بقلم: د.ماجد السامرائي
الشرق اليوم– من يعتقدون، وهماً وتكابراً، أن السيناريو الذي تنفذه الواجهة السياسية للنظام ضد الشعب المنتفض قد نجح أو في طريقه للنجاح، هم في عالم آخر بعيد عن الواقع العراقي الجديد الذي صنعته انتفاضة شباب الأول من أكتوبر نتيجة تراكم الظلم والإفقار والإحاطة بسلاسل التخلف والهمجية الممزوجة بحب المال والتسلط السياسي.
فصول السيناريو ضد الشعب المنتفض ليست متقنة وتخلو من التجديد، وهي تكرار لذات السيناريوهات البائسة منذ عام 2005 ولحد الآن، خاصة بعد خروج القوات الأميركية من العراق عام 2011 وسيطرة القوى المسلحة الوكيلة للنظام الإيراني على مقدرات الأوضاع في العراق، وبعد أن تحولت مقاومة العراقيين المسلحة، خاصة في محافظة الأنبار ضد الاحتلال الأميركي، إلى جزر متقطعة من الاحتجاجات السياسية السلمية ضد الظلم والقسوة الطائفية، ثم انتقلت بعد عام 2013 إلى الساحة الأكثر إيلاما وهي الحاضنة الشيعية التي تاجر بها وربح بواسطتها السلطة أولئك السياسيين، لكنها سلطة ابتعدت عما كان يتوقعه أبناء الشعب كبديل عن سلطة الاستبداد والدكتاتورية.
سلطة خربت البلد وفككت روابطه التاريخية والاجتماعية والثقافية وانشغلت في نهب الثروات، وأوغلت في جعل العراقيين يصارعون الموت من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من أولويات الحياة وبلدهم من أغنى بلدان العالم في الثروات، لكن واقعه الحالي لا يقارن بأفقر بلد عربي في وقت تدخل ميزانيته شهريا مبالغ بمعدل 7 مليار شهريا من بيع النفط الرسمي، وبفساد مرّ.
إن ما حصل؛ هو رفض كامل لحكم الأحزاب الفاسدة، ولا تنفع أيّ حلول ترقيعية تخديرية، لأن حلقة التواصل التي كانت تعتمد عليها الأحزاب مع الجمهور الشيعي قد تحطمت بفعل سياسات تلك الأحزاب وليس أبناء الشعب، ولهذا لم تكن الأحزاب الشيعية تتوقع أن تحدث المفاجأة ويحصل التمرّد من داخل ما كانت تعتبره ساحتها الجماهيرية.
طوت الأيام مبررات الحرب على داعش وهم عصابات متناثرة دخلت المدن العربية السنية ولم تكن الحكومة بحاجة إلى الأسلحة الكبيرة كالطائرات والصواريخ والمدفعية التي تكلف الملايين، بل إلى صدور عراقية مؤمنة بالوطن قاتلت بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة من دون تمييز طائفي أو عرقي بمعاونة طائرات وصواريخ دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وانتصرت إرادة الشباب العراقي على إرادة الشر والتطرف، وهم أنفسهم الذين يتظاهرون اليوم ضد سلطة النظام القائم.
ومن حسن حظ الشعب وشبابه أن تخريجات الحكومة وأحزابها لسيناريو التظاهرات السلمية هي تكرار للإيقاع القديم الفاشل، بأن يحاط هذا السيناريو بحملة إعلامية شرسة من خلال القنوات الحزبية العراقية وغيرها من قبل بعض الوجوه الشيعية المكروهة وغير المقنعة للناس ومن بين المستفيدين من الوضع القائم ماديا، لكنهم مفضوحون بتخلفهم السياسي وتمسكهم بذات الإيقاع الطائفي الذي خسر تجربته البائسة في العراق. بعض هؤلاء يظهرون على الشاشات كخصوم للقوة الشبابية الجديدة التي أدخلت الذعر في نفوسهم تحت عناوين “المستشارين الأمنيين” في السلطة أو بعض أنصاف السياسيين الباحثين عن مواقع جديدة تدّر عليهم كميات أكثر من أموال النهب وأوصاف أكثر لمعانا من الوجاهة الممقوتة، يحاولون تحريف الحقائق وتجاهل رفض العراقيين للطبقة السياسية الحاكمة، ويعيدون نظرية “المؤامرة” بطريقة سترتد على الأحزاب ذاتها.
