا قابلا لإحداث التغيير، ولهذا يتناغم في طروحاته مع حركة الاحتجاج ابتداء من إجبار عادل عبد المهدي على الاستقالة وصولا إلى تفتيت تعنت القوى الحزبية في خياراتها.
وهذا التطور مؤهل للتصاعد مستقبلا ضمن رؤية مفادها أن السيستاني نجح في حماية التظاهرات العراقية من خطط القمع والاقتلاع على الطريقة الإيرانية، وأن التظاهرات الشعبية توفر حماية مقابلة للمرجعية ليس من تغول وتهديد القوى المسلحة الداخلية والخارجية بخلط الأوراق فقط، وإنما للحفاظ على البناء الروحي والعلاقة الوثيقة التي تجمعها مع الناس بعد محاولات الأحزاب الدينية المتصاعدة لشق تلك العلاقة.
والسيد السيستاني الذي يدرك أن ثقله الروحي العالمي يمثل آخر السدود للعراق أمام اجتياحات أنصار “ولاية الفقيه”، يدرك في المقابل أن أهل العراق عموما، وشيعته على وجه الخصوص، هم آخر المعاقل وأقواها لحماية فكر المرجعية التاريخي الذي يضع مسافة حماية بينها وبين السلطة.
ولا يمكن في هذا السياق حساب السيد مقتدى الصدر وهو المؤثر الفاعل في جوهر معادلات الاختيار على أي من المعسكرين الإيراني والأميركي، لكن جمهوره ممتد عميقا في حركة الاحتجاج، وإن هذا الامتداد لا يمكن أن يحتسب كولاء ديني فقط، بل كخيار وطني ينسجم تماما مع جوهر طروحات الصدر ومتبنياته.
وعلى أساس هذه المعادلات العميقة والمتناغمة فيما بينها، اندرجت القراءة الخاطئة للأحزاب التي أرسلت إلى رئيس الجمهورية برهم صالح مبعوثين يحملون ورقة مرشحهم مذيلة بتوقيع أبرز زعماء الكتل الشيعية والسنية، خارج السياق الجديد الذي حفرته الاحتجاجات العراقية وكل من قدم الدعم لها، ولهذا كانت ممانعة صالح لمرشح الأحزاب، تؤشر بدورها إلى قراءة واضحة لمستوى الأزمة وحجم الإشارات الخطيرة غير القابلة للتأويل التي تحملها تلك الورقة.
وفي المحصلة، فإن الحكومة الانتقالية المقبلة، لن تكون خيارا حزبيا، لكنها لن تكون أيضا خيارا شخصيا أو ثوريا، بل هي نتاج تفاعل واعٍ بين القوى الاجتماعية التي تماسكت وضحّت للوصول إلى هذه اللحظة المفصلية، من أجل تكريس المسار الذي أنتجه الاحتجاج العراقي البطولي، وهي خطوة أولى فقط على طريق لا ينتهي بانتخابات برلمانية على أسس عادلة، بل باستعادة العراق كدولة سيدة تمتلك قرارها وخياراتها وتضع أمن وازدهار شعبها في مقدمة أولوياتها.