بقلم: د. باهرة الشيخلي
الشرق اليوم- كان الحدث العراقي في الأول من أكتوبر الحالي ثورة، لأن الثورة تعني التغيير، وقد غيّر ذلك الحدث، الذي قاده جيل ما بعد الاحتلال، الكثير في بنية المجتمع العراقي، وأول تغيير وأخطره كان سقوط وهم القداسة عن رجال الدين، خصوصا الشيعة، وافتضحت ألاعيبهم، وعلى وجه التحديد، السيستاني ومقتدى الصدر ثم الخميني والخامنئي، الذين تجرأت الجماهير الشيعية، لأول مرة، على ضرب صورهم وإحراقها على رؤوس الإشهاد.
أزال التغيير احترام بعض الرؤساء العشائريين، الذين خرج الشباب عن طوق طاعتهم والتحقوا بالثورة، ولذلك فإن الإجراء، الذي اتخذته رئاسة مجلس الوزراء باستدعاء شيوخ عشائر من الفرات الأوسط والجنوب ومنح كل واحد منهم خمسة ملايين دينار عراقي (نحو 4200 دولار أميركي)، مقابل منع أبناء عشائرهم من المشاركة في التظاهرات العامة في 25 من الشهر الحالي، لا يبدو مجديا أبدا، فالشباب من الجيل الجديد كفر بالزعامات الدينية والعشائرية، التي أصبحت ضد طموحاته وتطلعاته في وطن سيد مستقل لا يخضع لإرادات أجنبية.
لذلك لم يكن هدف هذه الثورة الشبابية، التي راح ضحيتها الآلاف من المتظاهرين قتلى وجرحى، التصدي للفساد والفاسدين فقط، فالثأر للكرامة الوطنية، التي استباحتها إيران هدف وقف في المقدمة.
إن الهتاف المركزي، الذي ستصدح بها تظاهرات الجمعة، الـ25 من هذا الشهر “إيران بره بره بغداد تبقي حرة”، بمعنى يا إيران اتركي العراق واخرجي فبغداد ستبقى حرة، وسيسبق هذه التظاهرات إضراب عام للهيئات التعليمية والتدريسية والطلبة، فالعراقيون يذكرون بسخط تصريحات السفير الإيراني في بغداد إيرج مسجدي في مقابلة مع قناة “دجلة” العراقية، البعيدة عن أي لياقة دبلوماسية، والتي هدد فيها بأن “إيران وفي حال تعرضها لاعتداء عسكري من الولايات المتحدة، سترد بقوة وستقصف التواجد الأميركي في العراق أو أي مكان آخر”، مشددا على ضرورة إخراج القوات الأميركية من العراق ومن جميع دول المنطقة.
وقوله إن “الاميركيين يتدخلون في شؤون المنطقة وفي شؤون العراق، وعلى الأميركان ان يتوقعوا الرد إذا تسببوا بأي مشكلة لإيران”، مبينا أن “إخراج الأميركان من العراق أو من أي نقطة أخرى بالمنطقة أمر ضروري، فوجودهم يسبب التصعيد وعدم الأمان في المنطقة”.
إن مسجدي يتصرف وكأنه الحاكم بأمره في بلاد الرافدين.. هكذا نصبت أحزاب ولاية الفقيه سفير طهران مسؤولا أوحد لإدارة شؤون العراق، وما يعمل عليه مستوطنو الخضراء، بتمكين الجمهورية الإيرانية من التحكم في حاضر البلاد ومستقبلها؛ يصادر الدستور ويجعله نسيا منسيا ويتخطى الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية فقد توجت أحزاب الدعوة ومجلس الحكيم وعصابة بدر وميليشيات الحشد الشعبي إيرج مسجدي سلطانا للتحكم في البلاد والعباد، وأصبحت حاضرة الرافدين مرتهنة بقرارات السفير الإيراني، ووضعت بين قوسي ولاية الفقيه “المرجعية الدينية في النجف” و”المرجعية السياسية في سفارة مسجدي”.
لم يمرّ العراق طوال تاريخه الحديث بظرف تحكمت فيه إيران بشؤونه، كما حدث ويحدث في السنوات الست عشرة الماضية، ففي أضعف حالاتها، كانت الحكومات العراقية السابقة تنتفض للكرامة الوطنية في وجه إيران وسواها.
والواقع، وكما يقول الدبلوماسيون، إن ما أطلقه سفير إيران في العراق الضابط في الحرس الثوري إيرج مسجدي من تهديد للعراق ينتهك انتهاكا صارخا القانون الدولي فضلا عن واجباته ومهامه بصفته سفيرا لبلده معتمدا في دولة أخرى، وبهذا فإن تهديد مسجدي بالاعتداء على حرمة الأراضي العراقية ينتهك إحدى القواعد الآمرة في القانون الدولي (Jus Cogens) التي قبلها المجتمع الدولي وتتمثل هذه القاعدة في مبدأ امتناع الدول عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها في العلاقات الدولية، أي ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة، وهو ما نصت عليه الفقرة 4 من المادة 2 من الفصل الأول من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وأعيد تأكيدها في العديد من الصكوك القانونية الدولية، ومن أبرزها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 22/42 بتاريخ 18 ديسمبر 1987، الذي تضمن تحديدا مفصلا لجميع الحالات ذات الصلة، التي تحرم الإعلان والتذرع بأي ذريعة لتوجيه التهديد إلى دولة أخرى (الفقرة العاملة 3 من أولا) وينص على ما يلي “لا يجوز التذرع بأي اعتبار، أيا كانت طبيعته، لتسويغ اللجوء إلى التهديد باستعمال القوة أو إلى استعمالها خرقا للميثاق”.
تنتهك تصريحات مسجدي، جوهر عمله بصفته سفيرا مهمته الأولى تحسين العلاقات بين بلده والبلد المعتمد لديه، فهي تخالف الطبيعة الأساس لعمله الدبلوماسي، الذي يقوم على استخدام أسلوب عالي التهذيب واللباقة وخال من أي حدة أو توتر أو انفعال قد يزعج حكومة البلد المعتمد لديه وأهله مما يفشل مهمته عاجلا وليس آجلا.
إن تصريحات مسجدي المستهترة أكدت بما لا لبس فيه تبعية الحكومة العراقية لإيران، وعدم الوقوف في وجهها، كما وقفت الحكومة العراقية في ثمانينات القرن الماضي وحاربت إيران وكسرتها بعد ثماني سنوات من حرب ضروس. لكن المتظاهرين العراقيين سيبقون ملتزمين بسلميتهم في الـ25 من هذا الشهر برغم علمهم أن هذه السلمية لن تمنع حكومة بغداد من الردّ عليهم بالسلاح، حتى الثقيل منه.