مثال على ذلك، خرج على الناس قبل أيام عبر قناة فضائية عراقية شخص اسمه أبوالفقار يدّعي أنه أحد المسؤولين عن تحقيقات مظاهرات الأول من أكتوبر، مدعيا بأن “سفارتين أجنبيتين وكذلك جماعات شيعية تسمى الصرخيين (أتباع المرجع الشيعي الصرخي) هم وراء المتظاهرين “. ولا ندري كيف استبق هذا المسؤول العبقري نتائج تحقيقات اللجنة الحكومية واتهم السفارتين المذكورتين، وإذا كان الأمر موثوقا فلماذا سكت رئيس الحكومة ولم يطلب استدعاء السفيرين من قبل وزارة الخارجية وتحميل بلديهما مسؤولية إراقة دماء الشهداء، في حين استبعد هذا المسؤول وغيره أي دور لإيران بما حصل من مجازر دموية، أم أن حكومة عادل عبدالمهدي ستتنصل عن تلك التصريحات وتعتبرها “شخصية” لحين خروج اللجنة بتوصياتها التي قد تنقل مصادر العنف المسلح إلى جهات “خارجية” مجهولة.
إن عنصر القوة في هذه الانتفاضة هو عدم خضوعها للتعليب السلطوي الخادم لمصالح الأحزاب ومن خلفها إيران، وكذلك عدم تبعيتها لجهات سياسية، وأن التظاهرات بعد فصلها عن احتفالية أربعينية الحسين كانت أكثر وضوحا في المطالب السياسية كسبب رئيس لكل الخراب الذي حصل بالبلد، رغم محاولات مقتدى الصدر ركوب موجة الانتفاضة وتنظيم تظاهرة كبيرة في كربلاء خلال الأربعينية، لكنها لم تتمكن من تغطية وهج الدعوة إلى تظاهرة الخامس والعشرين من هذا الشهر، والتي يبدو أن الأجهزة الأمنية ومن خلفها ذات القوى السرّية تستحضر إجراءات الردع مثل قطع الإنترنت لمنع تواصل الشباب المنتفضين فيما بينهم، لكن هناك معلومات مسرّبة على منصات التواصل الاجتماعي تشير بأن الشباب المنتفض وفروا بدائل إلكترونية للتواصل لمواجهة مثل تلك الإجراءات.
ولعل ما يعزز قيمة انتفاضة شباب العراق تزامنها مع انتفاضة الشعب اللبناني، الذي يواجه ذات الخصوم من زعامات الطائفية والفساد، والأهم أن انتفاضة اللبنانيين جاءت بسبب انجرار لبنان إلى الهاوية الاقتصادية والتبعية التامة للنظام الإيراني بعد هيمنة حزب الله على السلطة اللبنانية ودرعها الاقتصادي، رغم محاولات زعيمه التهرب من المسؤولية خلال خطبته يوم 19 أكتوبر. والملفت من خلال مراقبة أحاديث المتظاهرين من جنوبي لبنان والبقاع أنهم عبروا عن تمردهم على حزب الله، وهذا ما يؤكد أن الشيعة العرب في لبنان والعراق يواجهون المشروع الإيراني قبل توحدهم في مطالب الحياة الكريمة. مع أن نصر الله حاول حصر مطالب اللبنانيين بالجانب الخدمي. نصيحتنا لرئيس الحكومة عادل عبدالمهدي أن يتعامل مع شباب العراق في موعدهم في 25 من هذا الشهر بإيجابية تامة، وأن يعطي أوامره الفعلية بمنع أجهزته الرسمية، والأجهزة التي يعرفها، بعدم التورط بجريمة جديدة مثلما اقترفته في إطلاق الرصاص على صدور الشباب العراقي والتبجح باسطوانة “المندسّين”، حيث يساوي كل شاب شهيد منهم إيران كلها بما فيها.