بقلم: د. ماجد السامرائي
الشرق اليوم- تواصلت الحملة الإيرانية لسحق انتفاضة أكتوبر العراقية لما يشكله استمرارها من تقريب موعد نهاية النظام السياسي في بغداد، وكان قتل الشباب واختطافهم هو الخيار الوحيد الذي نفذته الميليشيات الموالية لطهران. كانت حصيلة الضحايا الموثقة التي أعلنت أخيراً 473 شهيداً ونحو 22 ألف جريح منهم نحو 3900 معاق ونحو 12 مخطوفاً غير معلوم المصير.
بعد مرور 75 يوماً على الانتفاضة هل استطاعت مؤامرة قاسم سليماني الانتصار على العراقيين؟ الجواب كلا، فقد تضاعفت شدة الاعتصامات وتعمقت شعاراتها حيث أصبح لها برنامج واضح المعالم لرسم مستقبل العراق بعد تخليصه من زمر القتل والفساد. ولهذا تصاعدت أساليب قمع الانتفاضة ما بين القتل المستمر والاختطافات ومحاولات اختراق جبهة المعتصمين خصوصاً في بغداد بعد فشل عمليتي الناصرية والنجف، وانحياز العشائر العربية في محافظات الجنوب إلى جانب أبنائهم المنتفضين، كما فشلت آخر حلقة من حلقات إثارة الفتنة داخل ساحات الاعتصام ببغداد بافتعال مسرحية قتل وتعليق جثة قاتل المتظاهرين لإعطاء انطباع يسيء إلى سمعة شباب الانتفاضة وسلميتهم.
لم يتوقف سليماني عن تنفيذ برنامجه الدموي وسط رعب وقلق يسيطران على أزلامه ببغداد بعد أن تصاعد الاستنكار العالمي من منظمات حقوق الإنسان، ثم إفصاح مجلس الأمن عن موقفه الذي تأخر كثيراً عن مطالبة الحكام في العراق بالتوقف عن تنفيذ مسلسل القمع الوحشي، إلى جانب الموقف الأميركي الذي يربط إدانته بالهيمنة الإيرانية على مقدرات العراق، رغم أن الأميركان هم الذين جاءوا بهذا النموذج المتخلف والرث من السياسيين إلى الحكم.
شعارات الانتفاضة وبرنامجها السياسي وصلت رسائلها إلى سلطة الحكم وإلى مدير شؤونها سليماني عبر البيانات المتواصلة، وتحققت منه الخطوة الأولى في إقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي وسط مطالبات شعبية بمحاكمته وطاقمه العسكري والأمني المسؤول على الضحايا من شباب العراق، مع الإصرار على تنفيذ حزمة الخطوات للتغيير الشامل.
من صفحات مؤامرة قاسم سليماني القيام بحملة إعلامية مكثفة تستهدف تشويه سمعة الانتفاضة وشبابها عبر فضائيات الأحزاب وجيوش الأحزاب والميليشيات الإلكترونية، ومن خلال بعض الشخصيات الهامشية التي لعبت لسنوات على تناقضات العملية السياسية ومأزقها الطائفي وتظاهر البعض من هذه الشخصيات بلباقة خطابية تعلموها من أوليائهم وتقمصوا دور المعارضة مستغلين الفراغ بعدم وجود معارضة علنية ضد الحكم بسبب القمع. لكن الوظيفة الحقيقية لتلك المعارضة المفضوحة هي المتاجرة الرخيصة، وهؤلاء لم ينفصلوا عن ولائهم العقائدي الإسلامي لطهران، ولم تكن ليبرالية حقيقية إلا في سياقات تلك التجارة، لكن بعض هؤلاء اضطروا أخيراً إلى إزاحة القناع عن وجوههم بعد وصول الصراع بين مشروعي استقلال العراق وتبعيته لإيران إلى درجة حاسمة. فنزل خطاب هؤلاء الهامشيين إلى استخدام اللغة التي ينتمون إليها، وهي اللغة الضحلة في التطاول على شباب العراق الثوار.
