بقلم: حميد سعيد
الشرق اليوم- اقترنت السلطة ذات الطابع السياسي في العراق، منذ الاحتلال الأميركي الذي انتهى إلى سيطرة إيرانية، بجميع رموز هذه السلطة ومتغيراتها، على صعيد التحالفات والأشخاص والعناوين، إذ لم تتجاوز المتغيرات ما ذكرته، أي التحالفات والأشخاص والعناوين؛ أقول اقترنت هذه السلطة، بسلطة أخرى ذات طابع ديني طائفي، وهذه السلطة تدعم السلطة السياسية، وقد تقودها وتوجهها وتعمل على تغطيتها في أوقات تقترب فيها من الانهيار.
فهما سلطة واحدة بعنوانين، وما يجمع بين عنواني هذه السلطة؛ السياسي والديني الطائفي، هو مشروع التجهيل، وإن كانت لكل منهما أدواته لتنفيذ هذا المشروع، فللأول مؤسساته الرسمية في الإعلام والتعليم والثقافة أيضا، وقد يسأل سائل، كيف تجمع بين التجهيل والثقافة، فأقول إن المؤسسات الثقافية، الحكومية منها وغير الحكومية، تعمل منذ الاحتلال الأميركي وبخاصة بعد السيطرة الإيرانية في أطروحاتها وبرامجها ونشاطاتها لخدمة مشروع التجهيل، وتتحالف معها السلطة الدينية الطائفية وتتبنى أهدافها وتدافع عنها، وتعمل بعض المؤسسات غير الحكومية التي تنشط تحت عناوين عامة، مثل النقابة أو الاتحاد أو الجمعية، على غسل جرائم وانحرافات سلطتي التجهيل، وبخاصة في المحافل الخارجية، ولقد استمعت في ندوة تلفزيونية تناولت الممارسات الدموية التي أقدمت عليها الميليشيات ضد المتظاهرين السلميين، إلى نقيب الصحافيين وهو يدافع عما اقترف من جرائم القتل، أكثر مما دافع عنها ممثل وزارة الداخلية، وأعطى من الوعود بالكف عنها أكثر مما أعطى رئيس الوزراء.
وللسلطة الثانية، السلطة الدينية الطائفية، أدواتها متمثلة في المنابر والطقوس، وإن صارت تمتلك وتدير من المؤسسات الإعلامية والتعليمية ما يوازي أو يفوق ما تمتلكه السلطة الأولى، وحين نرصد الواقع في عراق الاحتلال الأميركي والسيطرة الإيرانية، نجد أن الفروق بين السلطتين المذكورتين هامشية جدا، إنْ لم أقل إنهما سلطة واحدة بعنوانين مختلفين. وكل منهما بأدواتها الخاصة تغطي الثانية وتعمل على تسويغ انحرافاتها وجرائمها. بل إن أدوات قمعهما مشتركة، فحين تتعرض أيّ سلطة من السلطتين، للنقد الجاد والكاشف للرفض الفكري أو العملي، تتحرك أدوات القمع لإسكات المعترضين والداعين إلى التغيير، بأعلى طاقاتها وأكثر أدواتها عنفا ودموية، كما أن الفساد، سواء على صعيد السلوك الاجتماعي أم الإداري والمالي مشترك هو الآخر بينهما، وباعترافات مموهة تصدر عن بعض رموزهما.
وصل الفساد في العراق وبكل ممارساته حدّا جعل منه بلدا من أكثر البلدان فسادا في العالم، ولم يعرف المراقبون والمؤرخون حالة فساد شامل كما هي عليه في العراق الآن، في أي زمان وفي أي مكان، وتصدر الاعترافات التي وصفتها بالتمويه، سواء من بعض ممثلي السلطة السياسية أم من ممثلي السلطة الدينية الطائفية، مع أن من يتحدثون عن الفساد هم من كبار الفاسدين أو المستفيدين من هذا الفساد المالي والاجتماعي والإداري ومن المستثمرين فيه، وقد يكون أحدهم لا يمارس الفساد مباشرة بل بالواسطة، من خلال الأبناء والأقارب والأعوان والوكلاء، وممارسة الفساد وإدانته في الوقت ذاته، يشترك فيها المسؤولون الحكوميون والقادة الحزبيون والكثير من رجال الدين والمستثمرون في النشاط الإعلامي والتعليمي والبرلمانيون، وهم في هذه الممارسة، أي إدانة الفساد والحديث عنه، هم من أعتى رموزه ما يجعلهم في موضع الاستنكار والسخرية من قبل المواطنين ويواجهون بالإدانة العلنية في القول والكتابة.
