بقلم: بهاء العوام
الشرق اليوم- منذ أن خرجت التظاهرات الشعبية الأخيرة في العراق، تسابقت الأقلام والأصوات لتحليلها ومعرفة أسبابها. ومع كل رأي وقراءة يُحاكم المتظاهرون ويصنفون وفقا للمحرض أو المستهدف. ليسمى الحراك ثورة ضد إيران أو ضد الولايات المتحدة أو ضد الفساد أو الطائفية أو أي شيء آخر.
تصنيف ثورة كالّتي تحدث في العراق هو بحد ذاته محاولة لاحتوائها ووأدها، ذلك لأن التصنيف يجعلها حكرا على فئة دون الأخرى ويفرغها من عنوانها الوطني الذي يتجاوز وكلاء طهران وواشنطن في البلاد، ويفوق أيضا مشكلة واحدة مهما بلغ حجمها، مثل الفساد والطائفية.
العراقيون ثاروا على عقود من الضياع عاشتها البلاد منذ تسعينات القرن الماضي، ثاروا على أنفسهم لأنهم جميعا ساهموا بما وصل إليه العراق. بعضهم ساهم بصمته ومجاراته للأخطاء، والبعض الآخر ساعد بتبعيته وعمالته، سواء كان لإيران أو الولايات المتحدة أو لجهات داخلية متطرفة.
لقد بعثت في العراقيين أرواحا “فرانكشتانية” عادت لتنتقم من هؤلاء الذين استنزفوا البشر والحجر في البلاد
من يريد تسمية الثورة في العراق هو من يريد إخمادها. فعندما تكتسي الثورة تصنيفا وتوجها تفقد شعبيتها، وعندما تفقد شعبيتها تنتهي عفويتها وتخرج من بين صفوفها مجموعة من الأشخاص، يتحولون إلى “قادة” للحراك وتتلقفهم الطبقة السياسية، للتفاوض معهم حول مطالب الثورة.
الحديث عن مطالب مشتركة لعشرات الآلاف من البشر يتظاهرون في الشوارع هو محض ادعاء وافتراء، المشترك الوحيد بين هؤلاء هو الوطن الضائع. ولا يعود وطن ضائع بعشرات الوحدات السكنية أو مجموعة من الوظائف، أو حفنة دولارات تسد رمق العاطلين عن العمل وتوفر لهم الخبز.
لم يخرج العراقيون من أجل هذه المكرمات من ساسة البلاد وقادتها الفاسدين. لم يواجهوا الموت من أجل هِبات أولئك الذين يبيعون ويشترون بالعراق كل يوم. لم يُلبسوا أمهاتهم وعائلاتهم الحداد من أجل أن يشبع أولادهم الآن، وتجوع أجيال وأجيال لعقود طويلة كما حدث بعد عام 2003.
ملّ العراقيون الوعود وسئموا المبررات. أدركوا أن السياسيين وقبلهم رجال الدين يستغلونهم أبشع استغلال. أيقنوا أنهم تنازلوا عن كل ما يستحق في حياتهم لأجل من لا يستحق. بسبب قادتهم تأخروا في التعليم والاقتصاد والحضارة، وتحولوا إلى دولة من دون سيادة وشعب من دون حياة.
لسان حال العراقيين الثائرين يسأل سؤالا واحدا فقط. لأجل مَنْ ولأجل ماذا كل ما حل بنا؟ ماذا يجب أن ننتظر بعد أن وصل بنا الحال إلى هنا؟ لماذا نصبر على أولياء أمورنا المارقين، وكل الشعوب من حولنا تثور على أنظمتها التي أفسدت أقل مما فعل حكام العراق الذين جاؤوا بعد صدام حسين.
على مدار السنوات العشر الأخيرة شاهد العراقيون ثورات الربيع العربي حولهم بكل خيباتها ونجاحاتها. كانوا يتحسرون على حالهم وهم أول من عرف التخلص من المستبد، ولكنهم استبدلوه بمستبدين كثيرين بحجة الطائفة والدين. وهم أول من عرف الحرية ولكنهم لم يعيشوها أبدا.
ما يقوم به العراقيون اليوم هو ثورة لاسترداد بلادهم من الجميع. يستردونها من المحتلين والمرتزقة والفاسدين والإرهابيين والعملاء. يريدون تلك الدولة التي كانت على زمن صدام دون صدام أو أي طاغية آخر. هل هي معادلة مستحيلة؟ هل يستحيل على العراق أن يكون عراقا إلا بطاغية؟
العراقيون ثاروا على عقود من الضياع عاشتها البلاد منذ تسعينات القرن الماضي، ثاروا على أنفسهم لأنهم جميعا ساهموا بما وصل إليه العراق
قبل أيام قليلة فقط من التظاهرات، أقيل رئيس جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي. مجرد متابعة ردود الفعل الشعبية على هذه الإقالة، تجعلك تدرك أن الوطنية لم تمت داخل العراقيين، حتى أنها لا تزال في صدارة انتماءاتهم رغم كل ما فعله قادتهم لترسيخ الطائفية بينهم.
لا يهم إن كانت إقالة الساعدي هي الشرارة التي فجرت الثورة العراقية كما يعتقد البعض. ولا يهم أيضا إن أخمدت هذه الثورة بعد أيام بالقوة أو بالحيلة أو بالتنازلات السياسية من الطبقة الحاكمة. المهم فقط أن العراقيين عادوا بثورتهم هذه إلى اعتبارات الساسة وزعماء الدين في جميع قراراتهم وسياساتهم.
لن يجرأ أي سياسي أو مرجعية دينية في البلاد أن يتجاهل العراقيين أو يستخف بهم بعد اليوم. لم يعد يكترث العراقيون لأحد أو لشيء سوى بلادهم، وإن استطاعت الطغمة الحاكمة هذه المرة احتواء الاحتجاجات، فإنهم قد كسبوا معركة في حرب لا يوجد لها إلا نهاية واحدة مهما طال الزمن، البقاء للشعب.
لقد بعثت في العراقيين أرواحا “فرانكشتانية” عادت لتنتقم من هؤلاء الذين استنزفوا البشر والحجر في البلاد. هذه الأرواح لا تحتاج إلى أسماء ولا تُفسر بنظريات أو عبر محللين وخبراء. من يبحث عن تسمية أو تصنيف للثورة العراقية الآن، يستعجل موتها ويقيم لها محاكم تعسفية لا تفرق بين الانتماء والتبعية.