من ملامح هذه الحملة الغبية أيضاً استغلال مفصل تنظيمي يتعلق بعدم وجود قيادة تنظيمية للانتفاضة تدير فعالياتها الإعلامية والسياسية، ومن بينها مسألة الحوار مع الخصم السياسي المتمثل بقادة الأحزاب الحاكمة ومن يقف خلفهم. وقد يكون هذا النقص التنظيمي له مبرراته اللوجستية وحاجات أية ثورة تقارع أخطر مؤسسة للقمع والفساد في العصر الحديث ذاق منها شعب العراق من القتل والاختطاف والتدمير والتهجير ما تشيب له الرؤوس، ومن بين تلك الهواجس التوجس من عمليات الاختراق أو التصفيات الجسدية أو عمليات التسقيط السياسي وزرع الفتنة بين كوادر الانتفاضة. ويبدو أن عدم وجود قيادة علنية له محاسنه في إرباك الخصوم.
المأزق السياسي مستمر في عدم قدرة سليماني على إيجاد رئيس وزراء بديل لعبدالمهدي أمام إصرار الانتفاضة على ترشيح رئيس وزراء بالمواصفات الشعبية ولا دور للأحزاب في ترشيحه، لكن القضية في نظر سليماني ليست في الاختيار وإنما تكمن في خشيته من أن تحقيق مطالب الجماهير في اختيار رئيس الوزراء يمكن أن يؤدي إلى تساقط أحجار الدومينو في مطالب حل البرلمان والقانون الانتخابي وتعديل الدستور على طريق إزاحة الأحزاب، وهذا ما يؤرق النظام الإيراني.
الاستفزازات العسكرية الإيرانية للوجود العسكري الأميركي في العراق، المتواترة أخيرا، قوبلت بردود فعل شديدة من الإدارة الأميركية يفهم علي خامنئي أكثر من غيره مغزاها في علاقتها بالفوضى السياسية داخل العراق، واحتمالات التسريع في تفكيكه بعد اضطرار طهران إلى الانسحاب من العراق. ورغم العنتريات الإيرانية بسبب أكوام السلاح الإيراني بيد آلاف التابعين المساكين على الأرض العراقية والمرصودة من العيون الأميركية، إلا أن طهران تخشى الذهاب إلى الشوط الأخير في المواجهة العسكرية التي تنهي وجودها في العراق وسط ترحيب شعبي عراقي.
ليس من السهولة استسلام المنظومة التنفيذية للمشروع الإيراني في العراق، ولدى سليماني أوراق أخرى لمنع انتفاضة شعب العراق من تحقيق أهدافها، رغم أن غالبية أوراقه احترقت، ولذلك فإن المهمة الجديدة هي اللعب على شعارات الثورة، وقد يرضخ لتسمية رئيس وزراء بمواصفات الثوار ولكن اللعب الخبيث سيكون في بنود التغيير (مثل حل البرلمان وتشريع القانون الانتخابي والدستور) وهذا ما يتطلب من الشباب أن يفوتوا الفرصة عليه وعلى أعوانه.
ما يحصل في العراق اليوم هو اختزال لقرار الدم الذي اختاره النظام بعد خيار الفساد والنهب منذ عام 2003 إلى حد اليوم، ولهذا فإن اللحظة التاريخية انفتحت أمام الشعب، وساعة رحيل قاسم سليماني عن العراق لم تعد بعيدة، وسيبكي على ماضيه الإرهابي حين كان ينفذ مشروع تصفية الشباب وتهجير أهل الموصل وصلاح الدين وديالى والفلوجة وجرف الصخر من ديارهم، ويتنقل بين الروابي والوديان العراقية متباهيا ومتشفيا بشعب العراق، لكن جدّه كسرى سبق أن ودع مهزوماً قصره بمدينة المدائن شرق بغداد.