بقلم: علي قاسم – كاتب سوري مقيم في تونس
الشرق اليوم- في انتخابات رئاسية، لن ينساها التاريخ، فاجأ أستاذ القانون الدستوري المتقاعد قيس سعيّد، الجميع، ليدخل قصر قرطاج، بعد أن منحه التونسيون انتصارا باهرا وأمنوه على مصيرهم. وكان قد تم اختياره في الجولة الأولى من بين 26 مرشحا للرئاسة، وعاد أنصاره لتثبيته في الدور الثاني. ووفقا لنتائج الاستطلاع نال سعيّد 76.9% من الأصوات، متقدما بفارق كبير على منافسه رجل الأعمال نبيل القروي.
ويفسر مراقبون هزيمة 25 مرشحا دخلوا السباق الرئاسي إلى جانبه، بينهم رؤساء حكومات ووزراء ورئيس دولة سابق، بردّ فعل التونسيين تجاه حكومات متعاقبة لم تتمكن من إيجاد حلول للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم، الذي شهدته تونس وأفرز احتقانا اجتماعيا تزايدت حدته بعد ثمانية أعوام من الثورة التي بدأت مسار الديمقراطية وبدأت ما سمي بـ”الربيع العربي”.
يقال إن المرشح الفائز قيس سعيّد لم ينفق أموالا تذكر على حملته الانتخابية، ويرى أنصاره فيه، وأكثرهم من بين الشباب، رجلا متواضعا يتحلى بالمبادئ، بينما ينتقد معارضوه آراءه الاجتماعية التي يصفونها بالمتحفظة ويستدلّون على ذلك بدعم حزب النهضة الإسلامي له.
اتسمت الحملة الانتخابية بالتشويق في أيامها الأخيرة، خصوصا بعد قرار قضائي بإطلاق سراح نبيل القروي، الذي أمضى 48 يوما في التوقيف، بسبب تهم تلاحقه بغسل أموال وتهرب ضريبي.
ويبدو أن المناظرة التلفزيونية التي أجريت ليل الجمعة، وجمعت بين سعيّد والقروي، كانت عنصر الحسم في اختيار الناخبين أستاذ القانون الذي بدا متمكنا من السجال، وأظهر معرفة دقيقة بالجوانب التي تهم صلاحياته. في المقابل بدا القروي مترددا ومركزا على مسائل مكافحة الفقر في المناطق الداخلية وتطوير الاستثمار الرقمي في البلاد.
ولقيت المناظرة التي بثت على نطاق واسع في المحطات التلفزيونية والإذاعية الخاصة والحكومية، والتي اعتبرت استثناء في العالم العربي، اهتمام التونسيين الذين تابعوها داخل بيوتهم وفي المقاهي وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم أن صلاحيات الرئيس في تونس محدودة، مقارنة بالصلاحيات التي تمنح لرئيس الحكومة والبرلمان، حيث أسندت إليه وفق الدستور ثلاثة ملفات هي الخارجية والأمن القومي والدفاع، فإن رئيس تونس القادم يطمح إلى تدعيم السلطة اللامركزية وتوزيعها على الجهات، ويؤكد أنه لا يمتلك برنامجا انتخابيا بالمعنى التقليدي، يسوق الأوهام والأحلام.
ويرفع سعيد لواء “الشعب يريد” ويتبنى شعارات الثورة التونسية في 2011 “شغل حرية كرامة وطنية”، مشددا على “كره الوعود الزائفة”، معتبرا أن “الشعب هو من يتصور الأفكار وهو من يطبقها” للخروج من الأزمات الاقتصادية.
وكانت الوعود الانتخابية، القشة التي أنهت حلم البراغماتي، نبيل القروي، بعد سنوات قضاها في زيارات للمناطق الداخلية يوزع مساعدات غذائية للمحتاجين والفقراء، واعدا الطبقات الاجتماعية المهمشة بإيجاد حل لجميع مشكلاتها.
ولكن، أليست الإصلاحات التي يدعو إليها سعيّد تدخل في باب الوعود التي يصعب تحققها، خاصة في برلمان مشتت يصعب في ظله كسب تأييد الغالبية لإصلاح تعلو فيه سلطة القضاء فوق جميع السلطات.
“الشعب يريد”، شعار يحمل مئة وعد ووعد.. ماذا يريد الشعب؟ قائمة لا تنتهي من المطالب، الشعب يريد فرص عمل، يريد تحسين القدرة الشرائية، يريد خدمات صحية، يريد بنية تحتية قوية، ولتحقيق ذلك هناك قائمة أطول مما يجب عمله.
أول سؤال سيكون على الرئيس السابع لتونس مواجهته هو مع من سيشكل الحكومة المقبلة؟ خاصة بعد أن أكد أنه “مستقل عن الجميع”، وذكر منتقديه، الذين يتهمونه بأنه يلقى دعما من حركة النهضة ومن جماعات سلفية، بمزاعم مماثلة عن دعم اليسار له.
وكانت “النهضة” قد دعت قواعدها إلى التصويت لسعيّد، بعد أن أعلن القروي رفضه التحالف معها.
ويخشى التونسيون من صعوبات ستواجه “النهضة”، التي فازت بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية بـ52 مقعدا، في تشكيل حكومة تتطلب موافقة 109 نواب.
التونسيون حسموا أمرهم وقالوا “لا” للأحزاب السياسية، ولكن أمر الحكم لم يحسم بعد، لا بد من إذعان رجال السياسة، ومن بينهم قيس سعيّد بعد أن أصبح رئيسا للبلاد، للأمر الواقع الذي يحتم عليهم البحث عن توافقات وتحالفات يخشى المراقبون معها استمرار الحالة التونسية، التي كان من أبرز صفاتها السياحة البرلمانية والتنصل من تحمل مسؤولية الفشل والأخطاء.
ويقدم الرئيس المنتخب حلا لمسألة التوازنات السياسية في البرلمان، هو المسؤولية الجماعية، فالرافضون لما يقدمه من تصورات وأفكار “سيتحملون مسؤولياتهم السياسية”.
تونس اصطفت، بنسائها ورجالها، خلف قيس سعيّد، الجميع يتمنى له النجاح في مهمته الصعبة، لأن في ذلك نجاحا، ليس فقط لتونس، بل لدول المنطقة. ومهما حدث، سيتذكر العالم صورة تم تداولها على نطاق واسع، جمعت بين القروي وسعيّد، يتصافحان، وكتب أحدهم معلقا عليها “هكذا هي تونس” الاستثناء بين دول الربيع العربي.. مبروك لتونس انتصار الديمقراطية.