إن جملة الانحرافات التي تغمر العراق على جميع الصعد، هي بعض مخرجات الاحتلال، وما أكثرها، حيث تجد من يوظفها لمصالحه داخليا وإقليميا، فنظام الملالي الفاسد في إيران وبجميع انحرافاته، أفاد من هذه الانحرافات وعمل، وما زال، على أن يجعل من العراق تابعا ذليلا لمصالحه وسياساته ومشروعه التوسعي ومقولاته التخريبية.
إن مشروع التجهيل الذي عملت على تكريسه وتحقيق أهدافه وتنشيط أدواته في التخريب الاجتماعي والثقافي، قوى جاء بها الاحتلال، وهي بهذا الشكل أو ذاك من أدوات نظام الملالي ومخططه التخريبي في العراق، يستهدف الأجيال الشابة التي نشأت في ظل نظام فاسد وجهول، لتكون هذه الأجيال بعيدة عن ثقافتها الوطنية وتوجهاتها التحررية التنويرية وعن فضائها القومي والتزاماتها الدينية الرصينة، لذا فقد واصل معمّمون فاسدون وجهلاء وهم من الكثرة مما يلفت النظر، نشاطهم التخريبي ليس من خلال المنابر والمساجد فحسب، بل من خلال شاشات التلفزيون وأثير الإذاعات، بنشر روايات تجافي الحد الأدنى من العقل والمنطق ولا تتوفر على أي شرط من شروط الرواية التاريخية أو الدينية، بل تناقض معظم هذه الشروط، ومنها شرط النقد التاريخي والعقلي، ومعظم هذه الروايات تنتسب إلى الحكاية الساذجة أكثر من انتسابها إلى الرواية بشروطها المعروفة، وهذه الحكايات تهدف إلى الاستهانة بالعقل، وتكريس انفصاله عن الحقيقة، كما تهدف إلى إثارة خلافات وانشقاقات ليست بين الأديان أو الطوائف، بل وأيضا داخل الطائفة الواحدة والأسرة الواحدة.
وقد تفاقمت هذه الممارسة وتفاقمت نتائجها، سلبا وإيجابا، لكنها ظلت تستقبل من قبل السلطتين السياسية والدينية الطائفية بالتغاضي، فلم تناقش هذه الحكايات ولم تحدد أيّ اشتراطات ومقومات لمطلقيها، حتى ليذهب بكثيرين الظن كونها مصممة على صعيد الأهداف.
واقترن هذا التوجه التجهيلي، بما يؤكده على صعيد الممارسات الطقوسية، إذ ظهرت ممارسات في بعض المناسبات ذات طابع ديني، يعف اللسان عن وصفها، ومنها ما هو أكثر وثنية وانحطاطا وإساءة لكرامة الإنسان، من طقوس الوثنيين، وكانت هي الأخرى تستقبل بالرضا والتشجيع.
كما شهد التعليم منذ سنة 2003 وفي جميع مراحله، تخريبا منظما وتحوّل في أحيان كثيرة إلى تجهيل ولم يعد تعليما، كما اختزلت فرص العمل، جميع فرص العمل، حتى لا يجد الشاب سوى فرصة الانخراط في الميليشيات المرتبطة بإيران، وهذا ما استمعنا إليه من شباب عاطلين عبر شاشات التلفزيون وفي مدن مثل بغداد والبصرة والنجف وكربلاء والناصرية وغيرها.
غير أن وعي قطاع واسع من الشباب العراقي، كشف أهداف مشروع التجهيل من خلال جهد فكري وعملي، ولم يتوقف هذا الجهد منذ الاحتلال حتى يومنا هذا، وقد جابهته السلطة من واجهتيها السياسية والدينية الطائفية بممارسات عدوانية شرسة، منها كيل الاتهامات الباطلة والعزل والحرمان والتجويع والتغييب القسري والاعتقال والتعذيب والاغتيال.
لكن نشاطات مناهضة مشروع التجهيل استمرت ولم تتوقف، بل تصاعدت في الحجم والحيوية والتأثير وكانت ذروة فعلها، انتفاضة العراقيين الراهنة، هذه الانتفاضة التي قادها وقدم أعظم التضحيات فيها، جيل الشباب الذي استهدفه مشروع التجهيل، وكانت انطلاقة هذه الانتفاضة إعلانا عن سقوط مشروع التجهيل، مهما كانت مآلات هذه الانتفاضة، فقد أنهت الوجود الفعلي للسلطتين السياسية والدينية الطائفية بكل امتداداتهما وتمثلاتهما في الأشخاص والمؤسسات والإجراءات، حتى لو استمر حضوره، فهو ليس أكثر من حضور شكلي، معزول ومدان، وهو أقرب إلى الذين يتنفسون اصطناعيا، فهم موتى، لم يعلن عن موتهم بعد.